فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ﴿15﴾ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ﴿16﴾ سورة التكوير
الإعجاز العلمى - الفلك وعلوم الفضاء
المدلول اللغوي لهاتين الآيتين الكريمتين: أقسم قسما مؤكدا بالخنس الجوار الكنس, والسؤال الذي يتبادر إلي الذهن هو: ما هي هذه الخنس الجوار الكنس التي أقسم بها ربنا( تبارك وتعالي) هذا القسم المؤكد, وهو( تعالي) غني عن القسم؟ وقبل الإجابة علي هذا التساؤل لابد لنا:
أولا: من التأكيد علي حقيقة قرآنية مهمة مؤداها أن الآية أو الآيات القرآنية التي تتنزل بصيغة القسم تأتي بمثل هذه الصياغة المؤكدة من قبيل تنبيهنا إلي عظمة الأمر المقسوم به, وإلي أهميته في انتظام حركة الكون, أو في استقامة حركة الحياة أو فيهما معا, وذلك لأن الله( تعالي) غني عن القسم لعباده.
ثانيا: أن القسم في القرآن الكريم بعدد من الأمور المتتابعة لا يستلزم بالضرورة ترابطها, كما هو وارد في سورة التكوير, وفي العديد غيرها من سور القرآن الكريم من مثل سور الذاريات, الطور, القيامة, الانشقاق, البروج, الفجر, البلد, الشمس, والعاديات, ومن هنا كانت ضرورة التنبيه علي عدم لزوم الربط بين القسم الأول في سورة التكوير: فلا أقسم بالخنس* الجوار الكنس والقسم الذي يليه في الآيتين التاليتين مباشرة حيث يقول الحق( تبارك وتعالي): والليل إذا عسعس* والصبح إذا تنفس* ( التكوير:18,17)
وهو ما فعله غالبية المفسرين للأسف الشديد, فانصرفوا عن الفهم الصحيح لمدلول هاتين الآيتين الكريمتين.
ثالثا: تشهد الأمور الكونية المقسوم بها في القرآن الكريم للخالق( سبحانه وتعالي) بطلاقة القدرة, وكمال الصنعة, وتمام الحكمة, وشمول العلم, ومن هنا فلابد لنا من إعادة النظر في مدلولاتها كلما اتسعت دائرة المعرفة الانسانية بالكون ومكوناته, وبالسنن الإلهية الحاكمة له حتي يتحقق وصف المصطفي( صلي الله عليه وسلم) للقرآن الكريم بأنه: لا تنتهي عجائبه, ولا يخلق علي كثرة الرد, وحتي يتحقق لنا جانب من أبرز جوانب الإعجاز في كتاب الله وهو ورود الآية أو الآيات في كلمات محدودة يري فيها أهل كل عصر معني معينا, وتظل هذه المعاني تتسع باتساع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد, وليس هذا لغير كلام الله.
رابعا: بعد القسم بكل من الخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس يأتي جواب القسم: إنه لقول رسول كريم( التكوير:19)
ومعني جواب القسم أن هذا القرآن الكريم ـ ومنه الآيات الواردة في مطلع سورة التكوير واصفة لأهوال القيامة, وما سوف يصاحبها من الأحداث والانقلابات الكونية التي تفضي إلي إفناء الخلق, وتدمير الكون, ثم إعادة الخلق من جديد ـ هو كلام الله الخالق الموحي به إلي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) بواسطة ملك من ملائكة السماء المقربين, عزيز علي الله( تعالي), وهذا الملك المبلغ عن الله الخالق هو جبريل الأمين( عليه السلام), ونسبة القول إليه هو باعتبار قيامه بالتبليغ إلي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم). خامسا: إن هذا القسم القرآني العظيم جاء في سياق التأكيد علي حقيقة الوحي الإلهي الخاتم الذي نزل إلي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه أجمعين وعلي من تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين), والذي جاء للناس كافة لينقلهم من ظلمات الكفر والشرك والضلال إلي نور التوحيد الخالص لله الخالق بغير شريك ولا شبيه ولا منازع, ومن فوضي وحشية الإنسان إلي ضوابط الايمان وارتقائها بكل ملكات الإنسان إلي مقام التكريم الذي كرمه به الله, ومن جور الأديان إلي عدل الرحمن, كما جاء هذا القسم المؤكد بشيء من صفات الملك الذي حمل هذا الوحي إلي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم), وعلي شيء من صفات هذا النبي الخاتم الذي تلقي الوحي من ربه, وحمله بأمانة إلي قومه, رغم معاندتهم له, وتشككهم فيه, وادعائهم الكاذب عليه( صلي الله عليه وسلم) تارة بالجنون( وهو المشهود له منهم برجاحة العقل وعظيم الخلق), وأخري بأن شيطانا يتنزل عليه بما يقول( وهو المعروف بينهم بالصادق الأمين), وذلك انطلاقا من خيالهم المريض الذي صور لهم أن لكل شاعر شيطانا يأتيه بالنظم الفريد, وأن لكل كاهن شيطانا يأتيه بالغيب البعيد. وقد تلقي رسول الله( صلي الله عليه وسلم) كل ذلك الكفر والجحود والاضطهاد بصبر وجلد واحتساب حتي كتب الله تعالي له الغلبة والنصر فأدي الأمانة, وبلغ الرسالة, ونصح البشرية, وجاهد في سبيل الله حتي أتاه اليقين.
