من الفوائد لابن القيم رحمه الله تعالى
قال تعالى:{ وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين}الأنعام 55, وقال:{ ومن يشاقق الله والرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى} النساء115. والله نعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين مفصّلة, وسبيل المجرمين مفصّلة, وعاقبة هؤلاء مفصّلة, وأعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء وأولياء هؤلاء, وأولياء هؤلاء وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء, والأسباب التي وفق بها هؤلاء, والأسباب التي خذل بها هؤلاء, وجلا سبحانه الامرين في كتابه وكشفهما وأوضحهما, وبيّنهما غاية البيان, حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الأبصار للضياء والظلام.
فالعالمون بالله وكتاب ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية, وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية, فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل الى مقصوده, والطريق الموصل الى الهلكة. فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم, وهم الأدلاء الهداة, وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم الى يوم القيامة.
فانهم نشأوا في سبيل الضلال والكفر والشرك والسبل الموصلة الى الهلاك وعرفوها مفصّلة, ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات الى سبيل الهدى, وصراط الله المستقيم, فخرجوا من الظلمة الشديدة الى النور التم, ومن الشرك الى التوحيد, ومن الجهل الى العلم, ومن الغي الى الرشاد, ومن الظلم الى العدل, ومن الحيرة والعمي الى الهدى والبصائر, فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به, ومقدار ما كانوا فيه. فان الضد يظهر حسنة الضد, وانما تتبين الأشياء بأضدادها. فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا اليه, ونفرا وبغضا لما انتقلوا عنه, وكانوا أحب الناس للتوحيد والايمان والاسلام وأبغض الناس لضده, عالمين بالسبيل على التفصيل.
وأما من جاء من بعد الصحابة, فمنهم من نشأ في الاسلام غير عالم تفصيل ضده, فالتبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين, فان اللبس انما يقع اذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما كما قال عمر بن الخطاب :" انما تنتقض عرى الاسلام عروة عروة اذا نشأ في الاسلام من لا يعرف الجاهلية" وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه, فانه اذا لم يعرف الجاهلية وحكمها وهو كل ما خالف ما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم فانه من تاجاهلية, فانها منسوبة الى الجهل, وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل.
فمن لم يعرف سبيل المجرمين, ولم تستبن له, أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين, كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل, أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين, ودعا اليها, وكفّر من خالفها, واستحل منه ما حرمه الله ورسوله, كما وقع لأكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية ولخوارج والروافض وأشياههم, ممن ابتدع بدعة, ودعا اليها, وكفّر من خالفها.
والناس في هذا الموقع أربع فرق:
الفرقة الأولى: من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علما وعملا, وهؤلاء أعلم الخلق.
الفرقة الثانية: من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام, وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضر, ولها أسلك.
الفرقة الثالثة: من صرف عنايته الى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة, وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل وان لم يتصوره على التفصيل, بل اذا سمع شيئا مما خالف سبيل المؤمنين صرف عنه سمعه, ولم يشغل نفسه بفهمه, ومعرفة وجه بطلانه, وهو بمنزلة من سلمت نفسه من ارادت الشهوات فلم تخطر بقلبه ولم تدعه اليها نفسه, بخلاف الفرقة الأولى, فانهم يعرفونها وتميل اليها نفوسهم ويجاهدونها على تركها لله.
وقد كتبوا الى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسألة أيهما أفضل: رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله, أو رجل نازعته اليها نفسه فتركها لله؟ فكتب عمر: ان الذي تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله عز وجل من: { الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم}, ذكره ابن كثير في التفسير 4\207 وعزّاه للامام أحمد في كتاب الزهد واسناده منقطع لأن مجاهد بن جبر لم يسمعه عن عمر بن الخطاب.
وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه فأبغضها لله, وحذرها وحذّر منها, ودفعها عن نفسه, ولم يدعها تخدش وجه ايمانه, ولا تورثه شبهة ولا شكا, بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له, وكراهة لها ونفرة عنها, أفضل ممن لا تخطر بباله ولا تمر بقلبه. فانه كلما مرت بقلبه وتصورت له ازداد محبة للحق ومعرفة بقدره وسرورا به, فيقوى ايمانه بها. كما أن صاحب خواطر الشهوات والمعاصي كلما مرت به فرغب عنها الى ضدها وازداد محبة لضدها ورغبة فيه, وطلبا له وحرصا عليه, فما ابتلى الله سبحانه عبده المؤمن بمحبة الشهوات والمعاصي وميل نفسه اليها الا ليسوقه بها الى محبة ما هو أفضل منها, وخير له وأنفع وأدوم, وليجاهد نفسه على تركها له سبحانه, فتورثه تلك المجاهدة الوصول الى المحبوب الأعلى. فكلما نازعته نفسه الى تلك الشهوات واشتدت ارادته لها وشوقه اليها: صرف ذلك الشوق والمحبة والارادة الى النوع العالي الدائم, فكان طلبه له أشد وحرصه عليه أتم, بخلاف النفس الباردة الخالية من ذلك, فانها وان كانت طالبة للأعلى لكن بين الطلبين فرق عظيم. ألا ترى أن من مشى الى محبوبه على الجمر والشوك أعظم ممن مشى اليه راكبا على النجائب! فليس من آثر محبوبه على منازعه مع نفسه كمن آثره مع عدم منازعتها الى غيره, فهو سبحانه يبتلي عبده بالشهوات, اما حجابا له عنه, أو حاجبا له يوصله الى رضاه وقربه وكرامته.
الفرقة الرابعة: فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة وسبيل المؤمنين مجملة, وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع, فعرفها على التفصيل ولم يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك, بل عرفه معرفة مجملة وان تفصلت له بعض الأشياء. ومن تأمل كتبهم رأى ذلك عيانا. وكذلك من كان عارفا بطريق الشر والظلم والفساد على التفصيل سالكا لها, اذا تاب ورجع عنها الى سبيل الأبرار يكون علمه بها مجملا غير عارف بها على التفصيل معرفة من أفنى عمره في تصرفها وسلوكها.
والمقصود أن الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتتجنب وتبغض, كما يجب أن تعرف سبيل أوليائه لتحب وتسلك. وفي هذه المعرفة من الفوائد والأسرار ما لا يعلمه الا الله من معرفة عموم ربوبيته سبحانه وحكمته وكمال أسمائه وصفاته وتعلقها بمتعلقاتها واقتفائها لآثارها وموجباتها. وذلك من أعظم الدلالة على ربوبيته وملكه والهيته وحبه وبغضه وثوابه وعقابه, والله أعلم.
أرباب الحوائج على باب الملك يسألون قضاء حوائجهم, وأولياؤه تامحبون له الذين هو همهم ومرادهم جلساؤه وخواصه, فاذا أراد قضاء حاجة واحد من أولئك أذن لبعض جلسائه وخاصته أن يشفع فيه رحمة له وكرامة للشافع, وسائر الناس مطرودون عن الباب مضروبون بسياط البعد.