خطبتى صلاة الجمعة بعنوان : ( المعاصي )
ألقاها الأخ فضيلة الشيخ / نبيل عبدالرحيم الرفاعى
أمام و خطيب مسجد التقوى - شارع التحلية - جدة
حصريــاً لبيتنا و لتجمع المجموعات الإسلامية الشقيقة
و سمح للجميع بنقله إبتغاء للأجر و الثواب
الحمد لله الذي جعل الحمدَ مفتاحاً لذكره ، و سبباً للمزيد من فضله ،
و دليلاً على آلائه و عظمتِه ، أمرُهُ قضاءٌ و حكمة ،
و رضاه أمانٌ و رحمة ، يقضي بعلمه ، و يعفو بحلمه ،
نحمدك اللهم على ما تأخذ و تعطي ، و على ما تعافي و تبتلي ،
نحمدك اللهم على آلائك كما نحمدك على بلائك ،
شرُّنا إليك صاعد ، و خيرك إلينا نازل ،
نستعين بك ربنا على نفوسنا الأمارة بالسوء البطيئة عمَّا أُمرت به ،
السِّريعة إلى ما نُهيت عنه ، و نستغفرك اللهم مما أحاط به علمك ،
و أحصيته في كتابك ، علمٌ غيرُ قاصر ، و كتابٌ غير مغادر .
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،
و أشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبده و رسوله
صلوات الله و سلامه عليه ، وعلى آله الأتقياء البررة ،
و على من سار على طريقهم و اقتفى أثرهم إلى يوم المعاد .
أمـــا بعـــد :
فأوصيكم ـ عباد الله ـ و نفسي بتقوى الله عز و جل ، فاتقوا الله رحمكم الله ،
فتقوى الله طريق النجاة و السلامة ، و سبيل الفوز و الكرامة ،
بالتقوى تزداد النعم و تتنزل البركات ، و بها تُصرف النقم ، و تُستدفع الآفات .
عباد الله : تأملوا في هذه الحياة ، مدبرٌ مقبلُها ، و مائلٌ معتدلُها ، كثيرة عِللُها ،
إن أضحكت بزخرفها قليلاً ، فلقد أبكت أكدارها طويلاً ، تفكروا في حال من جمعها ثم منعها ،
انتقلت إلى غيره ، و حمل إثمها و مغرمها ، فيا لحسرة من فرط في جنب الله ،
و يا لندامة من اجترأ على محارم الله .
أقوام غافلون جاءتهم المواعظ فاستَثقلوها ، و توالت عليهم النصائح فرفضوها ،
توالت عليهم نعم الله فما شكروها ، ثم جاءهم ريب المنون فأصبحوا بأعمالهم مرتهنين ،
و على ما قدمت أيديهم نادمين
{ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـٰهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ *
مَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ }
[ الشعراء: 205 ـ 207 ] .
عباد الله ، يا أمة محمد :
ما حلَّ بتاريخ الأمم من شديد العقوبات، و لا أُخذوا من غِيَر بفظيع المثلات
إلا بسبب التقصير في التوحيد و التقوى ، و إيثار الشهوات ، و غلبة الأهواء ،
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضِ
وَلَـٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـٰهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }
[ الأعراف: 96 ] .
إن كل نقص يصيب الناس في علومهم و أعمالهم ،
و قلوبهم و أبدانهم و تدبيرهم و أحوالهم و أشيائهم و ممتلكاتهم ،
سببه و الله الذنوب و المعاصي
{ وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ }
[ الشورى: 30 ] .
{ ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ
لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ٱلَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
[ الروم: 41 ] .
إن ما تُبتلى به الديار من الحوادث و القواع ، و ما يصيب الأمم من الأمراض و الأوبئة ،
ليس ذلك ـ لعمرو الله ـ من نقص في جود الباري جل شأنه ، و سعة رحمته ،
كلا ثم كلا ، و لكن سبب ذلك كله إضاعة أمر الله ، و التقصير في جنب الله .
