هل جربت مرة أن تغمض عيونك مدة 24 ساعة لتشعروا بفداحة وألم الظلام ؟؟؟
وأي عجزٍ يستوطن تفاصيلك فينخر في نفسك وروحك فيحيلها إلى خراب ...
أقدم لكم اليوم شخصية عظيمة بانجازها لا لنفسها فحسب بل لملايين قد ابتلاهم رب الرحمة بفقدان البصر ..
هل كان هذا الخراب هو نصيب لويس برايل وهل ترك العنان للإعاقة لتودي به إلى مهاوي الكآبة والضعف والإستكانة ؟؟؟
ولادته ونشأته :
في أحدى القرى القريبة من باريس ولد طفل لعائلة صغيرة وبسيطة في معيشتها ، وفرحت تلك الأسرة بذلك الطفل الجميل ذا العيون الخلابة بلونها وتعبير البراءة فيها ، وأُطلق عليه اسم لويس الذي كان على موعد مع الأقدار التي غيرت مجرى حياته بل مجرى حياة ملايين بعده ...
كان لويس طفل كباقي الأطفال يركض ويلعب ويترك العنان لعينيه تستكشف الأشياء من حوله ، ولكن تغير كل ذلك يوم قرر الأب أن يصطحب طفله الجميل معه إلى مكان عمله حيث كان يعمل في الصناعات الجلدية وخاصة صناعة السروج ، وتركه يعبث بأدوته فما كان من الطفل ذا الثلاث سنوات إلا أن رفع مثقابا (مخرزا) ليلهو به فأفلت منه إلى أحدى عينيه ففقأها فانطفأ نورها ، وأما العين الأخرى فأبت إلا أن تلحق بأختها فأصيبت بالتهاب العين السبمثاوي (Sympathetic ophthalmia(..
وهكذا أظلمت الدنيا من حوله.. وتغيرت أوضاعه خاصة بعد أن يأس والده من علاجه ..
ترى ماذا سيفعل ؟؟؟
أدخله والده إلى مدرسة اعتيادية لكن لويس لم يستطع أن يحقق الفائدة التي كان يرجوها ، فأرسله والده حين بلغ سن العاشرة من عمره إلى معهد خاص بتعليم المكفوفين في باريس ..
وآه مما لاقاه ذلك الطفل المنكوب في المعهد،
إذ لم تكن حالة المعهد بالحسنة ، فالطعام فيه لم يكن سوى ماء وخبز ، أضف إلى ذلك المعاملة السيئة التي كان يلقاها الطلاب من الإدارة والمدرسين كاستعمال أساليب قاسية للعقاب والردع ، وكأن قلوب هؤلاء قد قُدَت من صخر ..
وكم تهون المصاعب ويهون الجوع في سبيل تحقيق غاية أسمى ، غاية اثبات الذات والقول للعجز والإعاقة اذهبا إلى الجحيم..
امتاز لويس بين أقرانه بحدة الذكاء إذ كان متفوقا في دروسه وخاصة دروس الموسيقى فقد حباه الله بموهبة متوقدة ..
أما نظام الكتابة المتبع في التعليم حين كان لويس طالبا فقد ابتكره مؤسِس المعهد فالنتين أيوي ، ويتلخص هذا النظام بطبع الحروف بأشكالها العادية ولكن بحجم كبير على ورق سميك، تضغط على الورق من جهة فتبرز من الجهة الأخرى ويلمسها الكفيف بإصبعه لقراءتها .
وكان لهذا النظام الكثير من السلبيات إذ لم يكن نظامًا عمليًا لنشر الكتب ، ولا يستطيع الكفيف أن يكتب بهذه الطريقة فقط يتمكن من القراءة لأن كتابة الكتب كانت تتطلب أجهزة خاصة لا يملكها سوى المعهد ولا يستطيع الطلاب استخدامها ، أضف إلى ذلك كانت هذه الطريقة لا تتيح للمكفوف السرعة في القراءة ...
في عام 1821 قام ضابط في الجيش الفرنسي بزيارة للمعهد اسمه شارل باربيار ، والتقى خلالها لويس فأبلغه بأنه ابتكر طريقة جديدة مشفرة للكتابة يستطيع بها الجنود التخاطب فيما بينهم في الظلام بالأمور السرية بدون الحاجة للكلام وأسمى تلك الطريقة (الكتابة الليلية) كما أنه اخترع أيضا لوحا ونوعا من القلم يمكن استخدامه في الكتابة على الورق بدقة في خطوط متناسقة نقرا بالقلم الذي يشبه إلى حد كبير المثقاب الذي جنى على عين لويس ولكنه أصغر حجما ، حيث تبرز النقاط على ورق سميك أقصاها اثنتي عشرة نقطة، لكل منها دلالة كلامية ..
لقد واجه لويس بريل صعوبة في فهم تلك الكتابة فقام بتخفيض العدد الأقصى للنقاط من 12 إلى 6، وبدأ في نفس ذلك العام بالعمل على اختراع طريقة كتابة جديدة، وانتهى في عام 1824 وهو بعمر 15 سنة.
استخدم بريل في نظامه الجديد 6 نقاط فقط كرموز لحروف، بينما استخدم باربيار 12 نقطة كرموز لأصوات.
وقد قام بريل لاحقا بتوسيع نظام كتابته ليشمل رموز الرياضيات والموسيقى .
نُشِرَ أول كتاب بنظام كتابة بريل في عام 1829.
أصبح بريل مدرّسا في المعهد ولكن لم يتم اعتماد نظام كتابته الجديد رسميًا في المعهد في فترة حياته لأنه وُجِهَ بمقاومة ورفض اساتذته ذوي العقول المتحجرة حيث لم يتقبلوا أن يتفوق عليهم أحد تلاميذهم..
توفي لويس برايل عام 1852 وهو بعمر 43 . وقد اعتُمد النظام رسميًا في فرنسا في عام 1854، أي بعد وفاة بريل بعامين ..
وفي 1954 -الذكرى المئة لوفاته- أقيم احتفال كبير له في فرنسا ونقل رفاته إلى بانتيون كتكريما لجهوده في اختراع نظام كتابة بريل ...
هذا هو الرجل الذي قهر الظلام وسخر منه .
لقد ترك بصمة أنار من خلالها ملايين العقول وأشبع من خلالها ملايين القلوب التواقة للمعرفة والعلم .. فطريقته هي الطريقة المعتمدة الآن في جميع أنحاء العالم ...