لسكوت علامة الرضا
التحليل النفسي للقول الشائع
نسمع كثير من الأفراد يقولون في بعض المواقف : " السكوت علامة الرضا " ، فما الدلالة النفسية
لهذا القول الشائع ؟
لعل أهم المواقف التي يسمع فيها هذا القول الشائع ، هو عندما تخير الفتاة في رجل تقدم لخطبتها أو لعقد قرانه عليها ، فإنه عندما يطلب منها رأيها فنظراً للتنشئة الشرقية فإنها تسكت ولا تجيب عليهم سواء بالسلب أو الإيجاب .. ومن ثم يقول البعض في هذا الموقف : " السكوت علامة الرضا " .. بمعنى أن عدم إبداء الفتاة برأيها في من تقدم لها يصب ناحية القبول للرجل خطيباً أو زوجاً .
ولنا هنا عدة تساؤلات : هل للسكوت معنى ودلالة ؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل له معنى ثابت دوماً ؟ أم أن السكوت يحتمل العديد من المعاني والدلالات المختلفة ؟
بداية فإن السكوت هو لفظ شائع يقابل الصمت ، وفي علم النفس نقول إن في الصمت لغة ؟ أي أن الصمت يحمل رسالة ويتضمن معنى ، ذلك أن عدم الاستجابة بالكلام استجابة ، وأن عدم الرد بالقول رد .. وأن عدم الإفصاح عما بداخل النفس إفصاح .. ونجد نظير ذلك في اللغة الدارجة فيما نعرفه بالطناش ، أو نطنش ، ولذلك نجد البعض يستاء من أن صديق له يطنشه .. فالطناش إذن استجابة تتضمن عدم الرد بالقول أو الفعل ، غير أنها مع ذلك استجابة تنطوي على رد " أي سلوك يتضمن معنى " .
وبشكل عام فإن اللغة يتم تقسيمها إلى لغة لفظية ولغة غير لفظية ، والصمت ( السكوت ) يصنف ضمن اللغة غير اللفظية ، فنقول لغة الصمت ، كما نقول لغة الجسد ، فالإنسان لا يتحدث فقط بجهاز الكلام ، وإنما يتحدث كذلك بأعضاء جسده ، ومن ثم نسمع عن لغة العيون ، والنظرات الدالة على الغضب ، أو الدالة على الاستعطاف ، أو الدالة على الحب ، أو الدالة على الاستحسان ، أو الدالة على العدوان ، أو الدالة على الحقد .. ونجد نظير ذلك في الحس الشعبي حيث يكتب بعض السائقين على السيارة التي اشتراها : " لا تنظر لي بعين رضية انظر في اللي الدفع فيًّ " ..
فالإنسان إذن يتحدث باللسان ، ويتحدث أيضاً بأعضاء جسده ، وهو يتحدث في حال يقظته ، كما يتحدث في حال نومه ( عبر أحلامه ) ، وكذلك يتحدث في حال جهره كما يتحدث في حال صمته .. ومن ثم كان للسكوت معنى .. بل أكثر من معنى ودلالة .. فاللغة غير اللفظية مثل اللغة اللفظية تحتمل الدلالات المتعددة بل والمتناقضة ..
فإذا كان السكوت علامة الرضا في حالة الفتاة التي تقدم لها رجل يرغب في خطبتها ، فهل يمكن أن يكون السكوت أيضاً علامة على الرفض لدى فتاة أخرى ؟ أو ربما يكون له دلالات أخرى كذلك ؟
بيد أن استخلاص الدلالة لا يتم من حالة السكوت وفقط ، بل يستمد كذلك من لغة الجسد المصاحبة للسكوت ، فإذا كانت الفتاة التي نستشيرها في أمر رجل تقدم لخطبتها ، استجابت بالصمت ( السكوت ) مصحوباً ببشاشة في الوجه ولمعان العين وانكسارها ، وحمرة الوجه خجلاً ، وابتسامة تحاول الفتاة أن تخفيها ، كان السكوت علامة الرضا ..
بينما إذا صاحب السكوت تكشيرة الوجه واسوداده وعيون تكاد تدمع ، وخوف يصاحبه شحوب الوجه واصفراره ، كان السكوت علامة الرفض .. بل قد يكون السكوت في الحالة الأخيرة علامة على القهر وكونها مغلوبة على أمرها ، فلا تستطيع أن ترفض أمر وليها .. وفي بعض البيئات نســـمع من يقول ماعنديناش بنات لها رأي ، الرأي رأي أبوها " ، وأن موضوع رفض الفتاة لمن وافق عليه الولي يضيع فيه رقاب .. ومن ثم ليس أمام الفتاة من استجابة سوى الصمت ( السكوت ) ..