وتختتم سورة التكوير بالتأكيد علي أن القرآن الكريم هو ذكر للعالمين وأن جحود بعض الناس له, وصدهم عنه, وإيمان البعض الآخر به وتمسكهم بهديه هي قضية شاء الله تعالي أن يتركها لاختيار الناس وفقا لارادة كل منهم, مع الايمان بأن هذه الإرادة الانسانية لا تخرج عن مشيئة الله الخالق الذي فطر الناس علي حب الايمان به, ومن عليهم بتنزل هدايته علي فترة من الرسل الذين تكاملت رسالاتهم في هذا الوحي الخاتم الذي نزل به جبريل الأمين علي قلب النبي والرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم), وأنه علي الرغم من كل ذلك فإن أحدا من الناس ـ مهما أوتي من أسباب الذكاء والفطنة ـ لا يقدر علي تحقيق الاستقامة علي منهج الله تعالي إلا بتوفيق من الله. وهذه دعوة صريحة إلي الناس كافة ليطلبوا الهداية من رب العالمين في كل وقت وفي كل حين. والقسم بالأشياء الواردة بالسورة هو للتأكيد علي أهميتها لاستقامة أمور الكون وانتظام الحياة فيه, وعلي عظيم دلالاتها علي طلاقة القدرة الإلهية التي أبدعتها وصرفت أحوالها وحركاتها بهذه الدقة المبهرة والاحكام العظيم.
الخنس الجوار الكنس في اللغة العربية:
جاء في معجم مقاييس اللغة لابن فارس( المتوفي سنة395 هـ), تحقيق عبدالسلام هارون( الجزء الخامس, الطبعة الثانية1972 م, ص141, ص223) وفي غيره من معاجم اللغة تعريف لغوي للفظي الخنس والكنس يحسن الاستهداء به في فهم مدلول الخنس الجوار الكنس كما جاءا في آيتي سورة التكوير علي النحو التالي:
أولا: الخنس:
خنس: الخاء والنون والسين أصل واحد يدل علي استخفاء وتستر, قالوا: الخنس الذهاب في خفيه, يقال خنست عنه, وأخنست عنه حقه. والخنس: النجوم تخنس في المغيب, وقال قوم: سميت بذلك لأنها تخفي نهارا وتطلع ليلا, والخناس في صفة الشيطان, لأنه يخنس إذا ذكر الله تعالي, ومن هذا الباب الخنس في الأنف انحطاط القصبة, والبقر كلها خنس.
ومعني ذلك أن الخنس جمع خانس أي مختف عن البصر, والفعل خنس بمعني استخفي وتستر, يقال خنس الظبي إذا اختفي وتستر عن أعين المراقبين. والخنوس يأتي أيضا بمعني التأخر, كما يأتي بمعني الانقباض والاستخفاء. وخنس بفلان وتخنس به أي غاب به, وأخنسه أي خلفه ومضي عنه.
ثانيا: الجوار: أي الجارية.( في أفلاكها) وهي جمع جارية, من الجري وهو المر السريع.
ثالثا: الكنس: ( كنس) الكاف والنون والسين تشكل أصلين صحيحين, أحدهما يدل علي سفر شئ عن وجه شئ وهو كشفه والأصل الآخر يدل علي استخفاء, فالأول كنس البيت, وهو سفر التراب عن وجه أرضه, والمكنسه آلة الكنس, والكناسة مايكنس. والأصل الآخر: الكناس: بيت الظبي, والكانس: الظبي يدخل كناسه, والكنس: الكواكب تكنس في بروجها كما تدخل الظباء في كناسها, قال أبو عبيدة: تكنس في المغيب.