المعاصي تفسد الديار العامرة ، و تسلب النعم الباطنة و الظاهرة ،
كيف يطمع العبد في الحصول من ربه على ما يحب ، و هو مقصر فيما يحب ؟! ،
ذنوب و معاصي ، إلى الله منها المشتكى ، و إليه وحده المفر ،
و به سبحانه المعتصم اضطرابٌ عقدي ، و تحلّلٌ فكري ، و تدهورٌ أخلاقي ،
جلبته قنوات فضائية و وسائل إعلامية و شبكات معلوماتية ، ربا و زنا ،
و ضعفٌ في العفة و الحشمة ، فتنٌ و محن ، بألوانها و أوصافها ،
ألوان من الجرائم و الفسوق ، و الشذوذ و الانحراف ،
بل و إلحادٌ و كفر من خلال كثير من القنوات ،
ثم تظالم بين العباد ، و أكلٌ للحقوق ، و غصب لأموال الناس بالباطل ،
كيف ترجى العافية و السلامة و في الناس مقيمون على الغش ،
و مصرون على الخيانات ، المكاسب الخبيثة تستدرج صاحبها حتى تمحقه محقًا ،
و تنزع البركة منه نزعًا .
عباد الله ، إن من البلاء أن لا يحس المذنب بالعقوبة ،
و أشد منه أن يقع السرور بما هو بلاء و عقوبة ، فيفرح بالمال الحرام ،
و يبتهج بالتمكن من الذنب ، و يصر بالاستكثار من المعاصي .
ألا ترون المجاهرة بالمعاصي و إعلانها ، كيف تُرجى السلامة و العافية مع المجاهرة ،
و قد قال نبيكم محمد صلى الله عليه و سلم :
(( كل أمتي معافى إلا المجاهرون )) .
و إن من المجاهرة أن يعمل العبد بالليل عملاً ثم يصبح قد ستره ربه
فيقول : يا فلان قد عملت البارحة كذا و كذا ،
و قد بات يستره ربه فيُصبح يكشف ستر الله عليه .
و من المجاهرة أن يذكر الماجن مجونه ، و ينشر الفاسق فسقه ،
في خمور و معازف و آلات من اللهو المحرم .
يا أصحاب الإعلام و الأقلام اتقوا الله فيما تكتبون و تنشرون ،
إذا اشتدت ملابسة الذنوب للقلوب فقدت الغيرة على الأهل و المحارم ،
فلا تستقبح قبيحًا ، و لا تنكر منكرًا .
أيها المسلمون ، لقد فشا في كثير من المجتمعات
الربا و الزنا ، و شُرِبَتَ الخمور و المسكرات ، و أدُمِنَتَ المخدرات كثر أكل الحرام ،
و تنوعت به الحيل ، شهادات باطلة ، و أيمان فاجرة ، و خصومات ظالمة ،
ارتفعت أصوات المعازف و المزامير ،
و فشت رذائل الأخلاق و العادات في البنين و البنات ، فإلى متى الغفلة عن سنن الله ؟!
و نعوذ بالله من الأمن من مكر الله
{ ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ }
[ الأنفال: 53 ] .
أيها الإخوة في الله ، إن ربكم يخوفكم بالآيات و النذر ، و الشدة و النكال ،
زلازل و براكين ، و رياح و أعاصير ، و حروب و فيضانات ،
و أمراض و أوبئة يصيب بها من يشاء ، و يصرفها عمن يشاء ،
و هو شديد المحال .
تفكروا ـ رحمكم الله ـ في حُكم المولى و حكمته في تصريف الأمور و تدبير الأحوال ،
ما أصاب العباد فبما كسبت أيديهم ، و لكنه بفضله سبحانه يعفو عن كثير
{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ }
[ فاطر: 45 ] .
و من أجل هذا فارجعوا إلى ربكم و توبوا إليه ، و استغفروه ، و أحسنوا الظن به ،
اجعلوا الرجاء في مولاكم نصب أعينكم ، و محط قلوبكم ، فربكم نعم المولى ،
و نعم المرتجى ، يغفر الذنوب ، و يكشف الكروب ،
و لا يملأن قلوبكم اليأس من روح الله و فضله و إفضاله ،
فتظنون به ما لا يليق بجلاله و كماله ، أليس هو الذي رزق الأجنة في بطون أمهاتهم ،
ربّاها صغارًا ، و غمرها بفضله كبارًا .