وفي تراث التحليل النفسي يحكى عن امرأة جاءت إلى محلل نفسي للعلاج ، فكانت تصمت أغلب الجلسة ، وعندما تكرر ذلك في جلسات أخرى ، طلب منها المحلل النفسي ألا تأتي مرة أخرى للعلاج .. فأرسلت المريضة خطاباً لهذا المعالج تقول له : " أنه من كان له عينان يرى بهما ، وإذنان يسمع بهما ، ومسام يتنسم بها ، فليعلم أن في الصمت لغة " ..
ويرى لاكان أن عظمة فرويد ليس كونه اكتشف اللاشعور بل لكونه وصل إلى حقيقة مؤداها أن اللاشعور يحتوي بنية ويتضمن لغة وأن اللاشعور يثرثر ، فإذا سكت اللسان تكلمت العينان ، أو اليدان أو القدمان .. فالعينان قد ترسل إشارات رضا وقد تزني .. والأيدي قد تبطش أو تمتد بالسلام ، والقدمان تقودان الحركة للأمام أو للخلف معبرة عن دلالات عديدة .. فهناك إذن لغة الجسد المليئة بالدلالات المعبرة عن خفايا النفس .. كذلك أوضح فرويد لغة الحلم وصوره ورموزه وآلياته ، وأن الحلم يعمد نحو تحقيق رغبة ، أو محاكاة واقع ، أو السيطرة على مواقف الصراع ، وهو مخرج تنفيسي رئيسي للمكبوتات اللاشعورية ..
وفي التنشئة الاجتماعية ، كثيراً ما نطلب من الطفل الصغير أن يسكت ولا يتكلم ، وخاصة إذا كان مصدر إزعاج .. فالسكوت دلالة على الإذعان .. كذلك فإن مصادر السلطة في الدول المختلفة لا تسمح لأفراد الشعب بعمل مظاهرات يتلفظون فيها بعبارات مضادة للمسئولين . وبالتالي إلزام أفراد المجتمع بالصمت ( السكوت ) والانصياع والإذعان .. فما هي إذن دلالة الصمت لدي الشعوب ؟
هل صمت الشعوب تجاه الحكام والمسئولين يدل على رضاهم عن الحكام والحكومات وعن المسئولين في مواقع العمل المختلفة ؟
ربما يكون السكوت ( الصمت ) هنا يحمل أكثر من معنى ودلالة لعل أهمها ما يلي :
• أن يدل سكوت الشعوب في بعض الدول عن الرضا عن الحال أو بعضه .. حيث رضا الشعب عن الحاكم أو الحكومة أو المسئولين ، أو الرضا لكون الشعب يعيش حالة من الرفاهية ، فبعض الشعوب لا يهتمون بمن يحكمهم ، وبما يفعل حكامهم ومسئوليهم ، طالما يهيمون في رغد العيش .
• بينما يدل السكوت في بعض الدول الأخرى على الخوف من التغيير ، فما هو قائم واضح المعالم ويمكن تحمله رغم الصعاب ، وما هو قادم رغم مطلبه ربما يحمل المشاق والآلام ، فلدى الشعوب ــ خاصة العربية ــ خوف مما هو قادم .. ولذلك دائماً نردد " اللهم اجعله خير " حتى في حال الضحك الكثير .. فتوقع الأسوأ أصبح تراث الشعوب ، ومن ثم قد يرى الكثيرون أن السكوت والرضا بما قائم رغم فساده أفضل من الغموض القادم رغم آماله
• وقد يدل السكوت أيضاً على القهر وعدم القدرة على تغيير الوضع الراهن ، إذ أن أغلب الشعوب وخاصة في العالم الثالث ليس لها من مطالب في الحياة سوى توفير متطلبات المعيشة اليومية .. فهم مطحونون بين تروس المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية السريعة ، ولا يطمحون سوى في توفير القوت اليومي الضروري لأسرهم ..
• وربما يدل السكوت كذلك على الصبر ، ومعروف عن الشعوب أنها تصبر على الحكام والحكومات إلى آخر رمق ، وهي في ذلك تعمل بالمثل القائل : " اصبر على جارك السوء ليرحل ، ياتيجي له مصيبة تاخده " .. ولا يخفى علينا أن المصيبة التي تأخذ على يد الحكام والحكومات في الوقت الراهن هي الولايات المتحدة الأمريكية .. لذا نرجو من الشعوب في العالم الثالث مزيد من الصبر على الحكام والحكومات ، فوجود البعض منهم في السلطة رغم مساوئه أفضل بكثير من الوجود الأمريكي الديمقراطي ، وليس أدل على ذلك من الوضع الراهن في العراق .. كذلك فإن فرح الشعب الباكستاني باستقالة الرئيس بيرويز مشرف ليبرهن على أن السكوت ليس دوماً علامة الرضا .
وعلى هذا نستطيع القول أنه ليس هناك دلالة ثابتة دوماً للسكوت ، وإنما تختلف دلالة السكوت وتتعدد باختلاف الأفراد والمواقف والمجتمعات ، بل علينا أن نقبل الدلالات المتناقضة للغة الصمت كما هو الحال بالنسبة للغة الكلام .
منــــــــــــــــقول