من أسرار القرآن .. "وما آتاكم الرسول فخذوه"
اكد المفكر الاسلامى الدكتور زغلول النجار ان النص القرآني الكريم " وما آتاكم الرسول فخذوه " [ الحشر:7] جاء في أواخر الثلث الأول من سورة " الحشر" , وهي سورة مدنية, وآياتها أربع وعشرون (24) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم( الحشر) بسبب حشر يهود بني النضير العرب الي بلاد الشام بعد أن أخرجهم رسول الله- صلي الله عليه وسلم- من جواره, وإن لجأت طائفة منهم إلي منطقة خيبر العربية إلي الشمال من مدينة رسول الله - صلي الله عليه وسلم - .
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول' غزوة بني النضير' التي وقعت في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة( الموافق شهر أغسطس سنة635 م) وما تبعها من طرد لهؤلاء من شبه الجزيرة العربية, وفضح كل من مخططاتهم المريبة ومسالك المنافقين الذين تعاونوا معهم من كفار ومشركي العرب.
وفي نفس الوقت تمتدح الآيات في سورة' الحشر' ما أظهره كل من المهاجرين والأنصار من مظاهر الأخوة الإسلامية الحقيقية التي ظلت تضرب بها الأمثال إلي اليوم. كذلك بينت الآيات في هذه السورة المباركة أحكام الفيء ووصية الله لعباده المؤمنين بالتزام تقواه- سبحانه وتعالي- والخضوع لأوامره, ومداومة التفكر في بديع تدبيره الحكيم في كل أمر من أمور خلقه.
وتؤكد الآيات في سورة' الحشر' ضرورة استعداد العبد المؤمن للانتقال من الدنيا إلي الآخرة, وضرورة المداومة بالثناء علي الله- تعالي- وتسبيحه وحمده, وتنزيهه عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله, ولذلك بينت الآيات عددا من أسماء الله الحسني, وصفاته العليا.
هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة' الحشر' وما جاء فيها من ركائز العقيدة, ووصف لغزوة' بني النضير', والدروس والعبر المستفادة من استعراض السورة الكريمة لتلك الغزوة. ونركز هنا علي الحكمة التشريعية من الأمر الإلهي باتباع سنة رسول الله- صلي الله عليه وسلم- خاصة في زمن الفتن الذي نعيشه, والذي تطاول فيه الأقزام من الكفار والمشركين ومن المتنطعين والمترددين علي مقام خير الخلق أجمعين وكثر تهجمهم علي سنته المطهرة.
من الإعجاز التشريعي في الأمر باتباع سنة رسول الله- صلي الله عليه وسلم-
من أسس الإسلام العظيم: العقيدة الصحيحة, والعبادة السليمة, والحض علي الالتزام بمكارم الأخلاق, وبحسن السلوك وانضباط المعاملات. وهذا الدين( الإسلام) علمه ربنا- تبارك وتعالي- لأبينا آدم- عليه السلام- لحظة خلقه, وعلم آدم بنيه, وعاشت البشرية عشرة قرون كاملة بين أبينا آدم ونوح-عليهما السلام- علي التوحيد الخالص لله الخالق- سبحانه وتعالي- وذلك انطلاقا من قول رسول الله- صلي الله عليه وسلم-' كان بين آدم ونوح عشرة قرون, كلهم علي شريعة الحق'( أخرجه الحاكم في المستدرك).
ويروي ابن عباس' رضي الله عنهما':' أن رجالا صالحين من قوم نوح هلكوا, فوسوس الشيطان إلي قومهم أن انصبوا إلي مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم, ففعلوا ولم تعبد, حتي إذا هلك أولئك, وتنسخ العلم عبدت'( أخرجه البخاري). وتفشت الوثنية في قوم نوح فبعثه الله- تعالي- إليهم ليردهم إلي توحيد الله من جديد فلم يستجب إلي دعوته إلا أقل القليل.
ولما يئس نوح من هدايتهم دعا الله- تعالي- عليهم فأغرقهم بالطوفان. وتكرر المشهد مع كل الأمم التي جاءت بعد قوم نوح من مثل أقوام عاد, وثمود, وفرعون, وقوم إبراهيم, وقوم لوط, وأصحاب الأيكة, وأصحاب الرس وقوم تبع وغيرهم إلي اليوم والبشرية تتناوبها فترات من الإيمان ثم الكفر, ومن التوحيد ثم الشرك, ومن الاستقامة علي منهج الله- تعالي- ثم الخروج عليه, لأن الشيطان كان دوما للإنسان بالمرصاد, ولذلك أرسل الله- تعالي- عددا كبيرا من الأنبياء والمرسلين لهداية البشرية, وفي ذلك يقول ربنا- تبارك وتعالي-:(... وإن من أمة إلا خلا فيها نذير..)( فاطر:24).
