خطبتى الجمعة بعنوان
( و لذِكر الله أكبر )
أمام و خطيب مسجد التقوى - شارع التحلية - جدة
الحمد لله الكبير المتعال ، الموصوف بالجلال و الكمال ، أحمده سبحانه و أشكره ،
و أتوب إليه و أستغفره ، حث على ذكره و شكره بالغدو و الآصال ،
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و لا نظير و لا مثال ،
و أشهد أن سيدنا و نبينا محمدا عبده و رسوله ،
المنعوت بأشرف الخصال ، أنقذ أمته من الضلال ، و أرشدهم إلى سبيل الاستقامة و الاعتدال .
صلى الله و سلم و بارك عليه ، و على آله و صحبه ، خير صحب و آل ،
و التابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم المآل .
أمّا بعد : فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ و نفسي بتقوى الله عزّ و جلّ ، فاتّقوا الله رحِمكم الله ،
و اجعَلوا مراقبتَكم لمن لا تغيبون عن ناظرِه ، و اصرِفوا شكرَكم لمن لا تنقطِع عنكم نعمُه ،
و اعملوا بطاعةِ من لا تستغنون عنه ، و ليكُن خضوعكم لمن لا تخرجُون عن ملكِه و سلطانه ،
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }
[البقرة:235] .
الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، و الله أكبر الله أكبر و لله الحمد .
أيها المسلمون ، يقول الله عز و جل :
{ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـٰسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا
فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَـٰقٍ *
وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ *
أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }
[البقرة:200-202] .
عباد الله : منذ فجر التاريخ و قديم الزمن ، و لكل أمة من الأمم ما تفاخر به في مفاهيم ضيقة ،
و أهداف محددة ، و همم قاصرة فلا رسالة كبرى و لا غايات عليا ،
لم يكن للبشرية رسالة في الأرض و لا ذكر في السماء .
و أمة العرب كانت من هذا القبيل ، يجتمعون بعد حجهم في أسواقهم و منتدياتهم ؛
ليفاخروا بآبائهم ، و يتعاظموا بأنسابهم .
ثم جاء الإسلام فرفع الهمم ، و أنار الفكر ، و أنشأهم إنشاءً جديداً .
سلك بأتباعه مسلك عز لا يطاول ، و قادهم إلى مجد لا يضاهى ، جاءهم الكتاب ،
و تنزل عليهم الوحي ؛ فكان لهم الذكر و الخلود :
{ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَـٰباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
[الأنبياء:10] .
{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْـئَلُونَ }
[الزخرف:44] .
في هذا الذكر، و هذا الكتاب أعطاهم الميزان :
{ يأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ
لِتَعَـٰرَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }
[الحجرات:13] .
فميزان الرفعة و التكريم ، و مقياس المفاخرة و الذكر ، التقوى و الصلة بالله ،
و التلبس بذكره و شكره ، و العمل الصالح .
إذا كان الأمر كذلك ، فمن أحق بالذكر و الشكر من أهل الإسلام ،
الذين أتم الله عليهم نعمته و أكمل لهم دينه ، و جعله مهيمناً على الدين كله ؟!
{ فَٱذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }
[البقرة:152] .
و حقنا ـ نحن أهل الإسلام ـ أن نقف مع مفهوم الذكر ، لنتبين معناه ؛ لعلنا أن نقوم بحقه
{ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـٰسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ }
[البقرة:200] .
الله أكبر كبيراً ، و الحمد لله كثيراً ، و سبحان الله بكرةً و أصيلاً .
عباد الله :
العلاقة بين العبد و بين ربه ليست محصورة في ساعة مناجاة في الصباح أو في المساء فحسب ،
ثم ينطلق المرء بعدها ، في أرجاء الدنيا غافلا لاهيا ، يفعل ما يريد دون رقيب و لا حسيب ؛
العلاقة الحقة ، أن يذكر المرء ربه حيثما كان ، و أن يكون هذا الذكر مقيدا مسالكه بالأوامر و النواهي ،
و مُشعراً الإنسان بضعفه البشري ، و معينا له على اللجوء إلى خالقه في كل ما يعتريه .
لقد حث الدين الحنيف ، على أن يتصل المسلم بربه ، ليحيا ضميره ، و تزكوا نفسه ،
و يطهر قلبه ، و يستمد منه العون و التوفيق ؛ و لأجل هذا ،
جاء في محكم التنزيل والسنة النبوية المطهرة ، ما يدعوا إلى الإكثار من ذكر الله عز و جل على كل حال ؛
فقال عز و جل :
{ يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً * وسبحوه بكرة وأصيلاً }
[سورة الأحزاب:41-42] .
