من أسرار القرآن
بقلم:د. زغلـول النجـار
(310) واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق..[ المائدة:27]
هذا النص القرآني الكريم جاء في خواتم الربع الأول من سورة المائدة, وهي سورة مدنية, وآياتها مائة وعشرون(120) بعد البسملة, وهي من طوال سور القرآن الكريم, ومن أواخرها نزولا, فقد نزلت بعد صلح الحديبية, أي في السنة السادسة من الهجرة النبوية الشريفة, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي المائدة التي أنزلها الله ـ تعالي ـ من السماء كرامة لعبده ورسوله: المسيح عيسي بن مريم ـ عليهما من الله السلام ـ.
ويدور المحورالرئيسي لسورة المائدة حول التشريع بعدد من الأحكام اللازمة لإقامة الدولة الإسلامية, وتنظيم مجتمعاتها علي أساس من الإيمان بالله ـ تعالي ـ ربا واحدا أحدا, فردا صمدا( بغير شريك, ولا شبيه, ولا منازع, ولا صاحبة ولا ولد), وهذا التفرد للخالق ـ سبحانه وتعالي ـ بالألوهية, والربوبية, والخالقية, والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه, يجعل التشريع للعباد حقا من حقوق الله ـ تعالي ـ وحده, لا ينازعه فيه عبد من عباده.
هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة المائدة, وما جاء فيها من أسس كل من التشريع والعقيدة, وكل من الإشارات العلمية والإنبائية, ونركز هنا علي ومضة الإعجاز الانبائي الغيبي في ذكر قصة ابني آدم ـ عليه السلام ـ كما جاءت في النص القرآني الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال.
والواقعة لم يشهدها من البشر سوي آدم وزوجه وولديه وبنتيه, ولولا أن القرآن الكريم قد سجلها بهذا التفصيل الدقيق الذي يمكن استخلاص العبرة منه, ما علم بها أحد من البشر بعد, وما كان أمام العلماء والمؤرخين من وسيلة للوصول إلي معرفة شيء من تلك الواقعة التي طواها الزمن في أستاره.
من أوجه الإعجاز الإنبائي في النص الكريم: يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ في محكم كتابه:
واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين'27' لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العلمين'28' إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين'29' فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين'30' فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال ياويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين'31'[ المائدة:27 ـ31]
والخطاب هنا موجه إلي خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ يقول له فيه رب العالمين: اقرأ يا محمد علي اليهود في المدينة حقيقة خبر ابني آدم ـ عليه السلام ـ حين تقرب كل منهما إلي الله ـ تعالي بقربة, فتقبل ربنا ـ تبارك وتعالي ـ قربة أحدهما لاخلاصه وتقواه, ولم يتقبل من الآخر لعدم توافر الاخلاص فيه, فحسد فاقد الاخلاص أخاه التقي المخلص, وتوعده بالقتل, فرد الأخ التقي الصالح بأن الله ـ تعالي ـ لا يتقبل العمل إلا من عباده الأتقياء المخلصين, قائلا: لئن أغواك الشيطان فمددت يدك نحوي لتقتلني, فأنا لن أمد إليك يدي لأقتلك, وذلك لأني أخاف الله رب العالمين, وسوف أتركك تفعل ما تريد لتحمل ذنب قتلي بغير إثم جنيت, فتكون من أهل النار, والنار هي جزاء الظالمين في الآخرة.
وعلي الرغم من هذا الأدب في الحوار, والتحذير الشديد من النار فإن الأخ الظالم سولت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين.
وبعد وقوع أول جريمة قتل لآدمي علي وجه الأرض أصابت القاتل مختلف ضروب الحسرة والحيرة لأنه فوجيء بأخيه جثة هامدة أمامه بلا حراك, ولم يدر ماذا يصنع بها بعد أن قتل صاحبها, وبدأت الجثة في التعفن أمامه, فأرسل الله ـ تعالي ـ غرابا ينبش أمام هذا الإنسان القاتل في تراب الأرض ليدفن غرابا ميتا, كي يعلم هذا القاتل الأول من بني آدم كيف يواري جثة أخيه في تراب الأرض سترا لها, فانفجر هذا القاتل باكيا, ومتحسرا علي جريمته, ومستشعرا سوء عمله وعجزه وحيرته قائلا: ياويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي... فقام بدفن جثة أخيه وهو يبكي ندما علي جريمته.