ويروي الإمام أحمد- رحمه الله- عن أبي ذر الغفاري- رضي الله عنه- أنه قال:' أتيت رسول الله- صلي اله عليه وسلم- قائلا يا رسول الله أي الأنبياء كان أول؟ قال- صلي الله عليه وسلم-' آدم', قلت: يا رسول الله! ونبي كان؟ قال:' نعم, نبي مكلم' قال: قلت: يا رسول الله! كم المرسلون ؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا'( مسند الإمام أحمد). وفي رواية أبي أمامة- رضي الله عنه- فال أبو ذر:... قلت يا رسول الله! كم وفي عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا, الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا'( مسند الإمام أحمد).
وهذه النصوص من القرآن والسنة تؤكد أن الهداية الربانية ظلت تتنزل علي أهل الأرض لعدة آلاف من السنين, وبواسطة عشرات الآلاف من الأنبياء, وبضع المئات من الرسل, وكان لا بد من ختام لوحي السماء, وقد تجسد هذا الختام في القرآن الكريم وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين- صلي الله عليه وسلم- ولذلك تعهد ربنا- تبارك وتعالي- بحفظهما, فحفظا علي مدي يزيد علي أربعة عشر قرنا في نفس لغة الوحي بهما- اللغة العربية- وتعهد ربنا- سبحانه وتعالي- بحفظ هذه الرسالة الخاتمة تعهدا مطلقا حتي تبقي حجة الله علي خلقه إلي يوم الدين فقال- تعالي-( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)( الحجر:9). وقال-عز من قائل-(... اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا...)( المائدة:3).
وباستعراض تاريخ البشرية علي الأرض نجد أن فترات سيادة النبوة والتزام الناس بدين الله كانت ومضات بارقة من أنوار الهداية الربانية وسط ظلمات طويلة من الجاهلية الدامسة, وكأن الإنسان لم يتعلم من هذه التجربة الطويلة التي استمرت لعدة عشرات الألوف من السنين. فبعد جهود مائة وأربعة وعشرين ألف نبي, وبعد تنزل ثلاثمائة وبضعة عشر رسالة سماوية فإن أهل الأرض جميعا- فيما عدا آحادا متناثرة من الأحقاب_ فقدوا اتصالهم بهداية خالقهم, حتي جاءت الرسالة الخاتمة علي قلب ولسان الرسول الخاتم- صلي الله عليه وسلم- في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة, التي عنيت بشرح ما جاء من ركائز الدين في كتاب الله, وبشرح كيفيات تطبيقها تطبيقا عمليا في واقع حياة الناس, وتفصيلها لهم, وتثبيتها في قلوبهم وعقولهم وممارساتهم, ومن هنا فإن الأمر الإلهي بالعناية بسنن رسول الله- صلي الله عليه وسلم- وجعلها من ضرورات الدين ولوازمه أصبحت وجها من أوجه الإعجاز التشريعي في كتاب الله لأنها توضح كثيرا من الأحكام التي أجملها كتاب الله- تعالي- وتفسر آياته, ولذلك قال رسول الله- صلي الله عليه وسلم- أقوالا كثيرة تؤكد حجية السنة النبوية المطهرة منها ما يلي:
(1)'.... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهتدين, عضوا عليها بالنواجذ...'( أخرجه كل من أبي داود والترمذي, وابن ماجه وأحمد).
(2)'.... ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه'( أخرجه كل من أبي داود وأحمد).
(3)' تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي( مالك والبيهقي).
(4)' كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبي' قالوا يا رسول الله ومن يأبي قال- صلي الله عليه وسلم- من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبي'.( البخاري وأحمد).
(5)' نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمع, فرب مبلغ أوعي من سامع'(الترمذي والدارمي).