و قال سبحانه :
{ والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا ًعظيماً }
[سورة الأحزاب:35] .
و قال جل شأنه :
{ واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون }
[سورة الأنفال :45].
وقال تعالى :
{ فاذكروني أذكركم }
[سورة البقرة:152] .
و قال سبحانه :
{ ولذكر الله أكبر }
[سورة العنكبوت :45] .
و قال صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم :
( كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان :
سبحان الله و بحمده ، سبحان الله العظيم )
متفق عليه .
وقال صلى الله عليه و سلم :
( ألا أنبئكم بخير أعمالكم و أزكاها عند مليككم و أرفعها في درجاتكم
و خير لكم من إعطاء الذهب و الورق ،
و خير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم و يضربوا أعناقكم ؟
قالوا : و ذلك ما هو يا رسول الله ، قال : ذكر الله عز و جل )
رواه أحمد .
وقال :
( من قال : سبحان الله و بحمده غرست له نخلة في الجنة )
رواه الترمذي و حسنه الحاكم و صححه .
الله أكبر ما ذكره الذاكرون الأبرار، و الله أكبر ماتعاقب الليل و النهار ،
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ، و الله أكبر الله أكبر و لله الحمد .
عباد الله :
ذكر الله تعالى ، منزلة من منازل هذه الدار ، يتزود منها الأتقياء ، و يتجرون فيها ،
و إليها دائما يترددون ، الذكر قوت القلوب الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورا ،
و عمارة الديار التي إذا تعطلت عنه صارت دورا بورا .
بالذكر أيها المسلمون ، تُستدفع الآفات ، و تستكشف الكربات ، و تهون به على المصاب الملمات ،
زين الله به ألسنة الذاكرين ، كما زين بالنور أبصار الناظرين .
ذكر الله عز و جل ، باب مفتوح بين العبد و بين ربه ، ما لم يغلقه العبد بغفلته .
قال الحسن البصري رحمه الله : تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء : في الصلاة ، و في الذكر ،
و قراءة القرآن ، فإن وجدتم ، و إلا فاعلموا أن الباب مغلق .
إن الذنوب كبائرها و صغائرها لا يمكن أن يرتكبها بنو آدم ،
إلا في حال الغفلة و النسيان لذكر الله عز و جل ؛ و على الضد من ذلك ، التارك للذكر ،
و الناسي له ، فهو ميت ، لا يبالي الشيطان أن يلقي به في مكان سحيق .
{ ومن يعْشُ عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين }
[سورة الزخرف:36] .
{ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى }
[سورة طه :124] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها و غفل و سوس ،
فإذا ذكر الله خنس .
و كان رجل رديف النبي صلى الله عليه و سلم على دابة ، فعثرت الدابة بهما ،
فقال الرجل : تعس الشيطان ؛ فقال له النبي عليه الصلاة و السلام :
( لا تقل : تعس الشيطان ؛ فإنه عند ذلك يتعاظم حتى يكون مثل البيت ،
و لكن قل : بسم الله . فإنه يصغر عند ذلك حتى يكون مثل الذباب )
رواه أحمد و أبو داود و هو صحيح .
و حكى ابن القيم رحمه الله عن بعض السلف ، أنهم قالوا : إذا تمكن الذكر من القلب ،
فإن دنا منه الشيطان صرعه الإنسي ، كما يُصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان ،
فيجتمع عليه الشياطين ، فيقولون : ما لهذا ؟ فيقال : قد مسه الإنسي .
معاشر المؤمنين الذاكرين : الإكثار من ذكر الله ، براءة من النفاق ، و فكاك من أسر الهوى ،
و جسر يصل به العبد إلى مرضاة ربه ، و ما أعده له من النعيم المقيم ، بل هو سلاح مقدم ،
من أسلحة الحروب الحسية التي لا تثلم ،
فقد ثبت عن النبي عليه الصلاة و السلام في فتح القسطنطينية أنه قال :
( فإذا جاءها نزلوا ، فلم يقاتلوا بسلاح و لم يرموا بسهم ،
قالوا : لا إله إلا الله و الله أكبر ؛ فيسقط أحد جانبيها ،
ثم يقولوا الثانية : لا إله إلا الله و الله أكبر فيسقط جانبها الآخر ،
ثم يقولوا الثالثة : لا إله إلا الله و الله أكبر فيفرج لهم فيدخلوها فيغنموا .. الحديث )
رواه مسلم في صحيحه .