وكما كانت هذه هي أول جريمة قتل يقترفها الإنسان كانت عملية دفن جثة هذا القتيل هي أول عملية دفن في تاريخ البشرية, وهذا الدفن في تراب الأرض كان بأمر من الله ـ تعالي ـ عن طريق عمل الغراب إكراما للميت, ومنعا لانتشار الأمراض والأوبئة إذا بقيت جثث الموتي معرضة للهواء.
وعقابا لقاتل أخيه بغير ذنب, وتجريما لعملية القتل ظلما, روي الإمام أحمد بسنده إلي ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم: لا تقتل نفس ظلما إلا كان علي ابن أدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل.
وكطبيعة القرآن الكريم, أوردت الآيات(27 ـ31) من سورة المائدة: قصة ابني آدم دون الدخول في التفاصيل كالأسماء, والأماكن, والتواريخ, وذلك من أجل ابراز الدروس المستفادة, والعبر المستفادة من عرض القصة لنموذجين من نماذج البشرية النموذج التقي الصالح, والنموذج الشقي الطالح, وكلاهما في موقف من مواقف الطاعة لله ـ تعالي ـ يقدم كل واحد منهما قربانه إلي ربه.. فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر, والفعل( تقبل) مبني للمجهول, ليشير إلي قوة غيبية, تقبلت أو لم تتقبل القربان بكيفية غيبية كذلك, حتي تسد علي التفكير البشري المحدود مجال الشطحات غير المرتبطة بنص صريح من كتاب الله ـ تعالي ـ أو من سنة رسوله ـ صلي الله عليه وسلم ـ ولكي تؤكد براءة الذي تقبل منه قربانه, حيث لم يكن له يد في قبوله, ومن هنا لم يكن لأخيه مبرر في الغضب منه والحنق عليه حتي يجيش في نفسه خاطر قتل أخيه, وفي ثورة هذا الغضب هدد أخاه بالقتل قائلا: لأقتلنك, فلم يكن عند صاحب التقوي والورع من جواب إلا أن يقول: إنما يتقبل الله من المتقين, وهذا هو الدرس الأول المستفاد من هذه القصة.
ويضيف الأخ الصالح قائلا لأخيه: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لا قتلك إني أخاف الله رب العالمين, ويحذر أخاه من الوقوع في جريمة القتل, فيقول له: إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين, والإثم الأول: هو إثم القتل الذي كانت تراوده به نفسه الأمارة بالسوء, والإثم الثاني: هو إثم عدم الإخلاص لله الذي أدي إلي عدم قبول القربان منه, وإن كان الإثم الأول قد جاء لاحقا للإثم الثاني.
وما قاله الأخ الصالح التقي للأخ الطالح الشقي كان من أجل اقناعه بخطورة جريمة القتل, في محاولة لصده عن الوقوع فيها دون جدوي, وقد سجل القرآن الكريم ذلك بقول الحق تبارك وتعالي: فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين, وهذا هو الدرس الثاني المستفاد من إيراد هذه الواقعة, لأنه قتل نفسا بغير حق, فأورد نفسه موارد المسئولية أمام الله, وكان المقتول هو أخاه شقيقه, المفروض فيه أنه عونه ونصيره في الحياة, فخسر الدنيا والآخرة, وذلك هو الخسران المبين.
وقد شاء الله ـ تعالي ـ أن يوقف هذا الشقيق القاتل أمام عجزه عن كيفية التخلص من جثة أخيه الذي قتله بيده, وتركه مسجيا علي الأرض جثة هامدة تتعفن أمام ناظريه, وهو لا يدري ماذا يفعل بها, والموت له رهبة لا يستطع القلم وصفها, والإنسان مكرم حيا وميتا, وهذا ما أوقع الأخ القاتل لأخيه في حيرة شديدة.
