لعبة السعادة / قصة قصيرة
الأخت الحبيبة / الأستاذة إيمان القدوسى
رفعت (رجاء) وجها راضيا مفعما بالحب تجاه زوجها وهي تقول (بعد عودتنا اليوم من زفاف (ساره) ابنتنا ، أصارحك أنك كنت نجم الحفل بلا منازع ، فقد كنت مثالا للأب الرائع) ثم خفضت بصرها وهي تغمغم لنفسها (رحمك الله يا دكتور ناصح لقد كنت محقا في وصفك لزوجي بأنه أفضل الأزواج)
أعادت كلمات رجاء الهامسة زوجها (حسن) عشرين عاما إلي الوراء واحتلت صورة الدكتور ناصح شاشة الذاكرة بأكملها ، كانت زوجته قد استسلمت للنوم أما هو فقد تسلل للشرفة وعاد علي متن خياله إلي الماضي ، الليل والهدوء والقمر السابح بين طبقات السحاب ورائحة الفل التي تعبق الشرفة كلها تذكره بزوجته ، زوجته الحبيبة التي امتزجت روحه بها ، كيف مضت الأيام كالسهم النافذ بتلك السرعة ؟
هذا الحب لم يكن سهلا رعايته والحفاظ عليه بل كادت عاصفة هوجاء تقتلعه من جذوره يوما لولا وصية الدكتور ناصح والتي اكتشف توا أنها كانت طعما بشكل ما ، التقطه هو وابتلعه وكان ما كان ، كانا وقتها زوجين صغيرين في العمر والتجربة وكانت المشاحنات قد تصاعدت بينهما حتي وصلت لطريق مسدود ، ولسبب لا يذكره لبساطته أخذت المشاجرة الأخيرة منحنى خطرا ، فقد تبادلا اتهامات سخيفة قاسية وعلت أصواتهما ولولا العزلة التي كانا فيها لاجتمعت الناس لتتفرج ولو نطقت جدران الشقة البسيطة لاجتهدت في فض الشجار ، كانت الصغيرة البائسة (ساره) في شدة الفزع وهي تحبو علي الأرض وتمسك قدم أمها أو أبيها وهي تبكي ولا تعرف أي زلزال هذا الذي روع عشها الهادئ.
وهكذا حزمت رجاء حقيبتها بحركات عصبية وحملت طفلتها علي كتفها وهي تغادر المنزل الصغير في المحافظة النائية التي يعمل بها زوجها مهندسا متوجهة إلي بيت أبيها في القاهرة بغير رجعة كما قالت وأردفت وقتها وهي تنظر إليه متوعدة منذرة (بعد ذلك سيكون التفاهم مع والدي) ، ولكن (ساره) الصغيرة أطلقت فجأة صراخا حادا وهي تتلوي وقد ازرق وجهها وعجزت أمها عن تهدئتها.
بعد دقائق كان الزوجان الشابان في عيادة الدكتور ناصح في انتظار الدور وقد استولى تعب الصغيرة المفاجئ على كل الاهتمام وانقطع بينهما حبل الكلام ، كان الدكتور ناصح رجلا حكيما مجربا وليس مجرد طبيب ، ساعدته عزلته في ذلك المكان علي أن ينهل من فروع العلم والمعرفة المتعددة مما أثرى نفسه وصقل شخصيته بخلاصة المعرفة وأعطاه الوقت الكافي للتأمل واستخلاص عبر الحياة.
أثناء الكشف لاحظ الفتور والتجهم في تعامل الزوجين وفطن إلي أن هناك آثار معركة مازالت سحبها تملأ الأجواء ، قال: الطفلة تعاني من تقلصات سببها التوتر فأشاح كل منهما بوجهه ، أيقن الدكتور أن حدسه سليما وأنه بالفعل كانت هناك معركة لم يهدأ بعد غبارها.
جلس الطبيب إلي مكتبه وكتب روشتة بسيطة ، ثم أخرج ورقتين مطبوعتين من درج مكتبه وهو يقول بابتسامته المطمئنة (هذا استبيان أعددته لبحث أقوم به فهلا تتكرمان بملئه والإجابه علي أسئلته ، علما بأن الأسماء لن تذكر والأسئلة عامة)
كانت الأسئلة التي أجاب عنها الزوجان عامة فعلا وتخص رأيه عن الطرف الآخر وكيف يراه (هل هو إنسان محترم ـ متدين ـ مجتهد ـ يقوم بواجباته ـ اخترته بنفسك ووافقت عليه شريكا لحياتك ـ تشعر تجاهه بعاطفة مودة وهكذا) أجاب الزوجان عن الأسئلة جميعا بنعم وسلما الورق ، قبل انصرافهما شدد عليهما في خطورة انتقال الطفلة لمكان آخر أو سفرها وأهمية توفير جو هادئ حولها وكانت الاستشارة بعد أسبوع.
مر الأسبوع سريعا ليبدد سحب الجفاء ويقارب بين الزوجين علي استحياء ، كان حب الطفلة ورعايتها هو الشاغل الذي يقرب بينهما في كل لحظة ، كان هو يذوب حبا في زوجته وابنته وهو يراها في أحضانها ويحدث نفسه إنهما حبة القلب وكانت تنتظر عودته بفارغ الصبر لتأنس بمن يساعدها ويطمئنها علي ملاكها الساجي في فراشه ، هم كل منهما بمصالحة الآخر ولكنه كان يتراجع ، ذهبا سويا للاستشارة وكانت الطفلة قد تماثلت للشفاء من وعكتها البسيطة ، وسلم الدكتور ناصح نتيجة الاستبيان للمهندس حسن وقد كتب ملحوظة (هنيئا لك لقد احتلت زوجتك المركز الأول بين كل الزوجات محل البحث فحافظ عليها وأكرمها فهي جوهرة نادرة ولكن يا صديقي لا تخبرها بذلك)
الآن فقط وبعد عشرين سنة فهم (حسن) لعبة السعادة التي دفعه الدكتور ناصح لها ،
ابتسم للذكري (يا لك من عجوز ماكر أيها الطبيب الذي يفهم روح الطب ولا يقتصر علي أدويته وكيميائه ، لقد عالجت الطفلة وأباها وأمها أيضا بطريقتك البسيطة جدا والناجعة).
يبدو أنه قد أسر لزوجته بنفس النصيحة (أن زوجها أفضل الأزواج) وأوصاها نفس الوصية بأن تكتم النتيجة وتعتبرها سرا ، ولذلك فقد تغير الموقف تماما فور عودتهما للبيت واستطاعت تلك الوصية الطيبة أن تستخرج منهما أفضل ما لديهما حتي صارا فعلا من أسعد الأزواج.
ومن المؤكد أنه قد مارس نفس اللعبة مع غيرهما من الأزواج ليجعل كل منهما يكتشف كيف يشعر بالآخر متجذرا داخل نفسه وكيف تبدو الصورة الحقيقية التي قد يعلوها أحيانا بعض أتربة الغضب ومتاعب الحياة اليومية.
لم يخدع الدكتور ناصح أحدا بل قال حقيقة يغيبها السخط والغضب (زوجك هو أفضل الأزواج بالنسبة لك إذا بذلت جهدا لإثبات ذلك وزوجتك هي خير النساء لو اكتشفت مواطن فضائلها) استدار المهندس لنبات الفل وهو يفكر مثل كل نبتة طيبة تنمو نبتة الحب بالري والرعاية ومن دونها تذبل وتموت ، ومع ازدهار النبتة يفوح عطرها ليبهج النفس والروح.