وقيل الكنس جمع كانس( أي قائم بالكنس) أو مختف من كنس الظبي أي دخل كناسه وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر, وسمي كذلك لأنه يكنس الرمل حتي يصل إليه. وعندي أن الكنس هي صيغة منتهي الجموع للفظة كانس أي قائم بعملية الكنس, وجمعها كانسون, أو للفظة كناس وجمعها كناسون, والكانس والكناس هو الذي يقوم بعملية الكنس( أي سفر شيء عن وجه شيء آخر, وإزالته), لأنه لا يعقل أن يكون المعني المقصود في الآية الكريمة للفظة الكنس هي المنزوية المختفية وقد استوفي هذا المعني باللفظ الخنس, ولكن أخذ اللفظتين بنفس المعني دفع بجمهور المفسرين إلي القول بأن من معاني فلا أقسم بالخنس* الجوار الكنس*: أقسم قسما مؤكدا بالنجوم المضيئة التي تختفي بالنهار وتظهر بالليل وهو معني الخنس, والتي تجري في أفلاكها لتختفي وتستتر وقت غروبها كما تستتر الظباء في كناسها( أي مغاراتها) وهو معني الجوار الكنس, قال القرطبي: هي النجوم تخنس بالنهار, وتظهر بالليل, وتكنس وقت غروبها أي تستتر كما تكنس الظباء في المغار وهو الكناس, وقال مخلوف: أقسم الله تعالي بالنجوم التي تخنس بالنهار أي يغيب ضوؤها فيه عن الأبصار مع كونها فوق الأفق, وتظهر بالليل, وتكنس أي تستتر وقت غروبها أي نزولها تحت الأفق كما تكنس الظباء في كنسها.. وقال بعض المتأخرين من المفسرين: هي الكواكب التي تخنس أي ترجع في دورتها الفلكية, وتجري في أفلاكها وتختفي.
ومع جواز هذه المعاني كلها إلا أني أري الوصف في هاتين الآيتين الكريمتين: فلا أقسم بالخنس* الجوار الكنس*. ينطبق انطباقا كاملا مع حقيقة كونية مبهرة تمثل مرحلة خطيرة من مراحل حياة النجوم يسميها علماء الفلك اليوم باسم الثقوب السود (Black Holes). وهذه الحقيقة لم تكتشف إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين, وورودها في القرآن الكريم الذي أنزل قبل ألف وأربعمائة سنة بهذه التعبيرات العلمية الدقيقة علي نبي أمي( صلي الله عليه وسلم), في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين, هي شهادة صدق علي أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته, وعلي أن سيدنا محمدا بن عبدالله كان موصولا بالوحي, معلما من قبل خالق السماوات والأرض, وأنه( صلي الله عليه وسلم) ما كان ينطق عن الهوي, إن هو إلا وحي يوحي.
الخنس الجوار الكنس في نظر بعض الفلكيين المسلمين المعاصرين:
يري بعض الفلكيين المسلمين المعاصرين في الوصف القرآني: الخنس الجواري الكنس أنه وصف للمذنبات (Comets), وهي أجرام سماوية ضئيلة الكتلة( لا تكاد تصل كتلتها إلي واحد من المليون من كتلة الأرض) ولكنها مستطيلة بذنبها إلي ما قد يصل إلي150 مليون كيلو متر مما يجعلها أكبر أجرام المجموعة الشمسية, حيث تتحرك في مدارات حول الشمس, بيضاوية تقع الشمس في أحد طرفيها ونحن نراها كلما اقتربت من الشمس, وهذه المدارات لا تتبع قوانين الجاذبية بدقة, وتتميز بشئ من اللامركزية, وبميل أكبر علي مستوي مدار الأرض, مما يجعل المذنبات تظهر وتختفي بصورة دورية علي فترات تطول وتقصر. والمذنبات تتكون أساسا من خليط من الثلج والغبار, وللمذنب رأس وذنب, وللرأس نواة يبلغ قطرها عدة كيلو مترات قليلة عبارة عن كرة من الثلج والغبار تحيط بها هالة من الغازات والغبار, وتحيط بالهالة سحابة من غاز الإيدروجين قد يصل قطرها إلي مليون كيلو متر. والغبار المكون للمذنبات شبيه في تركيبه الكيميائي والمعدني بتركيب بعض النيازك, وأما الثلج فهو خليط من ثلج كل من الماء, وثاني أكسيد الكربون, والأمونيا, والميثين.