وبينما الأخ القاتل في حيرته وسط هذه الدوامة من المشاعر والأحاسيس المتضاربة, بعث الله ـ تعالي ـ غرابا يعلمه كيف يواري سوءة أخيه, وفي ذلك يقول القرآن الكريم:
فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال ياويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين.
وهنا قام هذا الشقيق القاتل بدفن جثمان أخيه كما علمه الغراب, فأصبح دفن أموات بني آدم سنة ألهمها الله ـ تعالي ـ لعباده, وهذا هو الدرس الثالث, المستفاد من ايراد قصة ولدي آدم في القرآن الكريم, وهي تؤكد تصارع الخير والشر في الحياة الدنيا, حتي بين الأشقاء وبين أبناء الأنبياء.
وتبين الواقعة كذلك أن الباطل لا منطق له ولا حجة تدعمه, ولذلك فسلاح أهل الباطل هو دوما البطش والقتل والطغيان, دفاعا عن مواقفهم الهزيلة, كما يحدث اليوم علي أرض فلسطين, وفي كل من العراق وأفغانستان, وعلي أراضي كل من الصومال والسودان وكشمير وأراكان وإنجوشيا والشيشان وفي غيرها من بلاد المسلمين.
وهذا هو الدرس الرابع المستفاد من ايراد تلك الواقعة, وايرادها هو من أوجه الإعجاز الإنبائي الغيبي في كتاب الله لأن الواقعة لم يشهدها أي من الناس سوي أبوينا آدم وحواء وأبنائهما المباشرين, ولم يكن لأحد من أهل الجزيرة العربية في زمن الوحي إلمام بها علي الإطلاق.
من هنا كانت إشارة القرآن الكريم إلي قصة ولدي آدم تمثل وجها من أوجه الإعجاز في كتاب الله نسميه الإعجاز الإنبائي الغيبي حيث إن القرآن الكريم يخبر عن واقعة غيبية وقعت من قبل عشرات الآلاف من السنين, ولم يشهدها من بني آدم إلا آدم ـ عليه السلام ـ نفسه وزوجه وعدد من أوائل ابنائهما, ولم يكن لأحد من كفار ومشركي قريش إلمام بهذه الواقعة.
إذا علمنا أن العرب في زمن الجاهلية لم يكونوا أهل علم وتدوين, بل كانوا في غالبيتهم من الأميين, وكذلك كانت غالبية أهل الكتاب الذين كانوا موجودين في عدد من الجيوب المعزولة علي أطراف شبه الجزيرة العربية الشمالية والشمالية الشرقية, والجنوبية الغربية كالمناذرة الذين سكنوا شمال الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق, وكانوا عربا واعتنقوا النصرانية وتحالفوا مع الفرس, ثم دخلوا الإسلام بعد الفتح الإسلامي, وكالغساسنة وهم سلالة عربية كذلك, يمنية الأصل هجرت بلادها عند انهيار سد مأرب في القرن الثالث الميلادي, واستوطنت بلاد حوران وشرقي الأردن وفلسطين ولبنان, واعتنق عدد من أبنائها الديانة النصرانية, ثم أسلم غالبيتهم بعد الفتح الإسلامي, وكيهود كل من خيبر ويثرب والذين أسلم بعضهم بعد وصول رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ إلي المدينة, ويهود ونصاري كل من نجران واليمن..
إذا علمنا ذلك, أدركنا ومضة الاعجاز الانبائي في إيراد القرآن الكريم لقصة ولدي آدم بالصورة التي اتسم بها هذا الكتاب العزيز في ايراد القصةـ لا بتفاصيلها التاريخية: المكانية والزمانية, ولا بكثرة أسماء وأعمار الأشخاص الواردة اسماؤهم فيها ـ ولكن بإيراد الدروس والعبر المستفادة منها, وهذا هو الفارق بين الوحي السماوي الذي حفظ بعهد من الله ـ تعالي ـ وبين قصص التراث الشعبي الذي نقل مشافهة عبر آلاف السنين فأضيف إليه ما أضيف وحذف منه ما حذف.
فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين ـ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.