الفوائد لابن القيم ىرحمه الله
الرغبة في الآخرة تقتضي الزهد بالدنيا
لا تتم الرغبة في الآخرة الا بالزهد في الدنيا, ولا يستقيم الزهد في الدنيا الا بعد نظرين صحيحين:
النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخسّتها, وألم المزاحمة عليها والحرص عليها, وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد, وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف, فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها, وهم في حال الظفر بها, وغم وحزن بعد فواتها. فهذا أحد النظرين.
(النظر الثاني) في الآخرة واقبالها ومجيئها ولا بد, ودوامها وبقائها, وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات والتفاوت الذي بينه وبين ما ها هنا فهي كما قال سبحانه:{ والآخرة خير وأبقى} الأعلى 17. فهي خيرات كاملة دائمة, وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة. فاذا تم له هذين النظران آثر ما يقتضي العقل ايثاره, وزهد فيما يقتضي الزهد فيه. فكل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة الى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة, الا اذا تبين الفضل له, واما لعدم رغبته في الأفضل, وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الايمان وضعف العقل والبصيرة. فان الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثر لها اما أن يصدّق بأن هناك أشرف وأفضل وأبقى, واما أن لا يصدّق, فان لم يصدق بذلك كان عادما للايمان رأسا, وان صدّق ذلك كان فاسد العقل سيء الاختيار لنفسه.
وهذا تقسيم حاضر ضروري لا ينفك العبد من أحد القسمين منه. فايثار الدنيا على الآخرة اما من فساد الايمان, واما من فساد العقل. وما أكثر ما يكون منهما. ولهذا نبذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره هو وأصحابه وصرفوا عنها قلوبهم, واطرحوها ولم يألفوها, وهجروها ولم يميلوا اليها, وعدّوها سجنا لا جنّة. فزهدوا فيها حقيقة الزهد, ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب ولوصلوا منها الى كل مرغوب. فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها فردّها, وفاضت على أصحابه فآثروا بها ولم يبيعوا حظهم من الآخرة بها, وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر, وأنها دار عبور لا دار سرور, وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل, وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى آذن الرحيل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مالي وللدنيا, انما أنا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها" أخرجه الترمذي في الزهد 4\508(2377), وابن ماجه وأحمد والسيوطي. وقال:" ما الدنيا في الآخرة الا كما يدخل أحدكم اصبعه في اليم فلينظر بما ترجع". أخرجه مسلم في الجنة 4\2193 رقم 55 [2858], والترمذي وابن ماجه.
وقال خالقها سبحانه: {انما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى اذا أخذت الأرض زخرفها وازّيّنت وظنّ أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصّل الآيات لقوم يتفكّرون * والله يدعو الى دار السلام ويهدي من يشاء الى صراط مستقيم} يونس 24,25, فأخبر عن خسة الدنيا وزهد فيها, وأخبر عن دار السلام ودعا اليها.
وقال تعالى:{ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} الكهف 45,46.
وقال تعالى:{ اعلموا أن الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرّا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور} الحديد 20.
وقال تعالى:{ زيّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب * قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهّرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد} آل عمران 14,15.
وقال تعالى:{ وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة الا متاع} الرعد 26.
وقد توعّد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضى بالحياة الدنيا واطمأن بها وغفل عن آياته ولم يرج لقاءه, فقال:{ ان الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} يونس 7,8.
وعيّر سبحانه من رضي بالدنيا من المؤمنين, فقال: { يا أيها الذين آمنوا ما لكم اذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم الى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الدنيا في الآخرة الا قليل} التوبة 38.
وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة, ويكفي في الزهد في الدنيا قوله تعالى:{ أفرأيت ان متّعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتّعون} الشعراء 205-207.
وقوله:{ ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا الا ساعة من النهار يتعارفون بينهم} يونس 45.
وقوله: {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا الا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك الا القوم الفاسقون} الأحقاف 35.
وقوله تعالى:{ يسألونك عن الساعة أيّان مرساها . فيم أنت من ذكراها . الى ربك منتهاها . انما أنت منذر من يخشاها . كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا الا عشية أو ضحاها} النازعات 42-46.
وقوله:{ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة} الروم 55.
وقوله: { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادّين * قال ان لبثتم الا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون}المؤمنون 112-114.
وقوله:{ يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا * يتخافتون بينهم ان لبثتم الا عشرا * نحن أعلم بما يقولون اذ يقول أمثلهم طريقة ان لبثتم الا يوما} طه 102-104.
والله المستعان وعليه التكلان.