وبالتفاعل مع كل من أشعة الشمس والرياح الشمسية يندفع من رأس المذنب ذيل من الغازات والأبخرة والغبار قد يصل طوله إلي150 مليون كيلو متر, ومن هنا كانت التسمية بالمذنبات, وللكثير من المذنبات ذيلان أحدهما ترابي ويبدو أصفر اللون في أشعة الشمس, والآخر مكون من غازات متأينة في حالة البلازما( أليكترونات وأيونات) ويبدو أزرق اللون في أشعة الشمس, والذنب الغازي يندفع بفعل الرياح الشمسية في خط مستقيم خلف رأس المذنب بينما ينعقف منثني الذنب الترابي بلطف خلف رأس المذنب إلي أعلي, وهذان الذنبان قد يتواجدان معا أو يتواجد أحدهما في المذنب الواحد, في عكس اتجاه أشعة الشمس بانحراف قليل نظرا لدوران نواة رأس المذنب( التي تتراوح كتلتها بين مائة مليون, وعشرة مليون مليون طن) وللمذنب مجال مغناطيسي ثابت علي طوله. ووجه الشبه الذي استند إليه هذا النفر من الفلكيين المسلمين المعاصرين بين المذنبات والوصف القرآني الخنس الجواري الكنس هو أن المذنب يقضي فترة تتراوح بين عدة أيام وعدة شهور مجاورا للشمس في زيارة خاطفة, فيظهر لنا بوضوح وجلاء ولكنه يقضي معظم فترة دورانه بعيدا عن الشمس فيختفي عنا تماما ويستتر, فإذا ما اقترب من الشمس ظهر لنا وبان, ولكن سرعان ما يقفل راجعا حتي يختفي تماما عن الأنظار, واعتبروا ذلك هو الخنوس, ولكن الوصف القرآني بالخنس يعني الاختفاء الكامل, ولا يعني الظهور ثم الاختفاء. (The Missing Mass in the universe)
ما هي الثقوب السود ؟:
يعرف الثقب الاسود بأنه أحد أجرام السماء التي تتميز بكثافتها الفائقة وجاذبيتها الشديدة بحيث لا يمكن للمادة ولا لمختلف صور الطاقة ومنها الضوء أن تفلت من اسرها, ويحد الثقب الاسود سطحا يعرف باسم أفق الحدث (The Event Horizon), وكل ما يسقط داخل هذا الأفق لا يمكنه الخروج منه, أو إرسال أية إشارة عبر حدوده. وقد أفادت الحسابات النظرية في الثلث الاول من القرن العشرين إلي إمكانية وجود مثل هذه الأجرام السماوية ذات الكثافات الفائقة والجاذبية الشديدة[ كارل شفارز تشايلد1916 م, روبرت أوبنهاير 1934(Karl schwars child,1916 Robert oppenheimer,1934) إلا أنها لم تكتشف إلا في سنة1971, بعد اكتشاف النجوم النيوترونية بأربع سنوات ففي خريف سنة1967 م أعلن الفلكيان البريطانيان توني هيويش (Tony Hewish) وجوسلين بل (Jocelyn Bell) عن اكتشافهما لأجرام سماوية صغيرة الحجم( بأقطار في حدود16 كيلو متر) تدور حول محورها بسرعات مذهلة بحيث تتم دورتها في فترة زمنية تتراوح بين عدد قليل من الثواني إلي اجزاء لاتكاد تدرك من الثانية الواحدة وتصدر موجات راديوية منتظمة أكدت أن تلك الأجرام هي نجوم نيوترونية (Neutron Stars) ذات كثافة فائقة تبلغ بليون طن للسنتيمتر المكعب.