تراكمت الكروب فكشفها ، و حلت الجدوب فرفعها ، أطعم و أسقى ، و كفى و آوى ،
و أغنى و أقنى ، نعمه لا تحصى ، و إحسانه لا يستقصى ،
كم قصدته النفوس بحوائجها فقضاها ، و انطرحت بين يديه ففرج كربها و أعطاها ،
سبحانه و بحمده ، لا رب لنا سواه ، و لا نعبد إلا إياه ، لا ملجأ و لا منجى منه إلا إليه ،
هو ربنا و مولانا ، و هو أرحم الراحمين ، و أكرم الأكرمين .
فراجعوا أنفسكم ـ رحمكم الله ـ بالاعتراف بتقصيركم و عيوبكم ،
و توبوا إلى ربكم من جميع ذنوبكم ، وجهوا قلوبكم إلى من بيده خزائن الرحمة و الأرزاق ،
و أمِّلوا الفرج من الرحيم الخلاق ، فأفضل العبادة انتظار الفرج ،
و احذروا اليأس و القنوط ، و اجتنبوا السخط و العجز ،
توبوا إلى ربكم من ذنوبٍ تزلزلت لها الأرض و ارتجفت ،
و أقلعوا من مظالم اهتزت لها الجبال و تصدعت .
تعطفوا على فقرائكم بالرحمة و الإحسان ، أدوا الحقوق إلى أصحابها ،
و ردوا المظالم إلى أهلها ، قوموا بمسؤولياتكم على وجهها ،
أحسنوا إلى الخدم و العاملين ، و اليتامى و المستضعفين ،
أدوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ، و لا تبخسوا الناس أشياءهم ،
و لا تأكلوا أجرهم و مرتباتهم ، مروا بالمعروف ، و انهوا عن المنكر ،
و أصلحوا ذات بينكم ، و أحسنوا تربية بناتكم و أبنائكم ، و بروا والديكم ،
و صلوا أرحامكم ، أدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم ،
و تصدقوا من فضول أموالكم و اتقوا النار و لو بشق تمرة .
إنّ من تأمَّل أحوالَ بعضِ الناس و مواقفَهم و مسالكهم رأى أمورًا مخيفة ؛
فيهم جرأةٌ على حرمات الله شديدة و انتهاكٌ للموبِقات عظيمة و تضييعٌ لأوامر الله
و تجاوزٌ لحدودِه و تفريطٌ في المسؤوليات في العبادات و المعاملات و إضاعة للحقوق ،
فالحذر الحذر ـ رحمكم الله ـ من مكر الله ، فلا يأمن مكر الله إلا القومُ الخاسرون .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ،
{ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ *
فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ
قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ }
[ يونس: 101، 102 ] .
لازموا الثناء على ربكم ، و أكثروا من الصلاة و السلام على نبيكم الهادي البشير ،
سيدنا و إمامنا و قدوتنا ،
فالدعاء موقوف بين السماء و الأرض حتى يُصلَّى على النبي صلى الله عليه و سلم
كما جاء في الأثر .
اللهم صل على محمد و على آل محمد ،
كما صليت على إبراهيم و على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ،
و بارك على محمد و على آل محمد ،
كما باركت على إبراهيم و على آل إبراهيم ،
في العالمين إنك حميد مجيد .
اللهم صل على سيدنا و نبينا محمد و على آله وأزواجه و أصحابه .
ربنا ظلمنا أنفسنا ، و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين .
اللهم إن الخلق خلقك ، و الأرض أرضك ، و الأمر أمرك ،
اللهم إنا نعوذ بك من يومِ السوء و مِن ليلة السوء و من ساعة السوء ،
اللهم أسكن الأرض و ادفع عنا الزلازل و البراكين ،
اللهم اجعلنا في ضمانِك و أمانِك و إحسانك يا أرحم الراحمين ،
حسبنا الله و كفى ، و سلام على نبيه المصطفى ، سمع الله لمن دعا ،
ليس و راء الله منتهى ، على الله توكلنا و إليه أنبنا ،
اللهم إنا نعوذ بك من الطعن و الطاعون و الوباء و هجوم البلاء
في النفس و الأهل و المال و الولد .
الله أكبر مما نخاف و نحذر ، الله أكبر عدَد ذنوبنا حتى تغفر ،
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء و درك الشقاء و سوء القضاء و شماتة الأعداء ...