(6) وقيل لرسول الله صلي الله عليه وسلم- في عام سنة( أي جدب) سعر لنا يا رسول الله( أي: ثمن لنا لكل سلعة), قال:' لا يسألني الله عن سنة أحدثتها فيكم لم يأمرني بها, ولكن اسألوا الله من فضله'( الطبراني, وأبو داود, والترمذي,وابن ماجه وأحمد).
لذلك حذر رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم تحذيرا شديدا فقال:
(7)' إن كذبا علي ليس ككذب علي أحد, ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار'( البخاري ومسلم).
(8) وقال- صلي الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو:' اكتب عني فوالذي نفسي بيده ما خرج من فمي إلا الحق'( أبو داود وأحمد).
وكان ذلك بعد نهيه- صلي الله عليه وسلم- عن كتابة غير القرآن لمن لا يؤمن عليه الغلط والخلط بين المصدرين فقد قال' لا تكتبوا عني, ومن كتب عني غير القرآن فليمحه'( مسلم, أحمد والدارمي).
(9) وقد تنبأ المصطفي- صلي الله عليه وسلم- بخروج طائفة من منكري السنة فقال: ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه, ألا يوشك رجل شبعان علي أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه, وما وجدتم فيه من حرام فحرموه....'( أبو داود).
(10) وقال- صلي الله عليه وسلم-' لا ألقين أحدكم متكئا علي أريكته, يأتيه أمر مما أمرت به, أو نهيت عنه فيقول: لا ادري! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه( أبو داود, والترمذي). وهذان الحديثان من المعجزات الإنبائية لرسول الله.
ولذلك أمر ربنا- تبارك وتعالي- بطاعة خاتم أنبيائه ورسله- صلي الله عليه وسلم في كل ما أمر, وباجتناب نواهيه في كل ما حرم, وفي ذلك يقول_ وقوله الحق-:( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب)( الحشر:7).
ومن معاني هذا النص الكريم أن الله- تعالي- يأمر المسلمين كافة بطاعة رسول الله- صلي الله عليه وسلم- في كل أمر أمرهم به, وفي كل شيء نهاهم عنه لأنه هو الموصول بالوحي, والمعلم من قبل خالق السموات والأرض, فلا يأمر إلا بكل خير وصلاح ولا ينهي إلا عن كل شر وفساد. والآية وإن كانت قد نزلت في أموال الفيء, إلا أن الحكم فيها يبقي عاما في كل ما أمر به النبي- صلي الله عليه وسلم- أو نهي عنه, ويشمل ذلك كل واجب, ومندوب, ومستحب أو محرم, ولذلك حذر في ختام الآية من نزول عقاب الله الشديد بالخارجين عن أوامر رسول الله- صلي الله عليه وسلم- فقال(... إن الله شديد العقاب).
ولذلك أيضا قال- تعالي- مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله:[ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون)( النحل:44). وقال- عز من قائل-:( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)( الجمعة:2).
والسنة النبوية المطهرة هي كل ما أثر عن النبي- صلي الله عليه وسلم- من قول أو فعل, أو تقرير, أو صفة, أو سيرة, سواء كان ذلك قبل البعثة الشريفة أو بعدها.
ولذلك حفظها ربنا- تبارك وتعالي- كما حفظ القرآن الكريم, مع تسليمنا بأن استحالة الدس علي كتاب الله لكثرة حفاظه, قد ألجأت نفرا من حقدة الكفار والمشركين في محاولة الدس علي رسول الله- صلي الله عليه وسلم- ألا أن جهود علماء المسلمين من أجل تحقيق السنة قد فاقت جهود التحقيق في أي مجال علمي آخر. وقد سلك علماء الحديث من أجل تحقيق ذلك طرقا في النقد والتمحيص لم يسبقوا بمثلها أبدا, حتي فاقت علوم الحديث خمسة وستين علما, فأبقوا سنة هذا الرسول الخاتم, وسيرته الشريفة مدونة تدوينا لم تنله أقوال وأفعال وصفات نبي من قبل, وجعلت من هذه السنة الشريفة أحد مصادر التشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم, وقبل كل من الإجماع والقياس, والاستحسان, والمصالح المرسلة ولولا ذلك ما فهمنا الكثير من أحكام الإسلام خاصة في مجال العبادات والمعاملات.
من ذلك تتضح ومضة الإعجاز التشريعي في النص القرآني الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال, فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي بعثة خير الأنام, والحمد لله علي العهد الإلهي المطلق بحفظ كل ما أوحي إليه من قرآن وسنة, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.