وفي سنة1971 م اكتشف علماء الفلك أن بعض النجوم العادية تصدر وابلا من الاشعة السينية, ولم يجدوا تفسيرا علميا لذلك إلا وقوعها تحت تأثير أجرام سماوية غير مرئية ذات كثافات خارقة للعادة, ومجالات جاذبية عالية الشدة, وذلك لأن النجوم العادية ليس في مقدورها إصدار الأشعة السينية من ذاتها, وقد سميت تلك النجوم الخفية باسم الثقوب السود (Black Holes), وقد سميت بالثقوب لقدرتها الفائقة علي ابتلاع كل ما تمر به أو يدخل في نطاق جاذبيتها من مختلف صور المادة والطاقة من مثل الغبار الكوني والغازات والاجرام السماوية المختلفة, ووصفت بالسواد لأنها معتمة تماما لعدم قدرة الضوء علي الإفلات من مجال جاذبيتها علي الرغم من سرعته الفائقة المقدرة بحوالي الثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية(299792,458 كم/ ث) وقد اعتبرت الثقوب السود مرحلة الشيخوخة في حياة النجوم وهي المرحلة التي قد تسبق انفجارها وعودة مادتها الي دخان السدم دون ان يستطيع العلماء حتي هذه اللحظة معرفة كيفية حدوث ذلك.
كيف تتكون الثقوب السود؟
تعتبر الثقوب السود كما ذكرنا من قبل مرحلة الشيخوخة في حياة النجوم, ولكي نفهم كيفية تكونها لابد لنا من معرفة المراحل السابقة في حياة تلك النجوم. والنجوم هي أجرام سماوية غازية التركيب في غالبيتها, شديدة الحرارة, ملتهبة, مضيئة بذاتها, يغلب علي تركيبها غاز الايدروجين الذي يكون أكثر من74% من مادة الكون المنظور, والذي تتحد ذراته مع بعضها البعض في داخل النجوم بعملية تعرف باسم الاندماج النووي (Nuclear Fusion) مطلقة الطاقة الهائلة ومكونة عناصر أعلي في وزنها الذري من الأيدورجين( أخف العناصر المعروفة لنا علي الإطلاق وأبسطها من ناحية البناء الذري ولذلك يوضع في الخانة رقم واحد في الجدول الدوري للعناصر التي يعرف منها اليوم105 عنصرا)و والنجوم تتخلق ابتداء من الغبار( الدخان) الكوني الذي يكون السدم, وينتشر في فسحة السماء ليملأها وتتكون النجوم في داخل السدم بفعل دوامات عاتية تؤدي الي تجاذب المادة تثاقليا وتكثفها علي ذاتها حتي تتجمع الكتلة اللازمة لتخليق النجم, وتبدأ عملية الاندماج النووي فيه, وتنطلق منه الطاقة وينبعث الضوء, وبعد الميلاد تمر النجوم بمراحل متتابعة من الطفولة فالشباب فالشيخوخة والهرم علي هيئة ثقب أسود يعتقد ان مصيره النهائي هو الانفجار والتحول الي الدخان مرة أخري, وإن كنا لا ندري حتي هذه اللحظة كيفية حدوث ذلك, ومن المراحل المعروفة لنا في دورة حياة النجوم ما يعرف باسم نجوم النسق العادي (Main Sequence Stars) والعمالقة الحمر (Red Giants), والأقزام البيض (White Dwarfs), والأقزام السود (Black Dwarfs) والنجوم النيوترونية (Neutron Stars), والثقوب السود (Black Holes)
فعندما تبدأ كمية الإيدروجين بداخل النجم في التناقص نتيجة لعملية الاندماج النووي, وتبدأ كمية الهيليوم الناتجة عن تلك العملية في التزايد تبدأ طاقة النجم في الاضمحلال تدريجيا وترتفع درجة حرارة قلب النجم إلي عشرة ملايين درجة كلفن( الصفر المئوي يساوي273 درجة كلفن) مؤديا بذلك إلي بدء دورة جديدة من عملية الاندماج النووي وإلي انبعاث المزيد من الطاقة التي تؤدي الي مضاعفة حجم النجم الي مئات الأضعاف فيطلق عليه اسم العملاق الاحمر (Red Giant), وبتوالي عملية الاندماج النووي يأخذ النجم في استهلاك طاقته دون إمكانية انتاج المزيد منها مما يؤدي الي تقلصه في الحجم وانهياره اما الي قزم أبيض (White Dwarf) أو إلي نجم نيوتروني (Neutron Star) أو الي ثقب أسود (Black Hole) حسب كتلته الأصلية التي بدأ تواجده بها. فإذا كانت الكتلة الابتدائية للنجم أقل من كتلة الشمس فإن الإليكترونات في مادة النجم تقاوم عملية تقلصه ابتداء ثم تنهار هذه المقاومة ويبدأ النجم في التقلص حتي يصل الي حجم أقل قليلا من حجم الارض, متحولا إلي قزم أبيض, وهذه المرحلة من مراحل حياة النجوم قد تتعرض لعدد من الانفجارات النووية الهائلة والتي تنتج عن تزايد الضغط في داخل النجم, وتسمي هذه المرحلة باسم النجوم الجديدة أو النجوم المستجدة (Novae) فإذا زاد تراكم الضغط في داخل القزم الابيض فإنه ينفجر انفجارا كاملا محدثا نورا في السماء يقارب نور بليون شمس كشمسنا, وتسمي هذه المرحلة باسم النجم المستعر الأعظم (Supernova) يفني علي إثرها القزم الابيض وتتحول مادته الي دخان, وتحدث هذه الظاهرة مرة واحدة في كل قرن من الزمان لكل مجرة تقريبا, ولكن مع الأعداد الهائلة للمجرات في الجزء المدرك لنا من الكون فإن هذه الظاهرة تحدث في الكون المدرك مرة كل ثانية تقريبا.