أيها الناس :
ذكر الله تعالى أشرف ما يخطر بالبال ، و أطهر ما يمر بالفم ، و تنطق به الشفتان ،
و أسمى ما يتألق به العقل المسلم الواعي ، و الناس بعامة قد يقلقون في حياتهم
أو يشعرون بالعجز أمام ضوائق أحاطت بهم من كل جانب ، و هم أضعف من أن يرفعوها إذا نزلت ،
أو يدفعوها إذا أوشكت ، و مع ذلك فإن ذكر الله عز و جل ، يحيي في نفوسهم استشعار عظمة الله ،
و أنه على كل شيء قدير ، و أن شيئا لن يفلت من قهره و قوته ،
و أنه يكشف ما بالمعنّى إذا ألم به العناء ،
حينها يشعر الذاكر بالسعادة و بالطمأنينة يغمران قلبه و جوارحه
{ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب }
[سورة الرعد:28] .
أيها المسلم :
لا تخش غما ، و لا تشك هما ، و لا يصبك قلق ، ما دام قرينك هو ذكر الله .
يقول جل و علا في الحديث القدسي :
(( أنا عند ظن عبدي بي ، و أنا معه إذا ذكرني ،
فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ،
و إن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ))
رواه البخاري و مسلم .
و اشتكى علي و فاطمة رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ،
ما تواجهه من الطحن و العمل المجهد ، فسألته خادما ،
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
( ألا أدلك على ما هو خير لك من خادم ، إذا أويتما إلى فراشكما ،
فسبحا الله ثلاثا و ثلاثين ، و احمداه ثلاثا و ثلاثين . و كبراه أربعا و ثلاثين ؛
فتلك مائة على اللسان و ألف في الميزان ) .
قال علي رضى الله عنه : ما تركتها بعدما سمعتها من النبي عليه الصلاة و السلام ،
فقال رجل : و لا ليلة صفين ؟ قال : و لا ليلة صفين .
و ليلة صفين : ليلة حرب ضروس دارت بينه و بين خصومه رضي الله عنهم أجمعين .
عباد الله :
لو كلف كل واحد منا نفسه ، في أن يحرك جفنيه ، ليرى يمنة و يسرة ، مشاهد متكررة ،
من صرعى الغفلة و قلة الذكر ، أفلا ينظر إلى ظلمة البيوتات الخاوية من ذكر الله تعالى ،
أولا ينظر إلى من تسللت إليهم أيدي السحرة و المشعوذين ، و الدجاجلة الأفاكين ،
فانتشلوا منهم الهناء و الصفاء ، و اقتلعوا أطناب الحياة الهادئة ،
فخر عليهم سقف السعادة من فوقهم .
أو لا يتفكر الواحد منا في أولئك المبتلين بمس الجان و مردة الشياطين يتوجعون ،
و يتقلبون تقلب الأسير على الرمضاء ، تتخبطهم الشياطين من المس فلا يقر لهم قرار ،
و لا يهدأ لهم بال ، أرأيتم عباد الله ، لو كلف كل واحد منكم نفسه بهذا ،
أفلا يُسائل نفسه أين هؤلاء البؤساء من ذكر الله عز و جل ؟!
أين هم جميعا من تلك الحصون المكينة ، و الحروز الأمينة ،
التي تعتقهم من عبودية الغفلة و الأمراض الفتاكة ؟!! أما علم هؤلاء جميعا ،
أن لدخول المنزل ذكرا و للخروج منه ؟! أما علموا أن للنوم ذكرا و للاستيقاظ منه ؟!
أو ما علموا أن للصباح من كل يوم ذكرا ، و للمساء منه ؟ ! بل حتى في مواقعة الزوج أهله ،
بل و في دخول الخلاء – أعزكم الله – و الخروج منه ؟
بل و في كل شيء ذكر لنا منه الرسول عليه الصلاة و السلام أمرا ،
علمه من علمه و جهله من جهله .
الله أكبر كبيراً ، و الحمد لله كثيراً ، و سبحان الله بكرةً و أصيلاً .
أيها الناس : في حضارتنا المعاصرة ، كثر المثقفون ، و شاعت المعارف الذكية ،
و مع ذلك كله ، فإن اضطراب الأعصاب و انتشار الكآبة داء عام . ما الأمر و ما السبب في ذلك ؟
إنه خواء القلوب من ذكر الله ، إنها لا تذكر الله كي تتعلق به و تركن إليه ،
بل كيف تذكر ، من تتجاهله ؟!!!
إن الحضارة الحديثة ، و الحياة المادية الجافة ، مقطوعة الصلة بالله إلا من رحم الله ،
و الإنسان مهما قوي فهو ضعيف ، و مهما علم فعلمه قاصر و حاجته إلى ربه أشد
من حاجته إلى الماء و الهواء ، و ذكر الله في النوازل عزاء للمسلم و رجاء
87 خطبتى الجمعة بعنوان ولذكر الله أكبر.docx
176K عرض بتنسيق HTML تنزيل
للتحميل
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]