أما إذا كانت الكتلة الابتدائية للنجم أكبر من كتلة الشمس فإنه ينهار عند استهلاك طاقته متحولا الي نجم نيوتروني وفيه تتحد البروتونات والأليكترونات منتجة النيوترونات, وهذا النجم النيوتروني ينبض في حدود ثلاثين نبضة في الثانية الواحدة ومن هنا يعرف باسم النجم النابض (Pulsating Star أو النابض (Pulsar).
وهناك من النجوم النيوترونية ما هو غير نابض (Non-Pulsating Neutron Star) وقد يستمر هذا النجم النيوتروني في الانهيار حتي يصل الي مرحلة الثقب الأسود إذا كانت كتلته الابتدائية تسمح بذلك فإذا كانت الكتلة الابتدائية للنجم تزيد علي كتلة الشمس بمرة ونصف المرة تقريبا(1,4 قدر كتلة الشمس) ولكنها تقل عن خمسة أضعاف كتلة الشمس فإن عملية التقلص تنتهي به إلي نجم نيوتروني لا يزيد قطره علي عشرة كيلو مترات تقريبا, ويسمي بهذا الاسم لأن الذي يقوم بعملية مقاومة التقلص التثاقلي (Gravitational Contraction) فيه هي النيوترونات لأن الإليكترونات في داخل كتلة النجم تعجز عن ذلك.
أما إذا زادت الكتلة الابتدائية للنجم علي خمسة أضعاف كتلة الشمس فلا يتمكن أي من الإليكترونات أو النيوترونات من مقاومة عملية التقلص التثاقلي للنجم فتستمرحتي يصل النجم إلي مرحلة الثقب الأسود, وهذه المرحلة لا يمكن إدراكها بصورة مباشرة, ولكن يمكن تحديد مواقعها بعدد من الملاحظات غير المباشرة من مثل صدور موجات شديدة من الأشعة السينية من الأجرام الواقعة تحت تأثيرها, واختفاء كل الأجرام السماوية بمجرد الاقتراب من مجال جاذبيتها. ومع إدراكنا لانتهاء حياة النجوم بالانفجار علي هيئة نجم مستعر أو نجم مستعر أعظم, أو بفقدانه للطبقات الخارجية منه وتحوله إلي مادة عظيمة الكثافة شديدة الجاذبية مثل النجوم النيوترونية أو الثقوب السود, إلا أن طبيعة تلك الثقوب السود وطريقة فنائها تبقي معضلة كبري أمام كل من علماء الفلك والطبيعة الفلكية, فحسب قوانين الفيزياء التقليدية لا يستطيع الثقب الأسود فقد أي قدر من كتلته مهما تضاءل, ولكن حسب قوانين فيزياء الكم فإنه يتمكن من الإشعاع وفقدان كل من الطاقة والكتلة وهي سنة الله الحاكمة في جميع خلقه, ولكن تبقي كيفية تبخر مادة الثقب الأسود بغير جواب, وتبقي كتلته, وحجمه, وكثافته, وطبيعة كل من المادة والطاقة فيه, وشدة حركته الزاوية, وشحناته الكهربية والمغناطيسية من الأسرار التي يكافح العلماء إلي يومنا هذا من أجل استجلائها.
فسبحان الذي خلق النجوم وقدر لها مراحل حياتها... وسبحان الذي أوصلها إلي مرحلة الثقب الأسود, وجعله من أسرارالكون المبهرة... وسبحان الذي أقسم بتلك النجوم المستترة, الحالكة السواد, الغارقة بالظلمة... وجعل لها من الظواهر مايعين الإنسان علي إدراك وجودها علي الرغم من تسترها واختفائها, وسبحان الذي مكنها من كنس مادة السماء وابتلاعها وتكديسها, ثم وصفها لنا من قبل أن نكتشفها بقرون متطاولة بهذا الوصف القرآني المعجز فقال( عز من قائل) فلا أقسم بالخنس* الجوار الكنس.
ولا أجد وصفا لتلك المرحلة من حياة النجوم المعروفة باسم الثقوب السود أبلغ من وصف الخالق( سبحانه وتعالي) لها بالخنس الكنس فهي خانسة أي دائمة الاختفاء والاستتار بذاتها, وهي كانسة لصفحة السماء, تبتلع كل ما تمربه من المادة المنتشرة بين النجوم, وكل ما يدخل في نطاق جاذبيتها من أجرام السماء, وهي جارية في أفلاكها المحددة لها, فهي خنس جوار كنس وهو تعبير أبلغ بكثيرمن تعبير الثقوب السود الذي اشتهر وذاع بين المشتغلين بعلم الفلك.. ومن أصدق من الله قيلا (النساء:122)
ومن العجيب أن العلماء الغربيين يسمون هذه الثقوب السود تسمية مجازية عجيبة حين يسمونها بالمكانس العملاقة التي تبتلع( أو تشفط) كل شيء يقترب منها إلي داخلها: (Giant Vaccum Cleanersthat Suckineverythinginsight) وتبقي الثقوب السود صورة مصغرة للجرم الأول الذي تجمعت فيه مادة الكون ثم انفجر ليتحول إلي سحابة من الدخان, وأن من هذا الدخان خلقت السموات والأرض, وتتكرر العملية اليوم أمام أنظار المراقبين من الفلكيين حيث تتخلق النجوم الابتدائية من تركز المادة في داخــل السـدم عبر دوامات تركيز المادة (Accretionwhirls) أو (Accretion Vertigos) ومنها تتكون النجوم الرئيسية (Main Sequeence Stars) والتي قد تنفجر حسب كتلتها إلي عمالقة حمر (Red Giants) أو نجوم مستعرة (Novae) أو فوق مستعرة (Supernovae), وقد يؤدي انفجار العمالقة الحمر إلي تكون سدم كوكبية (Planetary Nebulae) والتي تنتهي إلي تكون الأقزام البيض (White Dwarfs) والتي تستمر في التبرد حتي تنتهي إلي مايعرف باسم الأقزام السود Black Dwarfs) وهي من النجوم المنكدرة, كما قد يؤدي انفجار فوق المستعرات الي تكون نجوم نيوترونية نابضة أو غير نابضة (Non-Pulsating or Pulsating Neutron Stars or Pulsars) أو ثقوب سود (Black Holes) حسب كتلتها الابتدائية, وقد تفقد الثقوب السود كتلتها إلي دخان السماء عن طريق تبخر تلك المادة علي هيئة أشباه النجوم المرسلة لموجات راديوية عبر مراحل متوسطة عديدة
ثم تتفكك هذه لتعود مرة أخري إلي دخان السماء مباشرة أو عبر هيئة كهيئة السدم حتي تشهد لله الخالق بالقدرة الفائقة علي أنه وحده الذي يبدأ الخلق ثم يعيده, وأنه وحده علي كل شيء قدير. ومن المبهر حقا أن يشهد علماء الفلك بأن90% من مادة الكون المنظور( ممثلة بمادة المجرات العادية) هي مواد خفية لا يمكن للإنسان رؤيتها بطريقة مباشرة, وأن من هذه المواد الخفية: الثقوب السود, والأقزام البنية غير المدركة (Undetected Brown Dwarfs), والمادة الداكنة (Dark Matter) واللبنات الأولية للمادة (Subatomic Particles) وغيرها, وأن كتلة الجزء المدرك من الكون تقدر بأكثر من مائة ضعف الكتلة الظاهرة. أما عن القسم التالي في السورة والذي يقول فيه الحق( تبارك وتعالي): والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس فهما قضيتان مستقلتان عن الخنس الجوار الكنس سنعرض لهما إن شاء الله تعالي في مقام آخر وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين.