منتدى اولاد حارتنا
في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا

او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة الحارة

سنتشرف بتسجيلك

شكرا في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية 829894
في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية 15761575160515761577
مراقبة الحارة
في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية 103798


منتدى اولاد حارتنا
في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا

او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة الحارة

سنتشرف بتسجيلك

شكرا في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية 829894
في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية 15761575160515761577
مراقبة الحارة
في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية 103798


منتدى اولاد حارتنا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


أجتمــــــــــــــــــــــاعى شــــــــــامل - دينى - ثقافى - علمى - نصائح
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
أولاد حارتنا ترحب باى حوارجى وتدعوهم على قهوة حارتنا لشرب المشاريب وتدعوهم لسماع درس التاريخ من أستاذ فطين مدرس التاريخ ومشاهدة احدث الأفلام وكمان تحميل الالعاب وبرامج للموبيل وتسمع حكاوى خالتى بامبة  وتتفرج على صور استوديو عمى أنس وتسمع من ميشو على احلى المغامرات

 

 في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
عاشق المصطفى
عضو / ة
عضو / ة
عاشق المصطفى


الساعة الأن :
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 837
نقاط : 1628
السٌّمعَة : 1
تاريخ التسجيل : 15/10/2010

في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية Empty
مُساهمةموضوع: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية   في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية Icon_minitime1السبت 16 أكتوبر 2010, 12:29 am

الدكتور/ إبراهيم علي محمد أحمد

العدد: 54 رجب 1417هـ السنة السادسة عشرة

في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية




‏الدكتور / إبراهيم علي محمد أحمد
‏‏
* من مواليد السودان .‏
‏* حصل على بكالوريوس في العلوم، من جامعة الإمام محمد بن سعود ، عام 1987م .
‏* وحصل على درجة الماجستير في الدعوة والاحتساب ، من جامعة الإمام محمد بن سعود ، عام 1990م.
‏* نال درجة الدكتوراه في الدعوة الإسلامية ، من جامعة أم درمان الإسلامية ، عام 1994.
‏* يعمل أستاذا مساعدا بكلية الدعوة والإعلام ، جامعة أم درمان الإسلامية .
‏* رئيس قسم الاحتساب والرقابة الشرعية بكلية الدعوة والإعلام .
‏* عضو دائرة الأديان واللغات ، المركز العالمي لأبحاث الإيمان .
‏* له عدة بحوث وكتب منشورة ، منها:
‏- خلافة المجاهد في أهله .
‏- تقسيم الغنائم .
‏- اهتمام الإسلام بالمهتدين .
‏- وله تحت الطبع: الجانب الأمني للسيرة النبوية (العهد المدني).‏‏
تقديـم بقلم: عمر عبيد حسنه

الحمد لله القوي العزيز، الذي أوقف الأمة المسلمة على ما شرع للأمم السابقة، وأورثها النبوة والكتاب، واصطفاها لحمل الرسالة الخاتمة الخالدة، وحفظ لها كتابها من التحريف والتأويل، وناط بها الشهادة على الناس، والقيادة لهم، فقال تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهـداء على الناس ) (البقرة: 143).
وجعل الإسلام دعوة ودولة، وقرآنًا وسلطانًا، وحذّر الأمة من موالاة أعدائها، الذين يودون عنتها ولا يألونها خبالاً، واعتبر موالاة غير الله ورسوله والذين آمنوا ردة عن الإسلام، وسببًا للسقوط والاستبدال، فقال تعالى بعد أن نهى عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء: ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ) (المائدة: 54).
وقال تعالى: ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون * ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ) (آل عمران: 72-73).
كما حذّر الأمة المسلمة أيضًا من الغفلة وغيبوبة الوعي، وطلب إليها أن تبقى يقظة حذرة من مكائد عدوها، فقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعًا ) (النساء: 71).
وقال: ( ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة) (النساء: 102).
وشرع الجهاد لحماية منجزات الدعوة، ووقايتها من مؤامرات ومكائد الأعداء، وجعله رأس سنام الإسلام، كما جعله ماضيًا إلى يوم القيامة، لدرء الفتن، وإقرار حرية التدين، ودفع الاعتداء، فقال الرسول صلى الله عليه و سلم: ( الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة ) (رواه الطبراني في الأوسط وفي سنده مقال)، لأن العدوان على هذا الدين مستمر إلى يوم القيامة، ولأن التدافع بين الحق والباطل من سنن الحياة الاجتماعية الماضية -فالشر من لوازم الخير- قال تعالى: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا من المجرمين ) (الفرقان: 31)، فلابد أن يدرك المسلمون مهمتهم ورسالتهم، فيأخذوا حذرهم على الأصعدة المختلفة، وأن يعدوا ما استطاعوا من القوة والحذر واحتياطات الأمن، لنشر الدعوة وحماية منجزاتها، في كل المراحل، لأن حماية المنجزات وتأمين الامتداد، لا يقل أهمية عن الإنجاز نفسه.
وصلّى الله على محمد، رسول الرحمة، وخير مثال يُحتذى في الدعوة والإنجاز، وفي وسائل حماية الدعوة والإنجاز وتأمين امتدادها، الذي جاء الأمة من نفسها، وبُعث في الأميين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. قال تعالى: ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) (الجمعة: 2).
وهو الذي شهد الله له أنه معلم الكتاب، ومزكي النفوس، ومنقي المسالك من الزيغ والانحراف، ومبين كيفيات تنزيل القرآن على الواقع، وتقويم سلوك البشرية به، ذلك أن من الأمور التي أصبحت مُسَلَّمة، أن العقل لا يمكنه بأدواته ومحدوديته رؤية الصراط المستقيم، بنتائجه وعواقبه، ولو كان العقل دون الوحي قادرًا على ذلك، لانتفت الحاجة إلى النبوة.. ولو كان قادرًا على الاغتراف المباشر، أو التعامل المباشر مع القرآن، لما كان هناك حاجة إلى الرسول القدوة، الذي يجسّد المبادئ ويقدم المثال الأنموذج، ويُناط به البيان، بقوله وفعله وإقراره، أي بسنته وسيرته وما أقره من اجتهاد أصحابه.
وبعـد:
فهذا كتاب الأمة الرابع والخمسون: ( في السيرة النبوية.. قراءة لجوانب الحذر والحماية ) للدكتور إبراهيم علي محمد أحمد، في سلسلة ( كتاب الأمة )، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في استرداد دور الأمة المسلمة، وبناء خيريتها، وإخراجها للناس من جديد، حتى تؤدي رسالتها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، وذلك لا يتحقق إلا بإعادة بناء النخبة أو الطائفة القائمة على الحق، التي لا يضرها من خالفها، حتى يأتي أمر الله وهي على ذلك، لأن هذه الطائفة هي التي تشكل ضمير الأمة، وخميرة النهوض، والأنموذج التطبيقي العملي لقيم الدين، والدليل الممتد على خلود الإسلام، وقابليته للتطبيق في كل زمان ومكان.. إنها الطائفة الأمل، التي تحاول النجاة اليوم في سفينة هي أشبه ما تكون بسفينة نوح عليه السلام، وذلك بالتزامها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، والعض عليهما بالنواجذ، لتستأنف الدورة الحضارية القادمة -إن شاء الله- بعد أن عم الطوفان، وانتشر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.
لذلك سوف يكون من الأولويات المطلوبة باستمرار، إعادة بناء وتسديد مسيرة هذه القاعدة، أو هذه النخبة، أو الطائفة التي تتحقق بالمرجعية الشرعية من خلال الكتاب والسنة، وتحقيق الأمن والحماية لها، أو بمعنى آخر تصوّب شهادة الرسول صلى الله عليه و سلم على نفسها، لتصبح مؤهلة للشهادة على الأمة والناس، استجابة لقوله تعـالى: ( ليكون الرسول شهيدًا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) (الحج: 78)، وتغطي الاختصاصـات المتنوعـة في شُعَب المعرفة، وتحقق الحضور والشهود والأنموذج الذي يثير الاقتداء في المواقع المختلفة، وتدرك سنن الله في السقوط والنهوض الحضاري، على مستوى الأمة والنخبة على حد سواء، وبذلك تصبح قادرة على مغالبة قَدَر بقَدَر، أو الفِرار من قَدَر إلى قَدَر أحب إلى الله، بحيث تبصر سنة الله في الذين خلوا من قبل، وتدرك أنّ هذه السنة قدر ممتد لا يتبدل ولا يتحول، قـال تـعـالـى: ( سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ً) (الأحزاب: 62). وقال: ( ولن تجد لسنة الله تحويلا ً) (فاطر: 43).. أي تبصر الماضي، وتستوعب الحاضر، لتستشرف المستقبل.
وقد يكون من المطلوب، ونحن بين يدي محاولات جادة لدراسة وتحليل جوانب من عطاء السيرة النبوية على أكثر من صعيد، ليكون ذلك محلاً للاقتداء والتأسي، وتقديم رؤية منهجية لبناء النخبة، واصطفاء الكفاءات للمهمات التي تتناسب معها، وتسديد مسيرة الأمة، وبيان سبيل بنائها لمشاريع النهوض، وأهمية التنبه لحماية منجزاتها في كل مرحلة، لتفيد من ذلك كله في حاضرها ومستقبلها، أن نقدم بعض المنطلقات والمفهومات، التي نراها ضرورية في إطار التأسي والاقتداء.
ولعل القضية الأهم، التي لابد أن نعرض لها ابتداءً، ونوضحها في مجال تصويب مسالكنا لتتحقق شهادة الرسول صلى الله عليه و سلم علينا، التي سبيلها التأسي والاقتداء، هي قضية بشرية الرسول صلى الله عليه و سلم، وحدود وأبعاد عصمته، ذلك أن من الأمور المقررة شرعًا وعقلاً وواقعًا، أن الرسول صلى الله عليه و سلم بشرٌ يُوحى إليه، وهي حقيقة أكدها القرآن الكريم، واعتبرها من الأمور المحسومة غير القابلة للتشكيك أو المساومة، لما للغفلة عنها من الأبعاد والآفاق والتداعيات الخطيرة، في مجال العقيدة والعبادة والسلوك.
وحسبنا في ذلك، ما قصّه القرآن علينا من صور الضلال والتضليل الذي وقع به أصحاب الأديان السابقة، ممن قـالوا: المسيح ابن الله، وعـزير ابن الله، وما كان لذلك من المضاعفات التي أصابت الركيزة الأساس، والمنطلق الأول: عقيدة التوحيد أو التدين بشكل عام، والآثار الشركية الخطيرة التي ترتبت على ذلك في النظر للخالق، والحكم على القدرة والإرادة والفعل من خلال صفات المخلوق، والنظر للرسول المخلوق العبد، ومنحه من القدرة والإرادة وفعل الخوارق والقدسية من خلال صفات الخالق سبحانه وتعالى، وانعكاس ذلك فيما بعد على ممارسات رجال الدين في التسلط والاستغلال، والتميز عن خلق الله بما يدَّعون من خلافة الألوهية ووراثتها، حتى جاء الإسلام، وصوّب الأمر، وأعاده إلى نصابه، على مستوى العقيدة، والعبادة، والسلوك، والكون، والحياة: ‏( إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم ) (الحجرات: 13).
‏( أنتم بنو آدم، وآدم من تراب ) (رواه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة).
( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ) (متفق عليه).
إنه التصويب لمسيرة الحياة على مستوى الإنسان والزمان والمكان. وقد يكون من المفيد للتذكير، أن نأتي ببعض النصوص التي تؤكد بشرية الرسول صلى الله عليه و سلم، لأن هذه البشرية تعتبر فيصلاً في مجال العبودية والتدين والتأسي والاقتداء، الذي هو السبيل لإعادة بناء النخبة، وتشكيل الأمة.
قال تعالى: ‏
( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادًا لي من دون الله ) (آل عمران: 79). ‏
( قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ) (إبراهيم: 10). ‏
( قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم )(إبراهيم: 11). ‏
( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد ) (الكهف: 110). ‏
( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون ) (الأنبياء: 34). ‏
( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب ) (الشورى: 51). ‏
( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرًا مثلنا ) (هود: 27). ‏
( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولا ً) (الإسراء: 93).
وقال الرسول صلى الله عليه و سلم: ( إنما أنابشر، وإنكم تختصمون إليّ، فلعل بعضَكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيتُ له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار ) (رواه مالك وأحمد والشيخان عن أم سلمة).
وقال لرجل مرتعد خائف متهيب من مقابلة الرسول صلى الله عليه و سلم: ( هَوِّن عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابنُ امرأة من قريش كانت تأكل القَديد ) (رواه ابن ماجه والحاكم عن أبي مسعود البدري). ‏
( إنما أنا بشرٌ مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلتُ لكم: قال الله، فلن أكذب على الله ) (رواه أحمد وابن ماجه من حديث طلحة). ‏
(إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيتُ فذكروني ) (رواه الشيخان عن ابن مسعود). ‏
( يا أم سُلَيْم! أما تعلمين أني اشترطتُ على ربي فقلتُ: إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضبُ كما يغضبُ البشر، فأيما أحد دعوتُ عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن تجعلها له طهورًا وزكاة، وقُربة تقرِّبه بها منك يوم القيامة ) (رواه أحمد ومسلم عن أنس).
وهذه البشرية، جعلت حياة الرسول صلى الله عليه و سلم كحياة البشر، دون تميز عمن حوله، لذلك كان الأعرابي إذا غشي المجالس يقول: أيكم محمد؟
هذه النصوص، التي لم نوردها على سبيل الاستقصاء، وإنما أتينا على ذكر نماذج لترسيخ الحقيقة التي تؤكد البشرية للرسل، وأنه يجري عليهـم ما يجري على سائر البشر، من خضوعهم لقوانين الحياة، من الولادة والوفاة، والصحة والمرض، والطعام والشراب، والغضب والرضا، وما إلى ذلك من الخصائص والصفات التي غرزها الله في طبائع البشر وكينونتهم، وأودعها فيهم.. ولهذا المنطلق أهمية قصوى في مجال العقيدة والعبادة والسلوك والدعوة والتأسي والاقتداء، الأمر الذي سنعرض له في مكانه إن شاء الله تعالى.
والجانب الآخر والأهم، الذي قد يعتبر مكملاً لموضوع بشرية الرسل أو بشرية الرسول القدوة عليه الصلاة والسلام، هو ما يمتاز به عن سائر البشر من الوحي، أو من العصمة في تبليغ الرسالة، وما يقتضيه ذلك من الصفات.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: ( الحديث النبوي: هو عند الإطلاق ينصرف إلى ما حُدِّثَ به عنه صلى الله عليه و سلم بعد النبوة، من قوله وفعله وإقراره، -والسيرة فعله وإقراره لفعل أصحابه رضي الله عنهم- فإن سنته ثبتت من هذه الوجوه الثلاثة، فما قاله، إن كان خبرًا وجب تصديقه به، وإن كان تشريعًا إيجابًا أو تحريمًا أو إباحة، وجب اتباعُه فيه، فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون -عن الخطأ- فيما يخبرون به عن الله عز وجل، فلا يكون خبرهم إلا حقًا، وهذا معنى النبوة، وهو يتضمن أن الله يُنْبئُه بالغيب، وأنه يُنبئ الناسَ بالغيب، والرسول صلى الله عليه و سلم مأمورٌ بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه ) (نقلاً عن قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، لجمال الدين القاسمي رحمه الله، ص62).
واختلف العلماء -كما هو معروف في مظانه من كتب العلم-: هـل ما ورد عن النبي صلى الله عليه و سلم كله من الوحي؟ كما اختلفوا أيضًا في حدود عصمة الأنبياء، وهل هي عصمة مطلقـة لكـل ما يصـدر عنهـم، سـواء في ذلك ما يتعلق بإبلاغ الرسالة، أو غيرها من الأمور الدنيوية؟
فذهب بعضهم إلى أن الرسول صلى الله عليه و سلم لا يقول إلا حقًا، لأنه مؤيد بالوحي ومسدد به، وهذا يعني أن كل ما ورد عنه بطرق النقل المعتمدة علميًا ومنهجيًا يعتبر وحيًا، ودليلهم في ذلك ما روي عن عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما، وكان يكتب كل ما يسمع من النبي صلى الله عليه و سلم، فقـال له بعـض النـاس: إن رسـول الله يتكلـم في الغضب، فـلا تكتب كـل ما تسمع، فسأل النبي صلى الله عليه و سلمعن ذلك فقال: ( اكتبْ فوالذي نفسي بيده، ما يخرج منه ( يعني فمه ) إلا حق ) (رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عمرو).
أما أن الحديث ( القول والفعل والتقرير، والسيرة فعل وتقرير كما أسلفنا ) من الوحي، فالعلماء مجمعون على ذلك، إذا كان موضوعه مما له علاقة بمهمة الرسول صلى الله عليه و سلم في إبلاغ الرسالة، أو بيان مجمل القرآن، أو تشريع الأحكام الجديدة في الحلال والحرام، لحديث المقدام بن معديكرب، قال: قال رسول صلى الله عليه و سلم: ( ألا إنِّي أُوتيتُ القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه، وإن ما حرّم رسول الله كما حرّم الله ) (رواه أبو داود والدارمي، وابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب).
وما روي عن حسان بن عطية، قال: كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن. وما روي عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( آتاني الله القرآن ومن الحكمة مثليه ) ( رواهما أبو داود في مراسيله).
لذلك يرى هؤلاء العلماء أن العصمة هي في حدود ما كان له علاقة مباشرة بمهمته عليه الصلاة والسلام، من حيث إبلاغ الرسالة، وبيان أحكام الحلال والحرام.
أما فيما يتعلق بأمور الدنيا من الحرف والصناعات والزراعات، وما له علاقة بالاجتهاد والظن، فإنما يرد إلى طبيعته البشرية، وآرائه الدنيوية القابلة للخطـأ والصواب، لذلك نرى أن النووي رحمه الله سلك هذا المسلك في شرحه لحديث تأبير النخل، في باب: وجوب امتثال ما قاله صلى الله عليه و سلم شرعًا، دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي ( مسلم بشرح النووي، 13-116 ).
وقد أوضح الرسول صلى الله عليه و سلم ذلك في طائفة من أقواله وأفعاله، ومنها: حديث: (إنما أنا بشر مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب )(رواه مسلم).
والخلاصة التي ننتهي إليها -والله أعلم- أن العصمة إنما تكون في حدود ما تميز به الرسول صلى الله عليه و سلم عن سائر البشر من الوحي وإبلاغ الرسالة، لأن مجرد احتمال الخطأ يعود بالشك والإبطال لمعرفة الوحي أصلاً -لأنه كما هو معلوم: إذا طرأ الاحتمال بطل الاستدلال- وما يقتضيه إبلاغ الرسالة من الخصائص والصفات المعروفة، وأن كل ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام عن طريق النقل المعتمد من اجتهاد في هذا المجال هو معصوم، لأنه إما صواب فيقره الوحي، وإما خطأ فيصوبه الوحي، وهذا الرأي هو الذي تطمئن إليه النفس، وتؤيده النصوص الشرعية في الكتاب والسنة. ‏
ونخشى أن نقول: إن المغالاة في أبعاد العصمة، وما يترتب على ذلك من الإطراء والتقديس، يمكن أن تُلغى معها الطبيعة البشرية للرسول عليه الصلاة والسلام، وترفعه إلى مرتبة الألوهية، الأمر الذي يُناقض قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تُطْرُوني كما أَطْرَتْ النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) (رواه البخاري عن عمر).
كما أن هذه المغالاة في العصمة سوف يترتب عليها الكثير من المخاطر العقدية والتربوية.. والأهم -في تقديري، فيما يخص نطاق التأسي- أنها ستُخرج الرسول صلى الله عليه و سلم من أن يكون محلاً للتأسي والاقتداء للبشر، الذي يخطئ ويصيب، إذ كيف يمكن لبشر أن يقتدي بمن لا يتصف بصفات البشر، ولا يعاني معاناة البشر، ولا يجري عليه ما يجري على البشر من الخطأ والصواب؟
لذلك نقول: إن المشكلة كل المشكلة فيما لو لم يكن الرسول صلى الله عليه و سلم بشرًا، يجري عليه ما يجري على البشر، وليست المشكلة في كون الرسل من البشر، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ولقد أكّد القرآن الكريم هذه النقطـة وصوَّبَها، ودحـض شبهـة المشـركين بقولـه: ( ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون ) (الأنعام: 9).
فالذين يغالون في قضية العصمة، ولو بِنِيِّةٍ سليمة وحماس للإسلام ورسوله، يُخرجون الرسول عليه الصلاة والسلام، من حيث يدرون أو لا يدرون، من مجال الاقتداء والتأسي، وبذلك يحاصرون خلود الرسالة وعطاءها في كل زمان ومكان، ويبتعدون بالمثال والأنموذج عن الواقع، وعن إمكانية التطبيق، وقد يقعون في التأليه -والعياذ بالله- كما فعلت اليهود والنصارى.
فالرسول القدوة صلى الله عليه و سلم بشر إنسان، ابتُعث في قومه ومنهم، قال تعالى: ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (الجمعـة: 2). ‏
( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) (التوبة: 128)
إنه صلى الله عليه و سلم بشر إنسان، خضع في حمله وولادته ورضاعه، ويتمه وشبابه وهرمه، ومرضه ووفاته، للسنن الفطرية والقوانين الطبيعية، التي يخضع لها سائر البشر، فلقد كان حمله طبيعيًا، استغرق مدة الحمل نفسها، كما كانت ولادته طبيعية كسائر الولادات، وعانى من فقد الأب والأم ككثير من البشر، وخضع لكفالة الأقارب، وبلغ سن الشباب، وعمل في الأعمال الموجودة في مجتمعه، والتي كان يمارسها قومه كالرعي والتجارة، وتزوج وأنجب، وفقد الابن والبنت والزوجة والصَّدِيق، وتعرّض للأذى والمرض، والنصر والهزيمة، وحَلَّت به جراحات الحرب، مما يمكن أن يحل بكل إنسان، وتعرّض للنسيان كسائر البشر، فعندما نسي في صلاته أكد على بشريته فقال: ( إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيتُ فذكِّروني ) (رواه الشيخان عن ابن مسعود).. وأعلن أكثر من مرة أنه بشر من البشر، وأن النبوة لم تخرجه عن بشريته، وإنما امتاز عن البشر بالوحي والعصمة في تبليغ الرسالة.
ولعل قوله تعالى: ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم )، يعبّر أدق تعبير عن هذه الحقيقة.
وهنا قضايا قد يكون من المفيد التوقف عندها قليلاً لما لها من علاقة ببشرية الرسول القدوة صلى الله عليه و سلم، وحدود عصمته، وأنه بُعث في الأمة الأمية رسولاً منها، أو من نفسها، ونحن نحاول أن نلمح بعض مواقع التأسي والاقتداء، ومنطلقات التعامل معها، وهي:
ـ إن حركات التغيير والإصلاح ومشاريع النهوض والاقتداء، بكل أهدافها ووسائلها وآلياتها وأدواتها المعرفية، لابد أن تخرج من رحم المجتمع نفسه، وتكون مستوعبة لمعادلة الأمة الاجتماعية، ومتمثلة لقيمها الدينية، مدركة لمشكلاتها ومعاناتها الواقعية، تفقه القيم الإسلامية، وتفهم العصر ومشكلاته، وتتعامل مع السنن الجارية على البشر، وتؤمن أن التغيير المنشود إنما يتحقق من خلال عزمات البشر واستطاعاتهم واجتهادهم وجهدهم.
ـ وإن أية مشاريع للإصلاح والتغيير، تأتي من خارج الأمة، وتجافي القيم الإسلامية، وتجهل معادلة الأمة الاجتماعية، أو تعدل عن السنن الجارية إلى السنن الخارقة، سوف تُمنى بالفشل.
ـ وإن أية مشروعات تحاول أن تخرج الرسول صلى الله عليه و سلم عن طبيعته البشرية وتغالي في حدود عصمته، سوف تخفق في الاقتداء، وفي تحقيق أهدافها، لأنها تناقض الحقيقة، وتنافي منهج الرسول صلى الله عليه و سلم وسيرته.
ـ وإن عصمة الاجتهاد والفكر ليست لأحد، فكل إنسان يجري عليه الخطأ والصواب، عدا المسدد بالوحي.. وإن كل اجتهاد قابل للمراجعة والنقد والنقض والرد.. وإن العصمة للكتاب والسنة، وبعد ذلك، وفي هدي ذلك، لعموم الأمة، بدليل قوله صلى الله عليه و سلم: ‏
(إن الله تعالى لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله فوق الجماعة، ومن شذ شذ في النار ) (رواه الترمذي عن ابن عمر). ‏
( إن الله تعالى قد أجار أُمتي أن تجتمع على ضلالة ) (رواه ابن أبي عاصم عن أنس). ‏
( إن أُمتي لن تجتمع على ضلالة ) (رواه ابن ماجه عن أنس).
ـ وإن كل حركة إصلاح أو تغيير تعجز عن تقديم الحلول في ضوء السيرة، التي تمثل الفقه والتجسيد العملي أو التنزيل العملي لقيم الكتاب والسنة على الواقع، هي بعيدة عن الاقتداء، وعاجزة عن تمثل القيم الإسلامية، فالسيرة هي البيان النبوي العملي والضابط لكيفيات تعامل البشري بطبيعته ومحدوديته وظروفه، مع الوحي المعصوم والمطلق والصالح لكل زمان ومكان.
فالخلود للرسالة الإسلامية يعني، فيما يعني، امتلاك الإمكانية على قراءة السيرة في كل عصر، بشكل يحقق القدرة على الإجابة عن مشكلات الواقع في كل زمان ومكان، أو بمعنى آخر امتلاك القدرة على تجريد السيرة النبوية من قيد الزمان والمكان، وتوليد رؤية من خلالها، لمعالجة الواقع والإجابة عن أسئلته ومشكلاته، وإن أية قراءة بعيدة عن هذه الإجابة، أو عاجزة عنها، أو لا تشكل رؤية إضافية، هي تكريس للضياع، وتعطيل لفاعلية السيرة في حياة الأمة.. صحيح أن المسلمين نقلوا السيرة من جيل إلى جيل، فحققوا أمانة النقل والحفظ.. أما قراءة السيرة لكل جيل من خلال مشكلاته ومعاناته والإجابة عن أسئلته، فقد لا يتوفر في المكتبة الإسلامية من ذلك إلا النذر اليسير.
لقد تحولت السيرة في مجتمعات الجهل والتخلف، إلى موالد وموائد وأناشيد وطبول، تشيع فيها البدعة، وتغيب فيها السنة، وتضيع معها الأوقات في الأكل والشرب والطرب!
وإذا نظرنا إلى المشكلة من هذه الزاوية -زاوية قراءة السيرة لكل جيل من خلال مشكلاته- أمكننا القول: إن الكثير من الكتابات في السيرة، التي بين أيدينا، إذا نزعنا عنها تاريخ الطبعة واسم المؤلف، أي إذا نزعنا غلاف الكتاب، لا يمكن أن نعرف لأي عصر تنتسب، وأي مجتمع تُخَاطِب، وفي أي زمـن صـدرت، ما لـم ننظـر في اسـم المؤلف وتاريـخ الطبعـة ومكان الصدور.
وقد تكون المشكلة الحقيقية هنا، تكمن في غياب المقاصد الحقيقية، التي تمثل معاني الخلود، عند دارسي السيرة النبوية، الخلود الذي يعني تجردها عن قيود الزمان والمكان، وقدرتها على الإجابة عن مشكلات الأمة في كل زمان ومكان -كما أسلفنا- الأمر الذي جعلها -على أحسن الأحوال- تاريخًا من التاريخ ، وليست مصدرًا للتشريع والاهتداء.
ومما لا شك فيه أن السيرة من الناحية الزمانية والناحية المكانية ، أي الجغرافيا التاريخية، تمثل حلقة تاريخية من حياة الأمة المسلمة، لكن هذه المرحلة هي من التاريخ، وهي من الحاضر، وهي من المستقبل.. هي من التاريخ والجغرافيا زمانًا ومكانًا، كما أسلفنا، لكنها من الحاضر عطاءًا ومصدرًا للتشريع، ومن المستقبل رؤية واستشرافًا.. فإذا كان التاريخ مصدرًا للدرس والعبرة، فإن السيرة مصدر لذلك وما فوقه، فهي مصدر للتشريع، لأنها فترة مسددة بالوحي ومؤيدة به، وحقبة بيان عملي، ودليل تعامل خالد، لتنزيل قيم الإسلام أو قيم السماء على الواقع البشري، لذلك فأية دراسة للسيرة لا تتحقق بهذه الرؤية، ولا تنطلق من هذه المنطلقات، سوف لا تبلغ المقصد، ولا تحقق الهدف.
إن غياب هذا المنطلق أو هذه الرؤية، أدى من جانب إلى الامتداد والاستمرار والتبحر في فقه الأحكام النظري، سواء في ذلك الفقه الذي يسير خلف المجتمع، ويكتفي بالحكم على تصرفاته بالحلال والحرام، بدل أن ينزل إلى الساحة فيصبغها بفعل الحلال ومنع الحرام، أو الفقه الذي خرج من الحاضر والمستقبل، واستغرقه التنظير بالفراغ بعيدًا عن معالجة المشكلات الحقيقية.
كما أدى غياب هذا المنطلق وهذه الرؤية أيضًا، إلى تراجع أو توقف الاجتهاد في الفقه التطبيقي، أو ما يمكن أن نطلق عليه فقه التنزيل، فتحول الفقه إلى تجريدات ذهنية بعيدة عن الواقع، وبدأ مجتمع المسلمين يتشكل ويحل مشكلاته بالوافد من القوانين والخطط المطلوبة للحياة، التي ابتعدت به عن الفقه التطبيقي، وأصبح الفقه لاحقًا للمشكلات لا سابقًا عليها كي ينير لها الطريق.
وهنا قضية جديرة بالتنبه، وهي أن السيرة النبوية التي اكتملت على عين الوحي وتسديده، والتي هي فعل المعصوم، لها صفة المعيارية الخالدة في الإطار العملي التطبيقي.
والمسيرة الإسلامية، أو أقدار التدين، في ارتفاعها وانخفاضها، والجماعات والأفراد، والجمعيات والمؤسسات، قد تحاول التأسي والاقتداء، وقد يقوم بعض الكتاب والباحثين بنوع من الإسقاط للسيرة على تصرف بعض الجماعات أو الأحزاب أو المؤسسات، لتسويغ بعض الممارسات، وإعطائها صفة المشروعية، سواء في ذلك الدراسات التي تسبق التصرف والممارسة لإعطائه جواز المرور والتبني، أو التي تلحق التصرف لتسويغه وتبريره وإعطائه صفة المشروعية، كأن تُقرأ السيرة حركيًا أو عسكريًا، أو أمنيًا، أو اقتصاديًا، أو تربويًا، أو ما أشبه ذلك من القراءات، وتُفَصَّل حوادثها على تصرفات جماعة أو مؤسسة.
إن هذه القراءات أو هذه الإسقاطات، مهما كانت دقيقة أو غير دقيقة، لا يمكن بحال من الأحوال أن تكتسب صفة القدسية أو العصمة، أو بعبارة أدق صفة المعيارية، وتصبح بديلاً عن السيرة، مهما اقترب الاجتهاد من الصواب وابتعد عن الخطأ، ذلك أن السيرة بما توفر لها من رعاية الوحي، وفعل المعصوم، تبقى لها وحدها صفة المعيارية.
من هنا نقول: إنه من الخطورة بمكان تفصيل قيم السيرة وأحداثها على واقع بعض الجماعات والمؤسسات، لتصبح فيما بعد ممارسة الجماعات والمؤسسات هي المعيار، لأن في ذلك ما فيه من إجهاضٍ لمعاني السيرة النبوية، وقدسيتها. إن ممارسة الجماعات والأفراد والجمعيات والمؤسسات لها صفة التاريخ، الذي يفيد العبرة أو الدرس، ولا تكتسب المعيارية كالسيرة.
ولعل الإشكالية الأكثر خطورة في الكتابة عن السيرة، هي في افتقاد بعض الباحثين والدارسين إلى المرجعية الشرعية، أو النظام المعرفي الإسلامي المستخدم في النظر والتحليل، البعيد عن الإدراك والإحاطة بمعرفة الوحي، التي تشكل الضابط المنهجي والإطار المرجعي لكل دراسة في المجال الإسلامي بشكل عام، وفي السيرة بشكل أخص، حتى لو جاءت هذه الدراسة من المنتصرين أو المتحمسين للقضية الإسلامية، ذلك أن الإصابات والحفر التي تأتي من قبل المتحمسين المفتقدين للمرجعية الشرعية في النظر والتناول، تكون على المدى البعيد هي الأخطر، لأنها تصنع مشكلة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عاشق المصطفى
عضو / ة
عضو / ة
عاشق المصطفى


الساعة الأن :
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 837
نقاط : 1628
السٌّمعَة : 1
تاريخ التسجيل : 15/10/2010

في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية Empty
مُساهمةموضوع: رد: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية   في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية Icon_minitime1السبت 16 أكتوبر 2010, 12:33 am

وتساهم بالتشكيل الذهني والثقافي الغلط بدل أن تقدم حلاً، وتزيد من حالة التخاذل الثقافي.. وكأني بحال الذين يُقْدِمُون على أمرٍ، دون امتلاك أدواته ووسائله، يشبه إلى حد بعيد حال بعض وَضَعَةِ الحديث، الذين كانوا يسعون إلى كل قول جميل أو منمق أو مرغوب، وينسبونه إلى الرسول صلى الله عليه و سلم، كأن يزيدون في العبادات والطاعات، رغبة في الترغيب والترهيب، من عند أنفسهم، وينسبون ذلك إلى الرسول صلى الله عليه و سلم، وإذا استُنكر عليهم ذلك، واستُشهد بقوله صلى الله عليه و سلم: ( من كذب عليّ متعمّدًا فليتبوأ مقعده من النار ) (حديث صحيح متواتر، رواه الشيخان وغيرهما)، قالـوا: إننا نكـذب لـه ولا نكذب عليه.. وفي النهاية، فالكذب له كالكذب عليه، لأن كليهما كذب واستدراك على الشرع، وهي أحاديث موضوعة، كما يقرر علماء مصطلح الحديث.
أما قضية قراءات السيرة بأنظمة معرفية أخرى، رأسمالية، واشتراكية، وعلمانية، وقومية، من الخارج الإسلامي، ومحاولة تقطيعها والانتقاء من أحداثها، وفصلها عن نسقها المعرفي وسياقها ومناسباتها، وذلك نتيجة طبيعية، عندما تصاب الأمة بحالة التخاذل الثقافي، ويصبح تراثها نهبًا لكل سارق، ومستباحًا لكل صاحب هوى، ومشاعًا لكل دَعِي، فعند ذلك تصبح السيرة، ويصبح التراث عامة، مدخلاً أو معبرًا للغزو الفكري، الذي يُعطى المشروعية والقبول في الداخل الإسلامي.
ولسوف تستمر القراءات للسيرة النبوية بأنظمة معرفية من الخارج الإسلامي، وسوف تمتد في الداخل الإسلامي، طالما أن حالة التخاذل الثقافي هي المسيطرة والمتحكمة، ويكتفي الكثير من المسلمين بالتبرك والفخر بالسيرة، دون القدرة على الإفادة من عطائها.
وسوف تستمر القراءات الفاقدة للمرجعية أيضًا، للسيرة النبوية في الداخل الإسلامي، والتي لا تورث إلا تكريس التخاذل الثقافي، طالما لم تأخذ السيرة النبوية البعد المطلوب من الدراسة والتحليل ضمن منهج معرفي واضح، مستمد من القيم والمعايير نفسها، التي جسدتها السيرة في واقع الناس.. ضمن منهج ينطلق من مقاصد الدين، وخلود وخاتمية الرسالة، وهداية الوحي، وعصمة النبوة، وسلامة النقل، ودراية العقل.
وقد يكون المطلوب اليـوم أكثر من أي وقـت مضـى، حيث تعـاني الأمـة ما تعاني على أكثر من صعيد، قراءة السيرة ودراستها دراسة استراتيجية، في مختلف المجالات، السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتربوية، والأمنية، والثقافية.
فإذا كانت السيرة -كما أسلفنا- هي التجسيد الخالد للرسالة، والبيان العملي للقرآن وتنزيله على واقع الناس، الأمر الذي يعني أنها -ومن خلال مسيرة النبوة التي بلغت ثلاثة وعشرين عامًا بين الدعوة والدولة، حتى وصلت إلى مرحلة الكمال والاكتمال، والتي تم خلالها بناء أنموذج الاقتداء- استوعبت جميع الحالات أو أصول الحالات، التي يمكن أن تمر بها البشرية حتى قيام الساعة، يبقى المطلوب من الدراسة الاستراتيجية التي ندعو إليها: الدقة في قراءة الواقع الذي عليه الناس، والإحاطة بعلمه من خـلال متخصصين لا متحمسين فحسب، وتحليله بدقة، ومن ثم دراسة وتحليل السيرة -والتحليل المقصود غير النقل- والتفسير للأحداث، ومن ثم تحديد موقع الاقتداء من مسيرة السيرة، أو اكتشاف المرحلة من السيرة التي تمثل حالة الاقتداء وكيفية الاقتداء، من خلال ظروف الحال التي عليها الناس.
وهذا لا يعني بحال من الأحوال سقوطًا في منهج الانتقاء، أو إخضاع السيرة لمنهج الانتقاء والتقطيع -كما يحلو لبعضهم أن يصف ذلك، ويخلط فيما يدعيه من الرؤية الشمولية، بين مرحلة الدعوة ومرحلة الدولة، ومرحلة الضعف ومرحلة التمكين، وبذلك تصبح السيرة عبئًا ومعوقًا بدل أن تكون حلاً هاديًا لمعالجة مشكلات الأمة- وإنما يعني التحقق بالرؤية الشاملة للسيرة، بمراحلها المتعددة، ووضع واقع الأمة في موقعه المناسب من مسيرة السيرة.. ولا أقصد هنا التقسيم الزمني، الذي وقع فيه كثير من الدارسين أو المتحمسين، فبدل أن يدركوا المنهج النبوي ومرونته، ويُسَخِّروا الزمن ضمن الإمكانات المتاحة، أصبحوا هم مسخَّرين للزمن، ومحكومين به، يعانون من حالة التيبس والعطالة، دون النظر للاستطاعة وواقع المجتمع.. لذلك حاولوا تحكيم الزمن بمسيرتهم، فجعلوا ثلاثة عشر عامًا للدعوة، لتبدأ بعد ذلك مرحلة الدولة، فأخفقوا وأحبطوا.. ولا نعني باختيار الموقع المناسب للاقتداء، من خلال مسيرة السيرة، اعتبار ذلك هو الحالة النهائية للاقتداء، وإنما هو اختيار المرحلة التي تتناسب مع الواقع، ودراسة إمكانات تطوير الواقع، للارتقاء به إلى الحالة الأعلى، وهكذا حتى نصل إلى حالة الكمال والاكتمال.
ولعل الصورة التوقيفية التي انتهى إليها ترتيب سور وآيات القرآن، الذي جاءت السيرة بيانًا عمليًا له، وتجسيدًا لقيمه في واقع الناس، تلقي أضواءً كاشفة وهادية، لكيفية التعامل مع القرآن، ومع بيانه العملي ( السيرة ) أيضًا في كل المراحل والحالات، التي تتعرض لها الأمة.. فالقرآن الكريم لم تُرتب سوره وآياته حسب أزمنة النزول، كما هو معلوم، ولو كان ذلك كذلك، لكان الزمن هو المتحكم بالإنسان، وإنما جاء الترتيب بالصورة التي هو عليها الآن -والله أعلم- ليكون الإنسان مُسَخِّرًا للزمن ومتحكمًا فيه، ويستطيع أن يحدد الموقع المناسب للاقتداء من خلال قيم القرآن ومسيرة السيرة، بحسب الظروف المحيطة والإمكانات المتاحة، وطبيعة أقدار التدين، صعودًا وهبوطًا، فلو اقتضى الاقتداء، في ظرف من الظروف، الموقع الأعلى، ومن ثم هبطت أقدار التدين أو أصيبت الإمكانات ببعض العجز، يمكن للإنسان أن يعيد النظر في موقع الاقتداء بحسب الحال التي هو عليها، ولا يخضع لقوالب جامدة، أو لتحكم زمني خارج عن قدرته وإرادته واستطاعته.
وإذا لم تدرس السيرة بهذه الرؤية المنهجية، الاستراتيجية، التي تمكن من الإجابة عن أسئلة الواقع، ومعالجة مشكلاته، فسوف تبقى في خانة التبرك والفخر، أو الخلط بين الأُمنيات والإمكانات.. بين مراحل الدعوة والدولة، والقوة والضعف، والنصر والهزيمة، والسلطان والقرآن، مهما ادعينا غير ذلك.
ويبقى السؤال المطروح دائمًا على الدارسين والباحثين والأكاديميين والمفكرين: كيف نتعامل مع السيرة في هذه المرحلة، وكيف يكون الاقتداء؟
إن الواقع يتغير من حولنا، ووسائلنا في العمل والاقتداء وقراءة قيمنا في الكتاب والسنة والسيرة لا تتغير، ونواجه الحالات المتنوعة والمختلفة بوسائل واحدة، على عكس منهج السيرة النبوية التي اتخذت لكل مرحلة ما يناسبها من الوسائل.. ويكفي هنا، من مئات الأمثلة، ما قاله الرسول صلى الله عليه و سلم لعمار بن ياسر عندما أذن له بنطق كلمة الكفر للخلاص من الأذى، طالما أن قلبه مطمئن بالإيمان، ونزل في ذلك قرآن خالدٌ يُتلى على الزمن، لأن هذه الحالة يمكن أن تتكرر على الزمن، وكان مما قاله: ( إن عادوا فعد! ) (رواه البيهقي).
وتبقى قضية أعتقد أنها من الأهمية بمكان في مجال الاقتداء، وهي أن الآية التي وردت بالاقتداء في قوله تعالى: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا * ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانًا وتسليماً ) (الأحـزاب: 21-22)، نزلت بمناسبة غـزوة الأحزاب، حيث رمى العربُ المسلمين عن قوس واحدة، وحيث زُلزلت النفوسُ، وبلغت القلوبُ الحناجرَ، وكاد أن يهتز الاقتداء، لتَخَلُّفِ النصر والنتائج بشكل عام.. جاءت لتؤكد أن الاقتداء إنما يكون في مواطن الشدة والصبر، والبأس والضيق، ومؤشرات فوات الحياة الدنيا، وتبين كيف أن الارتباط بالآخرة، هو سبيل الصمود والحماية من السقوط.. فالاقتداء لا يكون باليسر دون العسر.. والاقتداء لا يكون بالكماليات من مقاصد الشريعة دون الضروريات والحاجيات.. والاقتداء لا يكون بالأشكال دون الأفعال.
ونحن هنا لا نحط من قدر الاقتداء بالرسول صلى الله عليه و سلم في طعامه وشرابه ولباسه ونومه ويقظته، وعاداته وسننه كلها، لأن ذلك يعتبر تربويًا من الأهمية بمكان في صياغة الشخصية وبنائها، على طريقة التربية النبوية، ولكن نقول: إن للدين مقاصد تتمثل في تحقيق ضروريات لا تقوم الحيـاة إلا بها، وحاجيات لا تُحمى وتقام الضروريات إلا بتوفيرها، وكماليات وتحسينيات تعتبر أمورًا جمالية، انعدامها قد لا يؤثر في قيام الحياة.
لذلك، تبقى المشكلة التي نعاني منها اليوم، هي في الحرص على الاقتداء بالتحسينيات، والتخاذل عن الاقتداء بالضروريات والمقاصد الكبرى. هذه قضية، وقضية أخرى لعل تحرير القول فيها أصبح ضروريًا، بعد أن تحوّل العقل المسلم المعاصر من التوكل إلى التواكل والإرجاء، والعجز عن التعامل مع الحياة، وتقويم مسيرتها.. لقد خرجنا من الحياة، وافتقدنا القدرة على التعامل مع مشكلاتها في ضوء السيرة النبوية، وانتهينا إلى المقابر، سواء في ذلك من يعتبر الأموات سبيلاً لحل مشكلاته فيستغيث بهم، أو من يعتبر الأموات سببًا لمشكلته فيرى معركته معهم، أو من حاول ستر عجزه عن التأسي والاقتداء بالسيرة، وذلك بالخروج وإسقاط عجزه عليها واستدعاء ( الآخر ).
والقضية التي نعرض لها هي: أن مسيرة السيرة النبوية كلها، تحققت من خلال التعامل مع السنن الجارية، التي تقتضيها بشرية الرسول صلى الله عليه و سلم، وتحتملها عزمات البشر، لتكون السيرة محلاً للاقتداء وإعادة البناء للبشر في كل زمان ومكان، لذلك لابد من أخذ هذا المنطلق بعين الاعتبار أثناء الاقتداء وكيفية الاقتداء، ذلك أن الاقتداء بالرسول صلى الله عليه و سلم لا يعني العطالة عن العمل، والانسحاب من الحياة، وانطفاء الفاعلية، والتحول إلى الاستغاثة به، ولا يعني العدول عن السنن الجارية إلى طلب السنن الخارقة، لأن ذلك باب لإشاعة الخرافة والبدعة، وتغييب السنة، التي هي القانون الجاري.
ولعل من الأمور الملفتة للنظر حقًا، تسمية طريقة الرسول صلى الله عليه و سلم في التعامل مع الحياة والأحياء، سنة، بكل ما تحمل هذه التسمية من دلالات في المنهج والقانونية والاطراد.
إن آية الاقتداء نزلت -كما أسلفنا- وقد بلغت القلوبُ الحناجرَ، والصحابة يستنجدون بالرسول صلى الله عليه و سلم، الذي كان يشارك في حفر الخندق، عندما واجهتهم صخرة كبيرة، وعجزوا عن تفتيتها، ليعاونهم في ذلك، فأخذ فأسه وضربها، محاولاً تفتيتها طبقًا للسنن الجارية في الحياة، وكله أمل في النصرة للإسلام، والسقوط الحضاري للباطل.
فقيمة الاقتداء وفائدته وعطاؤه، وعظيم ثوابه، عندما يكون في العزائم والقضايا الكبيرة، التي قد يمتحن صاحبها في صدق إيمانه وقوة يقينه، فتفوته بعض النتائج في الدنيا، ويخسر المعركة، لكن الاقتداء يحميه ويحول بينه وبين السقوط، ويرتفع به من الوقوف عند النتائج القريبة، إلى إبصار العواقب والمآلات.. ذلك أن نقطة الارتكاز في الاقتداء، هي رجاء الله واليوم الآخر، واستمرار الذكر الذي يجلي هذه الحقيقة، ويؤكد حضورها واستمرارها.
قال الله تعالى: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ) (الأحزاب: 21).
وبعـد:
فالكتاب الذي نقدمه، محاولة جادة لإبصار بعض الملامح الغائبة في دراسة السيرة، فهو يفتح نافذة، ويحرّك العقل المسلم تجاه بعض الأبعاد المطلوبة، لمواقع الاقتداء والتأسي، وخاصة رصد الحس الأمني لحماية منجزات الدعوة، وتأمين مسيرتها، التي لم تحظ بدراسات تحليلية ومتعمقة بالقدر الكافي، وتحتاج إلى كثير من التأمل والتحليل والتنهيج، حتى تشكل رؤية منهجية معرفية للاقتداء والتأسي في الظروف المختلفة.
وهذه المحاولة يمكن أن تعتبر إحدى المساهمات المقدورة لدراسات في السيرة على الأصعدة المتعددة، يمكن أن تُعمق وتُؤصل وتُغْنَى بدراسات ونظرات متجددة في ضوء الظروف والمشكلات، التي تعاني منها الأمة، حتى تأخذ السيرة موقعها الصحيح من مسيرة الدعوة والأمة والدولة، ذلك أن السيرة ليست فقط شمائل ومغازي وخطط عسكرية -على أهمية ذلك وفائدته- وإنما هي تجسيد لقيم الإسلام في نماذج حياتية خالدة ومتنوعة، مجردة عن قيد الزمان والمكان، قادرة على استيعاب حركة الأمة وهدايتها، حتى نهاية التاريخ، وتوقف حركة الحياة.. ولئن تركز جهد الباحث -جزاه الله خيرًا- على رصد الحس الأمني، ووسائل وطرائق الحماية في مرحلة الدعوة، لسلامتها وضمان نموها، حيث الأمر قد يكون أشد حاجة ووضوحًا في هذه المرحلة، فإن نمو هذا الحس، والتفكير بوسائل الحماية، قد استمر في مرحلة الدولة أيضًا لحماية منجزاتها، مما يمكن أن يشكل مجالاً لدراسات مستقبلية قادمة بإذن الله تعالى.
الفصل الأول: جوانب من حماية الدعوة قبل مرحلة الجهر بها

تـوطـئـة: ?
أي فكر أو معتقد جاء ليغير واقعًا، يمر غالبًا بمرحلة البدء، التي تمتاز بالسرية، والحيطة، والحذر، لأن أهل الفكر والمعتقد المراد تغييره، هم بالمرصاد لكل ما من شأنه أن يهدد مصالحهم، وسيحاولون القضاء على المعتقدات، والأفكار الجديدة في مهدها.‏
ولهذا، لزم دعاة تلك الأفكار والمعتقدات الجديدة، اتخاذ جانب الحيطة، والحذر، والتكتم، حتى يشتد ساعدهم، ويكثر أتباعُهم، فحينها يمكن الانتقال إلى الجهرية والظهور، ولا يتحقق ذلك إلا إذا اتبع دعاة تلك الأفكار والمعتقدات مناهج وأساليب دقيقة للحماية في كل خطوة يخطونها، في اختيار نوعية مَن تقدم لهم الدعوة أولاً، وكيف، ومتى، وأين؟ وما هي الأساليب التي يتم التعامل بها مع المستجيبين؟ وكيف يتم إبلاغ الدعوة إلى العامة؟ وكيف يتم ترتيب اللقاءات؟ وأماكن التجمعات؟ فكل ذلك يتطلب منهجًا مدروسًا، واحتياطات، حسبما تقتضيه ظروف الزمان والمكان، وهذا ما حصل للإسلام حينما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم، فقد بدأ دعوته سرًا، وكان دقيقًا في كل خطواته، وكان حذرًا يقظًا في تعامله مع الكفار، وبهذا التخطيط والتنظيم استطاع أن ينتصر على جميع أعداء الإسلام.‏
والمتتبع لسيرته صلى الله عليه و سلم يجد أن جانب الحذر والتحوط كان واضحًا وظاهرًا طوال المرحلة السرية.. يقول الدكتور محمد سعيد البوطي: (لا ريب أن تكتم النبي صلى الله عليه و سلم في دعوته إلى الإسلام خلال السنوات الأولى، لم يكن بسبب الخوف على نفسه، فهو حينما كُلِّف بالدعوة ونزل عليه قوله تعالى: (يا أيها المدثر)، علم أنه رسول الله إلى الناس، وهو لذلك كان يؤمن بأن الإله الذي ابتعثه وكلّفه بهذه الدعوة، قادر على أن يحميه ويعصمه من الناس.‏
ولكن الله عز وجل ألهمه ­والإلهام للرسول نوع من الوحي إليه­ أن يبدأ الدعوة في فترتها الأولى بسرية وتكتم، وأن لا يلقي بها إلا إلى مَن يغلب على ظنه أنه سيصغي لها، ويؤمن بها، تعليمًا للدعاة من بعده، وإرشادًا لهم إلى مشروعية الأخذ بالحيطة والأسباب الظاهـرة، وما يقرره التفكير والعقل السليم من الوسائل التي ينبغي أن تتخذ من أجل الوصول إلى غايات الدعوة وأهدافها.‏
وبناء على ذلك، فإنه يجوز لأصحاب الدعوة الإسلامية في كل عصر أن يستعملوا المرونة في كيفية الدعوة ­من حيث التكتم والجهر، أو اللين والقوة­ حسبما يقتضيه الظرف وحال العصر، الذي يعيشون فيه، وهي مرونة حددتها الشريعة الإسلامية، اعتمادًا على واقع سيرته صلى الله عليه و سلم). ‏
المبحث الأول: جوانب الحماية في بدء الدعوة

حينما بدأ رسول الله صلى الله عليه و سلم الدعوة في مرحتلها السرية، كان يعلم أن ذلك الوضع يستدعي مراعاة جملة من الأمور الهامة، ومن ذلك أنه صلى الله عليه و سلم كان يختار من يدعوهم حسب مقاييس خاصة، يتحرى فيها الدقة المتناهية، والحذر، والحيطة، ذلك لأن أولئك المستجيبين للدعوة آنذاك، هم الذين تقع عليهم أعباؤها ومسؤولياتها، فلابد أن يكونوا من خيار المجتمع، صدقًا، واعتدالاً، ومروءة، ونخوة، واستقامة، حتى يكونوا أهلاً للقيام بتبليغ الدعوة، وتحملها بكل تجرد، ونكران ذات.‏
وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلم أن أي خلل في التصرف، أو تسرب أية معلومة، يمكن أن يؤدي إلى نتائج سلبية من شأنها أن تؤثر على تقدم الدعوة ومستقبلها، ولهذا حرص على أهلية المدعوين ونوعيتهم، من حيث كتمانهم للسر، وعدم تسريب المعلومات عن الدعوة الجديدة.‏
جوانب الحماية في دعوة النبي صلى الله عليه ? سلم للأقربين: ?
إن أول من دعاه الرسول صلى الله عليه و سلم زوجه السيدة خديجة، وعليّ بن أبي طالب، ومولاه زيد بن حارثة، وحاضنته أم أيمن، رضي الله عنهم أجمعين.. والمتأمل في هؤلاء النفر الكريم، يجدهم جميعًا تضمهم أسرة واحدة، هي أسرة رسول الله صلى الله عليه و سلم.‏
ولا يخفى ما في ذلك من جوانب الحماية، فهؤلاء أقرب الناس إليه، وأعرفهم به، وبصدقه، وإخلاصه، وحسن سيرته، لعشرتهم له، وهذا مما يجعلهم يؤمنون عن اقتناع ويقين، وهو ما حدث فعلاً.. وهذا النوع من الإيمان هو ما تتطلبـه المرحلة، فهـؤلاء يكتمـون السـر ولا يفشونه، كما أنهم يساعدونه في تحمل أعباء الدعوة، ويخففون عنه وطأة العناء.‏
وهو ما تم بالفعل، فعندما جاء إلى السيدة خديجة يرتجف فؤاده قائلاً: (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي... لقد خَشِيتُ على نفسي)، كان رد خديجة رضي الله عنها: (كلا، والله ما يُخْزِيكَ اللهُ أبدًا، إنك لَتَصِلُ الرَّحِم، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ الـمَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ على نوائبِ الحق).. ولم تكتف بذلك، بل انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، الذي طمأن رسول الله صلى الله عليه و سلم، وهدأ من روعه، وأخبره بأن الذي يأتيه هو الناموس الذي كان ينزل على موسى.. وهذا موقف كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أحوج ما يكون إليه في ذاك الوقت بالذات، ليزداد ثقة ويقينًا أن ما يأتيه حق، وبالتالي يمضي في طريقه بعزم وحزم.. أضف إلى ذلك، مواساتها له رضي الله عنها، بمالها وجاهها في قومها.‏
وأما زيد فقد خرج معه إلى الطائف، وكان رفيقه، ومؤازره في تلك الرحلة، وكان يقيه بنفسه من حجارة الصبية، والسفهاء.‏
أما علي فقد نام على فراشه عند الهجرة، وهو عمل فدائي قام به سيدنا علي رضي الله عنه، ليعمِّي على قريش، ويخدعهم بأن الرسول صلى الله عليه و سلم مازال نائمًا في فراشه.‏
فهؤلاء أعانوا الرسول صلى الله عليه و سلم في مهمته، وهيأوا له الجو الصالح للدعوة، ولم تثقل أسرته كاهله بأعباء ثانوية.. وهذا النفر الكريم كانوا أول نواة للدعوة، مما ساعد على الانطلاق بعد ذلك من البيت إلى خارجه، وبهذا فات على الأعداء سلاح كان يمكن أن يستخدموه ضده، عندما يعرض الدعوة عليهم، فيقولوا له مثلاً: اذهب وقوّم بيتك أولاً، ثم ائتنا ثانيًا!‏
لقد ضمن الرسول صلى الله عليه و سلم بذلك جانب أسرته، إذ لم يكن داخلها من لا يؤمن بالدعوة، فوجود أي فرد غير مؤمن بالدعوة داخل الأسرة، قد يسرب معلومات عن تحركات الداعية، ولقاءاته، ومن يترددون عليه، وقد يكون البيت موضع الوثائق الخاصة بالدعوة، أو تلك التي تحوي خططًا مستقبلية للدعوة، فأي تسرب لها سيؤدي إلى الضرر البالغ بالدعوة، والمدعوين، لذا حرص الرسول صلى الله عليه و سلم على دعوة وإقناع كل أفراد أسرته أولاً.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عاشق المصطفى
عضو / ة
عضو / ة
عاشق المصطفى


الساعة الأن :
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 837
نقاط : 1628
السٌّمعَة : 1
تاريخ التسجيل : 15/10/2010

في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية Empty
مُساهمةموضوع: رد: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية   في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية Icon_minitime1السبت 16 أكتوبر 2010, 12:35 am


المبحث الثاني: جوانب الحماية في اختيار دار الأرقم
لقد وقع اختيار الرسول صلى الله عليه و سلم على دار الأرقم، لتكون مقرًا غير معلن للمستجيبين من المؤمنين، وذلك لتفردها بعدة صفات، وميزات سنحاول الوقوف عندها في هذا المبحث بإذن الله.
ـ ميزات في اختيار دار الأرقم مقرًا:
لما دخل في دين الله ما يربو على الثلاثين، وكان من اللازم اجتماع الرسول صلى الله عليه و سلم بهم، ليعلمهم أمور دينهم، اختار الرسول صلى الله عليه و سلم دار الأرقم ابن أبي الأرقم.. وربما وقع الاختيار عليها دون سواها، لاعتبارات وميزات أمنية، تفردتْ بها عن غيرها، تتمثل في الآتي:
ـ تقع هذه الدار على الصفا، وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم، ولا تخفى الأهمية الأمنية لهذا الموقع، فكونها في معزل، يجعلها بعيدة عن مراقبة قريش، الأمر الذي يجعلها محاطة بالسرية، ولا تحتاج عملية الوصول إليها، أو الخروج منها، إلى كبير عناء، أو احتياطات معقّدة، كما أن بعدها عن مجالس قريش يزيد من ميزتها، فمجالس قريش عادة ما يدور فيها الحديث عن الرسول صلى الله عليه و سلم وصحبه، فإذا كانت قريبة من تلك المجالس سهل رصد ومراقبة القادمين إليها والخارجين منها.
ـ كما أن لموقعها أسفل جبل الصفا، ميزة أخرى تضاف إلى الميزات الآنفة، فلو كانت في أعلاه، لأصبحت مكشوفة وسهلت مراقبتها.
ـ ثم إن الدار ليس فيها موضع، يمكن أن يستغله أعداء الدعوة، فيطلعوا من خلاله على ما يدور بداخلها، وهذا مما يجعل ما بداخلها بعيدًا عن أعين الأعداء.. يضاف إلى ذلك، أن صاحبها الصحابي ( الأرقم )، لا يمكن أن يبوح بسر إعطائه هذه الدار للمؤمنين، هذا بخلاف ما إذا كانت الدار لكافر.
ـ كما أن الأرقم لم يكن معروفًا بإسلامه، ولم يعلن إسلامه بعد، فما كان يخطر ببال قريش أن يتم لقاء الرسول صلى الله عليه و سلم وأصحابه بداره.. أضف إلى ذلك أنه كان فتى عند إسلامه، فلقد كان في حدود السادسة عشرة من عمره، ويوم تفكر قريش في البحث عن مركز التجمع الإسلامي، لا يتوقع أن تبحث في بيوت الفتيان الصغار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، بل يتجه نظرها وتفكيرها إلى كبار الصحابة رضي الله عنهم.. هذا إلى جانب أن الأرقم من بني مخزوم، التي كانت تحمل لواء الحرب ضد بني هاشم، فلو كان الأرقم معروفًا بإسلامه، لصعب أن يكون اللقاء في داره، لأن هذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو.
ويلاحظ أن هذه الدار كانت محاطة بالكتمان التام، ولم يرد ­فيما اطلعنا عليه­ أن قريشًا داهمت ذات يوم هذا المقر السري، بل أقصى ما توصلت إليه هو شكها أن يكون اللقاء في دارٍ عند الصفا.. ومما يدل على ذلك، أن قياديًا مثل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عندما أراد إعلان إسلامه، لم يعرف مكان النبي صلى الله عليه و سلم، فلو كانت تلك الدار معلومة لدى قريش، لما سأل عنها، بل لذهب إليها مباشرة.. وهذا يظهر مدى حرص الصحابة رضي الله عنهم على إخفاء خبر هذه الدار، فلم يبوحوا بها إلى أحد سوى المسلمين فقط.
ـ ولعل تنظيم الدخول والخروج، من العوامل الهامة، التي ساعدت على الاحتفاظ بسرية المقر، فعملية الخروج والدخول إذا لم تنظم، تعتبر من أخطر الجوانب الأمنية، التي يؤدي إغفالها إلى كشف ومعرفة المقر.. وهذا التنظيم الدقيق، يظهر لنا من خلال موقفين:
الأول ، لسيدنا علي مع سيدنا أبي ذر، رضي الله عنهما. فعندما أراد سيدنا عليّ أخذ سيدنا أبي ذر إلى دار الأرقم، لمقابلة الرسول صلى الله عليه و سلم، اتفق معه على مصطلح معين في حالة وجود مراقبة، أو متابعة من قِبَل الأعداء، فقال له: ( إن رأيت أحدًا أخافه عليك، قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي )، وفي لفظ: ( كأني أريق الماء، فامض أنت ). وبناء على هذا النص، يتجلى الاهتمام بعملية الذهاب إلى المقر، فهو يدل على أن عليًا بن أبي طالب، رضي الله عنه، كان يراقب الأعداء أثناء ذهابه إلى المقر، فإذا رأى من يراقبـه غيَّر وجهتـه، وأمـر أبا ذر ­هنا­ أن يغير وجهته، بقوله: ( فامض أنت).
والموقف الثاني ، لأم جميل مع سيدنا أبي بكر رضي الله عنهما. فعندما أخذت أم جميل وأم الخير سيدنا أبا بكر رضي الله عنه، إلى دار الأرقم، قال ابن كثير: ( فأمهلتا ­أي أم جميل وأم الخير­ حتى إذا هدأت الرِّجْلُ، وسكن الناس، خرجتا به، يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه و سلم).
هذا السلوك، يعتبر قمة الاحتياط، لعملية الذهاب، ففي هذا الوقت، عندما تهدأ الأرجل، ويسكن الناس، تقل أو تنعدم المراقبة، وبالتالي يكون الذهاب إلى المقر محاطًا بالاحتياطات شبه التامة.
ومن جوانب الحماية التي روعيت في دار الأرقم، تصميم الباب الذي ترك فيه شقوق ­أي فتحات­ يمكن من خلالها مشاهدة مَن بالخارج، ومعرفة هويته، ومن ثم يتم التصرف، وفقًا لذلك، ويظهر لنا ذلك في قصة إسلام سيدنا عمر رضي الله عنه، حين طرق الباب، فقبل أن يُفتح له، نظر أحد الصحابة من خلل الباب، فتأكد من هوية الطارق، بأنه عمر، جاء متقلدًا سيفه، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه و سلم.. فوجود هذه الفتحات، ييسر معرفة الطارق.. ولكن هناك أمر لابد من مراعاته، هو أهمية تغطية هذه الفتحات من الداخل أو تصميمها بطريقة تمنع مَن بالخارج من رؤية الذي بالداخل، مثل ما تعارف الناس على تسميته اليوم ( بالعين السحرية ).. وذلك حتى لا تكون هذه الفتحات ثغرات، يطلع من خلالها أعداء الدعوة على ما يدور بداخل المقر.
ومن جوانب الحيطة أيضًا، التصرف السليم إبان حالات الطوارئ، وهو شيء ضروري وهام، ويعد مكملاً للالتزام بالمنهج الأمني، فإذا ظهر طارئ، بالرغم من الاحتياطات، يأتي هنا دور التصرف السليم لدرء هذا الطارئ، فما قام به النبي صلى الله عليه و سلم تجاه سيدنا عمر، حينما دخل دار الأرقم بن أبي الأرقم، يعد تصرفًا مهمًا ودقيقًا، يتناسب والموقف.. فساعة دخول سيدنا عمر رضي الله عنه، قام إليه النبي صلى الله عليه و سلم فأخذ بمجامع ثوبه، وحمائل سيفه، وقال: ( ما أنت بمنته يا عمر، حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزله الله بالوليد؟ ).
والحكمة من هذا التصرف، تظهر من أخذ النبي صلى الله عليه و سلم بمجامع ثوبه، وحمائل سيفه، ليمنعه من استخدام سلاحه، وفي ذات الوقت يسهل ردعه، إذا أبدى أي مقاومة، أضف إلى ذلك أسلوب الترهيب.
المبحث الثالث: جوانب الحماية في تكوين مجموعـات دعـويـة فـي الفتـرة السريـة
تستلزم فترة بدء الدعوة، قيام تجمعات صغيرة لتلقي تعاليم ومناهج الدعوة الخاصة والعامة، ويظهر ذلك من إنشاء الرسول صلى الله عليه و سلم، ما يعرف بالمجموعات الصغيرة، التي كانت عبارة عن تجمع يتكون من ثلاثة أشخاص أو خمسة، من أجل تعليمهم أمور دينهم، وتحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع المسلم، وقد قامت هذه المجموعات بدورها خير قيام، وآتت أكلها، كما يتضح من خلال هذا المبحث بعون الله.‏
تكوين المجموعات الدعوية ووضوح أهدافها: ?
تتطلب مرحلة البدء من عمر الدعوة، قلة الاجتماعات والمجتمعين، أي أن تكون الاجتماعات قليلة، ومتباعدة، وألا يتعدى عدد المجتمعين فيها الخمسة أفراد، حفاظًا عليهم وحماية لدعوتهم، ومنعًا لتسرب المعلومات، ولعل خير سبيل لتحقيق تلك الغاية، ما يسمى بالمجموعات الصغيرة.‏
والمجموعات الصغيرة من أنسب الأساليب الدعوية لمرحلة بدء الدعوة، لكونها تمتاز بخصائص أمنية دون سواها من الأساليب الأخرى، ومن أهم تلك الجوانب قلة أفرادها، مما يجعل ترتيب اللقاء أمرًا ميسورًا، وذلك لسهولة الحصول على المقر، إضافة إلى أن مثل هذا العدد ليس ملفتًا للنظر، ولا مثيرًا للشبهات، فعادة ما يتم داخل منازل الدعاة، وهذا يقلل من الاحتياطات المعقدة، والتي عادة ما يتطلبها المقر الكبير، كما أنه يصعب منعها أو القضاء عليها، إذ يمكن أن تمثل كل أسرة مجموعة دعوية.‏
والتجمع الصغير في هذه الدعوة، يعد مصنعًا مصغرًا، يُربَّى فيه الفرد المستجيب للدعوة، وفق ما يأمر به الإسلام، ففي هذه النواة يتعلم أمور دينه، ويروض نفسه، ويزكيها لتصيح أهلاً للقيام بأعباء الدعوة، وفيها يؤهل نفسه للمرحلة التالية، ويتعلم فيها متطلبات المرحلة الحالية والمقبلة.‏
والمتابع لسيرة الرسول صلى الله عليه و سلم يجد أنه كان يوزع المستجيبين للدعوة في مرحلة بدء الدعوة، إلى مجموعات صغيرة، يتراوح عدد أفرادها بين الثلاثة إلى الخمسة، تجتمع يوميًا، أو دوريًا في أماكن مختلفة، وأزمنة مختلفة.‏
لقد كانت تلك التجمعات في الفترة السرية من عمر الدعوة، تستخدم في عدة أمور، منها تعليم الصحابة رضي الله عنهم أمور دينهم، وبخاصة القرآن الكريم، كما أنها ساعدت في تأدية الصلاة في جماعة، واستخدمت كأداة في تحقيق التكافل الاجتماعي، وسوف نتناول فيما يلي كل جانب من هذه الجوانب على حدة.‏
أولاً: تعليم المستجيبين أمور دينهم: ‏
لابد للمستجيب في هذه الفترة من مكان يتعلم فيه أمور دينه، ويأمن فيه أن ينكشف أمره، ولتحقيق ذلك لجأ الرسول صلى الله عليه و سلم إلى إرسال بعض الدعاة إلى الأسر المؤمنة ليعلموهم القرآن الكريم، وينقلوا إليهم أخبار وتوجيهات الرسول صلى الله عليه و سلم.. يتضح ذلك فيما رواه ابن إسحاق عن قصة إسلام عمر في حديث طويل جاء فيه: (فرجع عمر عامدًا إلى أخته وخَتَنِه، وعندهما خباب بن الأَرَت، معه صحيفة فيها مطلع سورة طه يُقرئهما إياها...).‏
ويظهر من سياق النص، أن هذه المجموعة تتكون من ثلاثة أشخاص يقوم فيها سيدنا خباب بتعليم سعيد وزوجته فاطمة رضي الله عنهم القرآن.. وربما كانت هناك تجمعات عديدة مماثلة لهذا التجمع، وهذا ما تتطلبه مرحلة بدء الدعوة، إذ لا يتيسر جمع المستجيبين لتعليمهم في مكان واحد.‏
ثانيًا: أداء الصلاة في شكل جماعات صغيرة: ‏
إن أداء الصلاة جماعة في مكان عام واحد باستمرار، وانتظام، ملفت للانتباه في هذه المرحلة السرية، وأداؤها بهذه الصورة قد يؤدي إلى كشف الجماعة المسلمة، وتفاديًا لذلك كان النبي صلى الله عليه و سلم وصحبه يؤدون الصلاة في شكل جماعات صغيرة متفرقة، قال ابن إسحاق: (إن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج إلى شِعاب مكة وخرج معه عليُّ بن أبي طالب ­وفي رواية زوجه خديجة­ مستخفيًا من أبيه أبي طالب، ومن جميع أعمامه، وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها). فهذه جماعة من جماعات الدعوة المنتشرة وقتها، تضم قائد الدعوة، وابن عمه، وزوجه لتأدية شعيرة الصلاة.‏
‏(وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صلوا ذهبوا إلى الشعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم). وقال ابن إسحاق: (فبينما سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يؤدون الصلاة...).‏
مما سبق يتضح أن الصحابة رضي الله عنهم، كانوا يؤدون الصلاة جماعة في شكل خلايا صغيرة متفرقة في شعاب مكة. وتُحاط بالسرية، لأنهم كانوا يخرجون إلى الشعاب، ومع ذلك كانوا يستخفون من قومهم، وهذا الاستخفاء يدل على الاحتياط، الذي كان يمارسه الصحابة في تلك الجماعات الصغيرة، التي أدت الدور المنوط بها من توثيق روابط الأخوة بين الرعيل الأول من الصحابة، وفي ذات الوقت تأدية الصلاة جماعة رجاء الحصول على الثواب المضاعف عن صلاة الفرد.‏
ثالثًا: التكافل الاجتماعي داخل المجموعات الصغيرة: ‏
أورد صاحب السيرة الحلبية في قصة إسلام سيدنا عمر رضي الله عنه، التي رواها سيدنا عمر بنفسه حيث قال: (... وقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلميجمع الرجل والرجلين إذا أسلما، عند رجل به قوة يكونان معه، يصيبان من طعامه).‏
يعد التكافل الاجتماعي من ميزات وخصائص المجتمع المسلم، منذ نشأته وحتى يومنا هذا، لذا لا غرابة أن يوزع الرسول صلى الله عليه و سلم فقراء المسلمين على هذه المجموعات، وهو عمل تقتضيه وتتطلبه المرحلة، كي لا يكون الفقر سببًا وعائقًا يحول دون دخول الناس في الإسلام، وتسد هذه الثغرة أمام الأعداء، حتى لا يستغلوا فقر المسلمين.‏
المبحث الرابع: الحـس الأمنـي لـدى الصحابـة

كل مسلم مُطَالب بأن يكون على قدر كبير من اليقظة والحذر، فالمؤمن كَيِّس فَطِن، فلابد أن يكون أهلاً للمسؤولية المنوطة به، ويؤدي دوره في الحياة وفق منهج دقيق منظم، وهذا يتطلب منه إحكام أعماله، وضبط تصرفاته، توخيًا لدفع كيد أعدائه.‏
والحس الأمني لابد منه لكل فرد من أفراد الأمة، في كل أمر من أمور حياته، الخاصة منها والعامة. قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كلَّ ذي نعمةٍ محسود)، فإذا كان الكتمان في الحوائج الشخصية المادية مطلوب، ومأمور به، ففي الحوائج العامة المتعلقة بمصير الأمة من باب أولى.‏
وقد كان الحس الأمني لدى أفراد الصحابة رضي الله عنهم في بدء الدعوة بمكة، ظاهرًا في مواقف عديدة، تؤكد مدى اهتمام السلف رضي الله عنهم بهذا الجانب، وتطبيقه في الحياة العملية للدعوة، وقد استخدموا مع كل موقف ما يناسبه، ويتطلبه من تصرف حذر سليم.. وسنحاول الوقوف على بعض هذه المواقف كل على حدة.‏
المطلب الأول: الحس والحذر لدى أم جميل رضي الله عنها
عندما أراد سيدنا أبو بكر رضي الله عنه الحصول على المعلومة الخاصة بمكان الرسول صلى الله عليه وسلم عقب الأذى الجسيم الذي تعرض له سيدنا أبو بكر من قِبل أعداء الدعوة، طلب من والدته أم الخير، الذهاب إلى أم جميل، لمعرفة مكان الرسول صلى الله عليه و سلم منها: (فخرجت ­أمُّ الخير­ حتى جاءت أمَّ جميل، فقالت: إنّ أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله؟ فقالت أم جميل: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك فعلت. قالت: نعم. فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعًا دنفًا. فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت: والله إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم. قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم؟ قالت: هذه أمك تسمع. قال: فلا شيء عليك منها. قالت: سالم صالح. قال: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم. قال: فإن لله عليّ ألا أذوق طعامًا ولا شرابًا، أو آتي رسول الله صلى الله عليه و سلم.. فأمهلتا، حتى إذا هدأت الرِّجْل، وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه و سلم).‏
هذا النص يظهر بوضوح الحس الأمني لأم جميل، الذي برز في عدة تصرفات، لعل من أهمها: ‏
أولاً: إخفاء الشخصية والمعلومة عن طريق الإنكار: ‏
عندما سألت أمُّ الخير أمَّ جميل، عن مكان الرسول صلى الله عليه و سلم، أنكرت أنها تعرف أبا بكر ومحمد بن عبد الله.. فهذا تصرف حذر سليم. إذ لم تكن أم الخير ساعتئذ مسلمة، وأم جميل كانت تخفي إسلامها، ولا تود أن تعلم به أم الخير.. وفي ذات الوقت أخفت عنها مكان الرسول صلى الله عليه و سلم مخافة أن تكون عينًا لقريش.‏
ثانيًا: استغلال الموقف لإيصال المعلومة: ‏
فأم جميل أرادت أن تقوم بإيصال المعلومة بنفسها لسيدنا أبي بكر رضي الله عنه، وفي ذات الوقت لم تظهر ذلك لأم الخير، إمعانًا في السرية والكتمان، فاستغلت الموقف لصالحها، قائلة: (إن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك فعلت). وقد عرضت عليها هذا الطلب بطريقة تنم عن الذكاء وحسن التصرف، فقولها: (إن كنت تحبين) ­وهي أمه­، وقولها: (إلى ابنك)، ولم تقل لها إلى أبي بكر، كل ذلك يحرك في أم الخير عاطفة الأمومة، فغالبًا ما ترضخ لهذا الطلب، وهذا ما تم بالفعل، حيث أجابتها بقولها: (نعم). وبالتالي نجحت أم جميل في إيصال المعلومة بنفسها.‏
ثالثًا: استغلال الموقف في كسب عطف العدو: ‏
يبدو أن أم جميل حاولت أن تكسب عطف أم الخير، فاستغلت وضع سيدنا أبي بكر رضي الله عنه، الذي يظهر فيه صريعًا دنفًا، فأعلنت بالصياح، وسبت من قام بهذا الفعل بقولها: (إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر). فلا شك أن هذا الموقف من أم جميل يشفي بعض غليل أم الخير، من الذين فعلوا ذلك بابنها، فقد تُكِنّ شيئًا من الحب لأم جميل، وبهذا تكون أم جميل كسبت عطف أم الخير، وثقتها، الأمر الذي يسهل مهمة أم جميل في إيصال المعلومة إلى سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه.‏
رابعًا: الاحتياط والتأني قبل النطق بالمعلومة: ‏
لقد كانت أم جميل في غاية الحيطة والحذر من أن تتسرب هذه المعلومة الخطيرة، عن مكان قائد الدعوة، فهي لم تطمئن بعد إلى أم الخير، لأنها مازالت مشركة آنذاك، وبالتالي لم تأمن جانبها، لذا ترددت عندما سألها سيدنا أبو بكر عن حال رسول الله صلى الله عليه و سلم، فقالت له: هذه أمك تسمع؟ فقال لها: لا شيء عليك منها. فأخبرته ساعتها بأن الرسول صلى الله عليه و سلم سالم صالح، وزيادة في الحيطة، والحذر، والتكتم، لم تخبره بمكانه إلا بعد أن سألها عنه قائلاً: أين هو؟ فأجابته: في دار الأرقم.‏
خامسًا: تخيّر الوقت المناسب لتنفيذ المهمة: ‏
حين طلب سيدنا أبو بكر رضي الله عنه الذهاب إلى دار الأرقم، لم تستجب له أم جميل على الفور، بل تأخرت عن الاستجابة، حتى إذا هدأت الرِّجْل وسكن الناس، خرجت به ومعها أمه يتكئ عليهما. فهذا هو أنسب وقت للتحرك وتنفيذ هذه المهمة، حيث تنعدم الرقابة من قبل أعداء الدعوة، مما يقلل من فرص كشفها، وقد نفذت المهمة بالفعل دون أن يشعر بها الأعداء، حتى دخلت أم جميل وأم الخير بصحبة أبي بكر إلى دار الأرقم، وهذا يؤكد أن الوقت المختار كان أنسب الأوقات.‏
المطلب الثاني: الحس والحذر لدى نعيم بن عبد الله رضي الله عنه
حين خرج سيدنا عمر متوشحًا سيفه، لقيه نعيم بن عبد الله فقال له: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد محمدًا هذا الصابئ، الذي فرّق أمر قريش، سفَّه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها فأقتله. قال له نعيم: والله قد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأي أهل بيتي؟ قال: خَتَنك وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما، وتابعا محمدًا على دينه.‏
والمتأمل في هذا النص، يمكنه الخروج بالملاحظات الآتية: ‏
أولاً: إخفاء الشخصية عن العدو: ‏
لم يكن سيدنا عمر رضي الله عنه يعلم بإسلام نعيم، لأنه كان يخفي إسلامه، فحسبه سيدنا عمر مشركًا، مما سهل مهمة نعيم.. وإمعانًا في إخفاء الشخصية، قال سيدنا نعيم: محمـدًا ولم يقـل رسول الله، مع العلم أن الصحابة لا ينادون الرسول صلى الله عليه و سلم باسمه، وإنما يقولون رسول الله، ونبي الله، ولكن المقام هنا يتطلب من نعيم أن يقول محمدًا، كي يطمئن له عمر، أكثر ويحدثه بما ينوي عمله، وهذا ما تم فعلاً.‏
ثانيًا: الحصول على المعلومة: ‏
استوقف سيدنا نعيم سيدنا عمر لما رآه متوشحًا سيفه استوقفه، وسأله عن وجهته بقوله: أين تريد يا عمر؟ فحصل سيدنا نعيم من ثمّ على معلومة في غاية الخطورة، تتمثل في نية عمر قتل قائد الدعوة. فهذا تصرف في غاية الحكمة والذكاء، إذ استطاع سيدنا نعيم الحصول على هذه المعلومة التي جعلته يتخذ أساليب أمنية دقيقة وعاجلة كما سنرى.‏
ثالثًا: درء خطر العدو وصرفه عن هدفه: ‏
بعد أن علم نعيم نية عمر رضي الله عنهما، عمل على درء هذا الخطر، فاستخدم معه أسلوب الترهيب، حيث هدده، إن هو أقدم على قتل محمد، فإنه سوف يُقتـل هو أيضًا من قِبـل بني عبـد منـاف، ولم يكتف سيدنا نعيم بذلك، بل أخبره بأمر لم يستطع سيدنا عمر معه صبرًا، وذلك حين أخبره بإسلام ابن عمه وأخته، فغيَّر عمر رضي الله عنه وجهته مباشرة، وبدل أن يتجه لقتل محمد صلى الله عليه و سلم اتجه نحو بيت أخته. وبذلك يكون سيدنا نعيم رضي الله عنه قد نجح فعلاً في درء خطر العدو، وصرفه عن هدفه الحقيقي، وهذا تصرف في غاية الدقة والإحكام.‏
رابعًا: التضحية بأفراد من أجل المصلحة العامة: ‏
لا شك أن معرفة سيدنا عمر وعلمه بإسلام أخته وابن عمه يشكل خطورة كبيرة عليهما، ولكن إذا قورنت بخطورة قتل قائد الدعوة، كانت أخف وأقل، لذا حاول سيدنا نعيم أن يضحي بأفراد من أجل المصلحة العامة، فإذا لحق ضرر بسعيد وفاطمة فهو أخف وأهون بكثير مما يمكن أن يلحق بقائد الدعوة. هذا إلى جانب أن سيدنا نعيم راعى الناحية العاطفية التي تربط بين عمر وابن عمه وأخته، فهي يمكن أن تخفف من شدة الغضب لدى سيدنا عمر، وبالتالي تخف وطأة العقاب على سعيد وفاطمة، وهذا ما تحقق، فعندما رأى سيدنا عمر الدم ينزل من وجه أخته، تحركت فيه العاطفة، ورقّ قلبه، فكان ذلك من أسباب إسلامه.‏
المطلب الثالث: الحس والحذر لدى خَبَّاب وسعيد وفاطمة رضي الله عنهم
حينما سار سيدنا عمر إلى منزل ابن عمه سعيد، كان بداخل المنزل سعيد وخباب بن الأرتّ وفاطمة زوج سعيد، فلمّا سمعوا صوت عمر، تغيب خباب في مخدع لهم، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة، وجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة؟ قالا: ماعدا حديث تحدثناه بيننا.. وهنا يمكن أن نلمح ما يلي: ‏
أولاً: سرعة وسلامة التصرف حيال الطوارئ: ‏
سرعة التصرف وعدم الارتباك من الأمور الهامة والضرورية، لتفادي الحالات الطارئة، التي قد يتعرض لها أهل الدعوة، فمتى ما كان التصرف سليمًا وسريعًا، أمكن تفادي الخطر، وكانت النتائج إيجابية غالبًا.‏
لذا كان تصرف المجموعة الدعوية المكونة من سعيد، وخباب، وفاطمة، سريعًا وسليمًا، حيث تغيب خباب في المخدع، وأخفت فاطمة الصحيفة، وتصدى سعيد لمقابلته وفتح الباب له، وذلك عندما علموا أن القادم عمر، المعروف بشدته ضد الدعوة والدعاة.‏
ثانيًا: إخفاء الأثر من العدو: ‏
إخفاء الأثر من العدو، أمر لابد منه، فالأثر كالخيط والدليل الذي يقود الأعداء إلى مبتغاهم، لذا يجب إخفاء وإزالة أي أثر يمت إلى الدعوة، أو المدعوين بصلة، وهذا ما فعلته فاطمة رضي الله عنها حين جعلت الصحيفة تحت فخذها، وهو موضع لا يتطرق إليه الشك، وبالتالي تكون قد أخفت وثيقة خطيرة عن أعين عمر بن الخطاب، بالرغم من أن عمر اطلع عليها فيما بعد، ولكن العبرة بالتصرف السليم في إخفاء الأثر.‏
ثالثًا: اختفاء خباب رضي الله عنه: ‏
إن اختفاء خباب رضي الله عنه، لم يكن عن جبن أو خوف، بل هو تصرف أمني تمليه ظروف الزمان والمكان، ويتطلبه الموقف، فإذا وجد سيدنا عمر خباب مع سعيد وفاطمة، فإن هذا يؤدي إلى كشف معلومة خطيرة وبالغة الأثر على سير الدعوة في مثل هذه المرحلة، حيث كان خباب يقرئ سعيدًا وفاطمة القرآن، وهي خطة وضعت لتعليم المسلمين في تلك الظروف الصعبة، فإذا علم سيدنا عمر بذلك أخبر قريشًا، وربما نتج عن ذلك مراقبة دقيقة لمنع مثل هذا النوع من الاجتماعات، وبالتالي تخسر الدعوة وسيلة هامة وفعالة في تعليم المستجيبين.. وحتى لا يتحقق ذلك، اختفى سيدنا خباب رضي الله عنه.‏
رابعًا: خفض الصوت أثناء الاجتماع: ‏
لقد كان سيدنا خباب يقرئ سعيدًا وفاطمة القرآن بصوت منخفض، لدرجة أن الذي بالباب لم يستطع أن يتبينه، حيث وصفه سيدنا عمر (بالهينمة) ­وهي صوت كلام لا يفهم­ وهذا تصرف أمني ضروري.‏
خامسًا: التعريض والتورية: ‏
عندما سأل سيدنا عمر عن الصوت غير المفهوم، كانت الإجابة بعبارة تحمل في ظاهرها خلاف ما يريده قائلوها، وهذا نوع من التورية، فهم لم ينكروا أن هناك صوتًا، بل اعترفوا بأنه حديث دار بينهم، وهو حس أمني عال لسعيد وفاطمة، فعادة الحديث الذي يدور بين اثنين يكون بصوت منخفض، لا يميزه من يكون على مقربة منهم، لذا يمكن أن يوصف بالهينمة. فهم لم ينكروا، وإلا لتأكد لعمر أنهم يكذبون ويخفون عنه الحقيقة، وذلك لسماعه الصوت، لكنهم اعترفوا دون أن يصرحوا بما في أنفسهم، وهو نوع من التعريض، المطلوب في مثل هذا الموقف.‏
سادسًا: استغلال الفرصة لكسب العدو: ‏
ويظهر ذلك عندما طلب سيدنا عمر من فاطمة أن تعطيه الصحيفة، فاستغلت فاطمة الفرصة السانحة، فطلبت منه أن يغتسل، ففعل، ثم قرأ، فخشع قلبه، وهنا خرج سيدنا خباب بعد أن سمع ثناء سيدنا عمر على القرآن، فاستغل ذلك الموقف، فقال: أبشر يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: (اللهم أيد الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي الحكم بن هشام)، فالله الله يا عمر. من ذلك يتضح مدى اليقظة التي كان يتمتع بها كل من خباب وفاطمة، والقدرة على اغتنام الفرص، لكسب العدو، وكان نتاج ذلك أن أسلم سيدنا عمر رضي الله عنه.‏
المطلب الرابع: الحس والحذر لدى علـي وأبـي ذَرٍّ، رضي الله عنهما
قدم أبو ذر الغفاري إلى مكة باحثًا عن الدين الجديد، الذي ظهر بها، وكان ينوي مقابلة الرسول صلى الله عليه و سلم، وهو لا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، فاستضافه سيدنا علي ثـلاث ليال، قـال له بعـدها: ما أمـرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ فأجابه أبو ذر بقوله: إن كتمت عليّ أخبرتك. وفي رواية: إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا أن ترشدني أخبرك، قال: فإني أفعل، قال: بلغنا أنه خرج هاهنا رجل يزعم أنه نبي الله، فأرسلت أخي يكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه. فقال علي: أما إنك قد رشدت، وهذا وجهي إليه، أدخل حيث أدخل، فإن رأيت أحدًا أخافه عليك قمت إلى الحائط، كأني أصلح نعلي، وفي رواية: كأني أريق الماء، فامض أنت، فسار علي وأبو ذر خلفه، حتى دخل على النبي صلى الله عليه و سلم.‏
من النص السابق تتبين عدة جوانب هامة، من أبرزها: ‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عاشق المصطفى
عضو / ة
عضو / ة
عاشق المصطفى


الساعة الأن :
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 837
نقاط : 1628
السٌّمعَة : 1
تاريخ التسجيل : 15/10/2010

في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية Empty
مُساهمةموضوع: رد: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية   في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية Icon_minitime1السبت 16 أكتوبر 2010, 12:42 am

أولاً: التأني والتريث في الحصول على المعلومة: ‏
لقد تأنى سيدنا أبو ذر الغفاري في السؤال عن الرسول صلى الله عليه و سلم، وكره أن يسـأل عنـه، لما يعرفـه من كراهيـة قريش لكـل من يخاطب الرسول صلى الله عليه و سلم، وهذا التأني تصرف أمني تقتضيه حساسية الموقف، فلو سأل عنه، لعلمت به قريش، وبالتالي قد يناله من العذاب الشيء الكثير أو يطرد، ويخسر بالتالي الحصول على المعلومة، التي من أجلها حضر، وتحمل في سبيلها مصاعب ومشاق السفر.‏
ثانيًا: الاحتياط والحذر قبل النطق بالمعلومة: ‏
حين سأل سيدنا عليُّ أبا ذر عن أمره، وسبب مجيئه إلى مكة، لم يخبره، بالرغم من أنه استضافه ثلاثة أيام، إمعانًا في الحذر، فاشترط عليه قبل أن يخبره أن يكتم عنه، وفي ذات الوقت أن يرشده، فهذا غاية في الاحتياط، وبذا يكون قد ضمن السرية والكتمان لأمره، وفي الوقت ذاته الحصول على المعلومة، التي يبحث عنها، وهذا ما تم بالفعل.‏
ثالثًا: التغطية الأمنية للتحرك: ‏
تم الاتفاق بين عليٍّ وأبي ذر على إشارة، أو حركة معينة، كأنه يصلح نعله، أو كأنه يريق الماء، وذلك عندما يرى سيدنا علي من يترصدهم، أو يراقبهم، فهذه تغطية أمنية لتحركهم تجاه المقر (دار الأرقم)، هذا إلى جانب أن أبا ذر كان يسير على مسافة من علي، فيُعد هذا الموقف احتياطًا، وتحسبًا لكل طارئ، قد يحدث أثناء التحرك.‏
سُقْنَا هذه الأمثلة، لنؤكد تفوق الصحابة رضي الله عنهم في الجوانب الأمنية، بينما نجد في المقابل أن الحس الأمني لدى الكفار كان ضعيفًا.. ويمكن أن يلاحظ فشلهم هذا في عدة مواقف، منها: عدم معرفة المقر الخاص (دار الأرقم) للمسلمين، فلو كانت المراقبة اللصيقة متوفرة، لأمكن معرفة الدار عن طريق المتابعة، لأحد أفراد الدعوة، حتى يمكن من خلال مراقبته الوصول إلى الدار، ولكنهم فشلوا في ذلك. وكذلك عدم معرفة قريش، لكثير من الذين دخلوا في الإسلام حتى من قبل أقربائهم، فسيدنا عمر رضي الله عنه مثلاً، لم يكن يعلم بإسلام أخته وابن عمه، وهم أقرب الناس إليه. فهذا دليل أيضًا على عدم المراقبة اللصيقة حتى لأقرب الأقربين.‏
لقد كان الحس الأمني لدى أفراد قريش ضعيفًا، فمثلاً سيدنا عمر رضي الله عنه، لم ينتبه لنعيم بن عبد الله عندما أخذ منه المعلومة، ثم ضلله عن هدفه.. وكذلك والدة سيدنا أبي بكر رضي الله عنهما، لم يكن لديها الحس، الذي يمكنها من التعرف على أن أم جميل مسلمة، وأنها تعلم بمكان النبي صلى الله عليه و سلم.. وكذلك لم تكن رقابة الكفار إلى الوافدين لمكة وتحركاتهم متوفرة في تلك الفترة، بدليل أن سيدنا أبا ذر رضي الله عنه جاء وجلس ثلاث ليال في الحرم، يبحث عن الرسول صلى الله عليه و سلم، حتى أخذه سيدنا علي معه إلى منزله واستضافه عنده، ولم يكتشف أمره. ‏
وثمة سؤال لابد من الوقـوف عنـده، وهو مـا دام أن أهـل مكـة لا يهتمون بالجوانب الأمنية، فمن أين اكتسب الصحابة رضي الله عنهم هذا الجانب، وما هم سوى أفراد من ذلك المجتمع المكي؟‏
لعل الإجابة تكمن في أن هذا الجانب، كان من ضمن ما يتلقونه من النبي صلى الله عليه و سلم، وهذا ربما يعلل اختلاف التصرفات للصحابة بعد الإسلام.. ومما يؤكد تلقي الصحابة لهذه التربية الأمنية من النبي صلى الله عليه و سلم، الأحاديث التي تؤيد ذلك ومنها: (استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود).‏
فيما سبق، أوردنا نماذج تعبر عن مدى توفر الحس الأمني لدى الصحابة رضي الله عنهم في بدء الدعوة، حيث تبين مدى تغلغل هذا الجانب في نفوسهم، حتى أصبح سمة مميزة لكل تصرف من تصرفاتهم الخاصة والعامة، فأتت تحركاتهم وتصرفاتهم منظمة ومدروسة.. ولهذا فما أحوجنا الآن لمثل الحس الذي كان عند الصحابة بعد أن أصبح للأمن في عصرنا أهمية بالغة في زوال واستمرار الحضارات، وأصبحت له مدارسه الخاصة وتقنياته المتقدمة، وأساليبه ووسائله المتطورة، وأجهزته المستقلة، وميزانياته ذات الأرقام الكبيرة، وأضحت المعلومات عامة والمعلومات الأمنية خاصة، تباع بأغلى الأثمان، ويضحى في سبيل الحصول عليها بالنفس إذا لزم الأمر.‏
وما دام الأمر كذلك، فعلى المسلمين الاهتمام بالناحية الأمنية، حتى لا تصبح قضايانا مستباحة للأعداء، وأسرارنا في متناول أيديهم. ولابد أن يكون كلامنا موزونًا، فلا نلقي القول على عواهنه، فرب كلمة يقولها عابر سبيل في مقهى، أو سيارة أو نادي يتلقفها جاسوس، أو عميل تؤدي إلى نكبة قاصمة للظهر، وخسائر فادحة في الأرواح والأموال.‏
وعلى المسلمين الاهتمام بالحس الأمني، والتحدث عن ذلك في جميع مؤسساتهم السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وأن تكون التوعية عبر وسائل الإعلام المسموعة، والمقروءة، والمشاهدة، وعبر المؤسسات التعليمية على مختلف مراحلها.‏
كما لابد أن يُنَبَّه الناس إلى خطورة الإهمال، وتتم توعيتهم بالمواضيع التي لا يجوز أن يخوضوا فيها أمام العامة، حتى يدركوا مع من يتكلمون؟ ومتى؟ وأين؟ وكيف؟ ويحاطوا علمًا بأساليب، ووسائل الأعداء في الحصول على المعلومات، وتقدم لهم الأدلة الشرعية الدالة والآمرة بالتزام هذا الجانب، وتلك التي تتوعد من يفشي سر الأمة، وعقوبة ذلك في الدنيا والآخرة.. وبقليل من البذل والعمل، يمكن أن يتحول المجتمع المسلم كله، إلى حواس متقدمة، تعمل بدقة في خدمة الأمة وأهدافها.‏
الفصل الثاني:جوانب الحماية للدعوة في الفترة الجهرية

تـوطـئـة: ?
بعد مضي الفترة السرية، انتقلت الدعوة في مكة إلى مرحلة الجهرية، ولا ريب أن ثمة فوارق كبيرة في الوضع الأمني بين الفترتين، وهذا ما تمليه ملابسات وأحداث كل فترة، فبانتقال الدعوة من السرية إلى العلنية، ومن الاختفاء إلى الظهور، ومن القلة إلى الكثرة، طبيعي أن يصاحب ذلك تغيرات في الأساليب والمناهج، وطرائق الحماية وتحقيق الأمن.. ويمكن أن يكون شعار هذه المرحلة: الاستعداد لكل الاحتمالات، التي يمكن أن تحدث، والاجتهاد في وضع الحلول المناسبة لها في حال وقوعها، والتحسب لكل الاحتمالات والمستجدات.‏
وفي سيرة الرسول صلى الله عليه و سلم وكيفية تعامله مع هذه المرحلة من عمر الدعوة، عظة وعبرة، حيث أعد العدة، واهتم بالعدد، ووضع المناهج، وأعد الكوادر، وتحسب لكل الاحتمالات.. وسير الدعوة في هذه الفترة، يشير إلى ذلك، وسنحاول في هذا الفصل أن نقف على بعض جوانب تحقيق الأمن في الفترة الجهرية.‏
المبحث الأول: مقاومة وإحباط أساليب قريش العدوانية
لقد استخدمت قريش عدة أساليب عدوانية في المرحلة الجهرية، للحيلولة دون دخول الناس في الإسلام، والقضاء على الرسول صلى الله عليه و سلم ودعوته، فقد استخدمت أسلوب الحرب النفسية، ولـمّا لم تجد جدوى لذلك، لجأت إلى الاضطهاد، فعجزت، ثم اعتمدت أسلوب المفاوضات، المباشرة وغير المباشرة، ولم تفلح، ثم ضربت حصارًا صارمًا على المسلمين ففشلت.. وسوف نتناول في هذا المبحث، بإذن الله، كل أسلوب من هذه الأساليب على حدة، لنقف على الكيفية التي نُفذ بها، وكيفية مقاومة المسلمين له.‏
المطلب الأول: الحرب النفسية ومقاومة المسلمين لها
تعتبر الحرب النفسية من أخطر أنواع الحروب، التي تواجه العقائد والحركات الإصلاحية، في كل زمان ومكان، فهي تستهدف الأفكار، والتعاليم الناهضة، لتحول بينها وبين الوصول إلى العقول، والرسوخ في القلوب، وهي تبذر بذور الفرقة والانقسام، وتضع العقبات أمام التقدم والتطور، وتعمل في الظلام، وتطعن من الخلف، وتلجأ إلى التشويش على المعتقدات والأفكار، وخلق الأقاويل والإشاعات، ونشر الإرهاب، واتباع وسائل الترغيب والترهيب، مما يجعل هذه الحرب أشد خطورة من المواجهة العسكرية في ميادين القتال.‏
لذا كانت الحرب النفسية وخاصة الإشاعة، أول أسلوب جابهت به قريش الدعوة في مرحلتها الجهرية.. فقد استخدمت قريش الإشاعة أيما استخدام ضد الدعوة والرسول صلى الله عليه و سلم، فلم يمض على الجهر بالدعوة إلا أَشْهُر معدودة، حتى اجتمعت قيادة قريش، كي تتوصل إلى اتفاق حول كلمة يقولونها للعرب عن محمد صلى الله عليه و سلم، في موسم الحج، فقال لهم الوليد: (فأجمعوا فيه رأيًا واحدًا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولُكم بعضُه بعضًا). فجرت مداولات، وآراء خرجوا منها بأن يقولوا: ساحر، جاء بقول هو سحر، يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته.‏
وهذا اتفاق محكم على إطلاق هذه الإشاعة في موسم الحج عن قائد الدعوة، ووصفه بالسحر، مما يجعل هذه الإشاعة تنتشر في جميع أصقاع الجزيرة العربية عن طريق وفود الحجيج.. واتفاقهم على كلمة ساحر هذه، جعل الإشاعة محكمة، فلو تعددت الكلمات، وتباينت، لأدى ذلك إلى أن تكذب قريش بعضها بعضًا، مما يضعف أثر ومفعول الإشاعة، ولكن هذا الاتفاق قاد إلى سريان هذه الإشاعة، حتى إن الرجل يأتيه صاحبه من مصر أو اليمن، فيأتيه قومه أو ذوو رَحِمِه، فيقولون له: (احذر فتى قريش لا يفتنك).‏
ثم استخدموا أسلوبًا آخر من أساليب الحرب النفسية، يقوم على السخرية، والتحقير، والاستهزاء، والضحك، قصدوا من ذلك تخذيل المسلمين، وتوهين قواهم المعنوية، فرموا صاحب الدعوة صلى الله عليه و سلم بالجنون، (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) (الحجر: 6). ‏
ومن المفتريات الأخرى التي أشاعتها قريش عن النبي صلى الله عليه و سلم، الكذب، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم، أصدق الناس، وأبرهم، بدليل أن أبا سفيان، عندما سأله هـرقل عـن رسـول الله صلى الله عليه و سلم: هل جربتم عليه الكذب؟ قال: لا. فقال هرقل: ما كان يدع الكذب على الناس ويكذب على الله.‏
وكانوا يضحكون من المؤمنين، ويسخرون منهم، ويغمز بعضهم بعضًا عند مرور المسلمين بين أيديهم، قال تعالى: ( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ـ وإذا مروا بهم يتغامزون ـ وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ـ وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون ـ وما أرسلوا عليهم حافظين ) (المطففين: 29­33).
واتبعت قريش أسلوبًا آخر من أساليب الحرب النفسية، تمثل في تشويه تعاليم الإسلام، وإثارة الشبهات حولها، وبخاصة القرآن الكريم، وكانوا يكثرون من ذلك، بحيث لا يبقى للعامة مجال في تدبر القرآن، فنسبوا ما جاء به القرآن إلى أساطير وأكاذيب الأولين، التي تملى على سيدنا محمـد صلى الله عليه و سلم صبـاح مسـاء: ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) (الفرقان: 5).. كما زعموا أن القرآن مفترى من قِبَل محمد صلى الله عليه و سلم، وأعانه عليه قوم آخرون: (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون) (الفرقان: 4).. وكانوا يقولون: (إنما يعلمه بشر ) (النحل: 103).. فهم يرجعون القرآن إلى مصدر بشري لا إلهي، قال السيوطي فيما رواه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلم قينًا بمكة اسمه (بلعام) وكان أعجمي اللسان، وكان المشركون يرون النبي صلى الله عليه و سلم يدخل ويخرج من عنده، فقالوا إنما يعلمه بلعام.. كما أنهم كانوا يقومون بالصياح، ويأتون باللغط أثناء قراءة النبي صلى الله عليه و سلم للقرآن، عَلَّه يسكت عن القراءة، أو يكون سببًا يحول بين سماع الناس للقرآن، قـال تـعـالـى: ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) (فصلت: 26).‏
فالقرآن هو المصدر الأول من مصادر الإسلام التشريعية، فأي شبهة حوله هي شبهة في المصدر الأساس، ربما نتج عنها شك في الإسلام كله، إذ الإسلام كله يقوم على القرآن والسنة، ولكي تحقق قريش ذلك الشك أثارت الشبهات في القرآن كما أشرنا.‏
إن هذه الشبهات التي أثارتها قريش حول القرآن، لا تختلف كثيرًا عن الشبهات، التي يثيرها أعداء الدعوة حول القرآن في عصرنا هذا ­إن لم تكن امتداد لها­ فإن قالت قريش أساطير الأولين، فالمعاصرون قالوا: إن القرآن مأخوذ من حكايات فرق النصارى الضالة.‏
وإذا قال الأقدمون إنما يعلمه (بلعام)، قال المعاصرون: إن الحنفاء هم الذين علموا محمدًا القرآن، وقد أصبحت مسألة ادعاء تأليف محمد للقرآن لدى المستشرقين أمرًا لا يقبل الجدل، وتلقفت (أوكار التجسس) العالمية أفكار هؤلاء المستشرقين، وأضحت تروج لها عبر الإعلام بوسائله المختلفة، وعبر المنظمات الكنسية بصورة واسعة في شكل نشرات وكتيبات، توجه للمسلمين وغير المسلمين.‏
ومن أساليبهم التي اتبعوها في تنفير الناس عن القرآن، أنهم كانوا يعارضون القرآن بقصص وأساطير الأولين، ليشغلوا بها الناس عن سماع القرآن.. لقد ذهب النضر بن الحارث إلى الحيرة، ليتعلم أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم، واسفنديار، من أجل أن يعارض القرآن. وعند رجوعه من الحيرة، وبعد أن تعلمها، بدأ في تنفيذ مهمته، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم مجلسًا للتذكير بالله، والتحذير من نقمته، خلفه النضر قائلاً: والله ما محمد بأحسن حديثًا مني، ثم يحدثهم عن ملوك فارس، ورستم، واسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثًا مني؟
هذه الحادثة تُظهر مدى اهتمام الرؤوس المدبرة لدى قريش بالقضاء على أثر القرآن على الناس، مما جعلهم يبتعثون أحدهم لتعلم القصص والأساطير من أجل معارضة القرآن.‏
وربما كانت حادثة الإسراء والمعراج، من أكبر الحوادث، التي استغلتها قريش في شن حرب نفسية على الرسول صلى الله عليه و سلم، فبعد عودته من رحلة الإسراء والمعراج، جلس في الحرم ينوي إخبار قريش بالأمر، مر به أبو جهل، فقال له: هل من خبر؟ فقال: (نعم). قال: وما هو؟ فقال: (إني أسري بي الليلة إلى بيت المقدس). قال: إلى بيت المقدس؟ فقال: (نعم). قال أبو جهل: (هيا معشر قريش)، وقد اجتمعوا من أنديتهم. فقال: أخبر قومك بما أخبرتني به. فقص عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم خبر ما رأى، وأنه جاء بيت المقدس وصلى فيه، فإذا بالقوم بين مصفق ومصفر، تكذيبًا له، واستبعادًا لخبره، وطار الخبر بمكة، وارتد ناس ممن كان آمن به من ضعاف القلوب، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال قولته المشهورة: إن كان قال ذلك فقد صدق.‏
لقد استغلت قريش هذه الحادثة في الدعاية ضد النبي صلى الله عليه و سلم، منذ أن تلقفتها على يد أبي جهل، الذي حاول استخدام ذكائه، حين طلب من الرسول صلى الله عليه و سلم أن يجمع له قريش فيخبرهم بالذي أخبره به، لأنه تأكد أن مثل هذا الخبر، إذا نقله بنفسه، قد لا يصدقه الناس، وفي ذات الوقت لا يلقى الرواج والنجاح الذي يلقاه عندما يصدر من الرسول صلى الله عليه و سلم. وهذا ما حدث، حيث كان رد فعل قريش التصفير والتصفيق والسخرية. وما أصعب على رجل صادق أمين، أن يُرمى بالكذب، ويُسخر منه.‏
وكان من أكبر ما تحصلت عليه قريش من الحادثة، ارتداد بعض ضعاف الإيمان.. ولم تكتف قيادة قريش بذلك، بل حاولت استغلال الحادثة، لإحداث فُرقة بين النبي صلى الله عليه و سلم، وصديقه الحميم أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولكنها باءت بالفشل.‏
ولولا الحس الأمني العالي لدى النبي صلى الله عليه و سلم، لكانت تلك الحادثة سببًا في ارتداد كثير من الناس، وذلك بتقديمه لأدلة قاطعة على رحلته تلك، وأثناء الرحلة، حيث ذكر مكان عير لقريش، حينما ند عنهم بعير، وكذلك شرب من إناء مغطى، فشرب كل ما فيه وتركه مغطى، وقد حدد لقريش مكان وزمان فعله هذا، حين دلهم على اسم الوادي الذي دل فيه العير على البعير، والمكان الذي شرب فيه الماء. فعندما جاءت العير أثبتت ما قاله المصطفى صلى الله عليه و سلم، فكان ذلك بمنزلة تثبيت للمؤمنين، وإبطال لمفعول الدعاية، التي حسبت قريش أنها بها تستطيع خلخلة أسس الدعوة.‏
كما أن القرآن كان بمثابة البلسم الشافي لدرء خطر هذا الأسلوب الخبيث الذي لجأت إليه. فعندما لجأت قيادة قريش إلى أسلوب السخرية والاستهزاء بالرسول صلى الله عليه و سلم وصحبه، جاءت آيات القرآن مواسيـة لهـم، قال تعالى: ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون) (الأنعام: 10)، فهذه الآية، بينت أن هذا الأسلوب استخدم مع سالف الرسل عليهم صلوات الله وسلامه، وفي ذلك سلوى للرسول صلى الله عليه و سلم وصحبه. ثم وضحت مصير الساخرين والمستهزئين، وأن الغلبة للحق وأهله، وفي ذلك إعطاء أمل للمسلمين يجعلهم يصبرون، ويتحملون تلك السخرية. وفي ذات الوقت تهديد ووعيد للكفار، الأمر الذي ربما يكون له أثره النفسي عليهم.‏
ثم إن القرآن رد على شبهة الكفار، التي زعموا فيها أن الذي علم الرسول صلى الله عليه و سلم بَشَر ­بلعـام­ قـال تعالى: ( ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عـربي مبين ) (النحـل: 103) ، فـفنـد تلك الشبهـة بصـورة قاطعة، حيث بيّن أن بلعام أعجمي اللسان، بينما القرآن عربي اللسان، فأُسقط في أيدي الكفار.. وهكذا ما أحدث الكفار أسلوبًا للحرب النفسية، إلا وبادر القرآن إلى دحضه.‏
المطلب الثاني: مقاومة المسلمين لأسلوب الاضطهاد
لقد جربت قريش الأساليب السالفة في الحرب النفسية، ولما تيقنت أنها لم تجد في إيقاف زحف الدعوة، وتقدمها، لجأت إلى أسلوب آخر يقوم على التعذيب والتنكيل بالرسول صلى الله عليه و سلم وأتباعه رضي الله عنهم، وكوّنت لذلك لجنة بلغ عدد أعضائها خمسة وعشرين رجلاً من سادات قرىش، يتزعمها أبو لهب عم النبي صلى الله عليه و سلم، وبعد التشاور والتفكير، اتخذت اللجنة قرارًا حاسمًا ضد الرسول صلى الله عليه و سلم وصحبه، فقررت ألا تألو جهدًا في محاربة الإسلام، وإيذاء قائد الدعوة وصحبه، والتعرض لهم بألوان النكال والإيلام.‏
إذن، انتقلت قريش وجهازها المكون من خمسة وعشرين فردًا، من الحرب النفسية المعنوية إلى الحرب المادية الجسدية، حيث التعذيب والتنكيل بالمسلمين، وقد تفنن هذا الجهاز الرهيب في إلحاق صنوف من العذاب تتصف بالقسوة، وعدم الرحمة، وشدة الإيلام، بدءًا بقائد الدعوة صلى الله عليه و سلم، وانتهاءً بالأرقاء، والضعفاء من المسلمين.. فقد نالت منهم زبانية هذا الجهاز بزعامة أبي لهب ما نالت من صنوف العذاب، التي تقشعر لذكرها الأبدان.‏
قيادة قريش تقوم بتعذيب قائد الدعوة صلى الله عليه وسلم: ‏
لقد مارس هذا الجهاز ألوانًا من التعذيب والإيـذاء لشخـص الرسول صلى الله عليه و سلم، فقد وُضع سِلا الـجَزُور عليه وهو ساجد.. وتفل عقبة ابن أبي مُعَيْط في وجهه.. ومرة وضعوا رداءه في عنقه، ثم جروه به حتى وجب النبي صلى الله عليه و سلم ساقطًا.. هذا إلى جانب ما كان يضعه جيرانه من القاذورات والأشواك أمام بابه، وكان الهدف من كل ذلك ثني النبي صلى الله عليه و سلم أو على أقل تقدير تعطيله عن القيام بالدعوة إلى الله، وهو الأسلوب الذي لجأت إليه قريش، كما أسلفنا، بعد فشلها في الحرب النفسية ضد شخص النبي صلى الله عليه و سلم، فكان لثبات النبي صلى الله عليه و سلم، وصبره على هذه الألوان من العذاب، كبير الأثر في نفوس المؤمنين، فتحملوا العذاب بصبر وجَلَد، تأَسيًّا به.‏
وهذه بعض صور التعذيب التي تعرض لها أفراد الدعوة من قِبَل الجهاز القرشي، وهي تتفاوت من شخص لآخر، شدة ولينًا، طولاً وقصرًا.‏
ـ التعذيب بحرارة الشمس (الرمضاء): ‏
فمن الذين أوذوا في الله سيدنا بلال بن رباح، رضي الله عنه، الذي تولى تعذيبه، وأشرف عليه، أمية بن خلف، حيث كان يجعل في عُنقه حبلاً، ويدفعه إلى الصبيان يلعبون به ويجرونه، ثم يُذْهَب به إلى رمضاء مكة، ويلُقى على ظهره، وتُوضع على صدره صخرة عظيمة، ويقولون له: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فكان جوابه: أحدٌ أحدٌ. فمر به سيدنا أبو بكر، رضي الله عنه يومًا، وهو على هذه الحالة، فقال: يا أمية أما تتقي الله في هذا المسكين، حتى متى تعذبه؟ قال: أنت أفسدته، فأنقذه مما ترى، فاشتراه وأعتقه.‏
لقد كان الهدف من هذا التعذيب واضحًا، وهو حمل المسلمين قسرًا على ترك الإسلام، والعودة إلى الشرك، حيث كان الخيار المطروح أمام بلال: الموت أو الكفر، ولكن فات على قريش أن الخيار الأول أحب إلى بلال من الثاني، فكان جوابه: أحدٌ أحد.‏
وهنا تظهر حكمة أبي بكر، رضي الله عنه، وسلامة تصرفه حيال هذا الموقف، حيث استخدم الأسلوب العاطفي، وحاول استمالة قلب أمية، فرغبه ورهبه من هذا التعذيب لهذا الرجل المسكين الضعيف، مما كان له الأثر الكبير في عتق بلال، وفكه من العذاب.‏
ـ التعذيب بالنار حتى الموت: ‏
قامت قريش باستخدام النار في تعذيب المسلمين، حيث عذبت أسرة بأكملها ­آل ياسر­ بالنار، فمات الشيخ ياسر تحت التعذيب، وقتلت سمية بطعنة رمح، فكانت أول شهيدة في الإسلام، أما عمّار فتلفظ بكلمة الكفر مكرهًا، فرُفع عنه العذاب إلى حين، وفيه نزل قولـه تعـالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) (سورة النحل: 106).‏
وممن عذب بالنار أيضًا سيدنا خباب بن الأرت رضي الله عنه، فكانت مولاته تعذبه بالنار، فتأتي بالحديدة المحماة، فتجعلها على ظهره ليكفر، فلا يزيده ذلك إلا إيمانًا.. وممن عذب بالنار كذلك، سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه.‏
لقد قصدت قريش من هذا التعذيب، فتنة المسلمين، وصدهم عن دينهم ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، بدليل أن سيدنا عمّارًا لـمّا تلفظ بكلمة الكفر تركوه، وأما الذين صمدوا وصبروا، فإما قتلوا تحت التعذيب، أو أعجزوا قريش صبرًا وتحملاً.‏
وفي موقف عمّار ملحظ له دلالاته.. فحين اشتد عليه العذاب، تلفظ بسب النبي صلى الله عليه و سلم مكرهًا، وقد جاء القرآن مستثنيًا من الكفر هذا التصرف، بل قال له الرسول صلى الله عليه و سلم: (إن عادوا فعد).. وعلى ذلك يجوز للمسلم المداراة في حالة الإكراه، بشرط أن يبقى قلبه مطمئنًا بالإيمان، لكن ليس ذلك على إطلاقه، فإذا كان التلفظ ببعض الكلمات يلحق ضررًا بالغاً بالدعوة والمدعوين، ففي هذه الحالة، الصبر والثبات أولى.. والضرورات تقدر بقدرها.‏
ـ مجابهة المسلمين لاضطهاد قريش: ‏
لقد كان لثبات وصبر الصحابة، وعلى رأسهم المصطفى صلى الله عليه و سلم، كبير الأثر على معنويات قريش، التي ضاقت ذرعًا بهذا الصبر والتحمل، الذي وقف سدًا منيعًا دون حصول قيادة قريش على ما تريد.‏
وثمة عوامل كانت وراء هذا الثبات العظيم، والصبر الجميل، على الأصناف والألوان المختلفة من العذاب، لعل من أهمها: ‏
ـ دور الرسول صلى الله عليه و سلم، وذلك بعد الإيمان القاطع بالله، إذ ضرب لهم المثل بنفسه، فناله ما ناله من عذاب في سبيل الله، وفي ذلك سلوى للمسلمين، فعندما ينظرون إلى عذاب سيد البشر صلى الله عليه و سلم، يهون عليهم عذابهم، مما يدفعهم إلى الصبر والثبات تأسيًا به صلى الله عليه و سلم.‏
ـ ومما أعان الصحابة رضي الله عنهم على الصبر والتحمل، دعاء الرسول صلى الله عليه و سلم لهم، فكان عندما يمر علىهم وهم يُعذبون، يدعو لهم، ويحثهم على الصبر، مبشرًا إياهم بالجنة، فكان يقول لآل ياسر: (صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة، اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت).. فهذا مما يعطي الصحابـة دافعًا، وقـوة معنويـة لا تليـن، ولا تركن للكافرين، فمات ياسر رضي الله عنه تحت التعذيب، ونالت سمية رضي الله عنها الشهادة.‏
ـ وتارة كان النبي صلى الله عليه و سلم يعد الصحابة بالنصر والتمكين، ضاربًا لهم المثل من الذين خَلَوْا من قبلهم، فعندما جاءه خباب رضي الله عنه، وسأله أن يدعو الله لهم كي يخفف عنهم هذا العذاب، أجابه بقوله: (كانَ الرَّجُلُ فيمَن قبلكم، يُحفرُ له في الأرض، فيُجعلُ فيه، فيُجاءُ بالمِنشارِ، فيُوضَعُ على رَأسِهِ، فيُشَقُّ باثنتين، وما يصدُّهُ ذلك عن دينه، ويُمشطُ بأمشاط الحديدِ ما دونَ لحمه من عظمٍ أو عَصَبٍ، وما يصدُّهُ ذلك عن دينه، واللهِ ليُتِمَّنَّ هذا الأمرَ، حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حَضْرَمَوْت [وفي رواية: إلى مكة] لا يخافُ إلاَّ اللهَ، أو الذئبَ على غَنَمِه، ولكنَّكم تستعجلون).‏
لقد كان رد النبي صلى الله عليه و سلم على شكوى خباب، الذي اشتد عليه عذاب الكفار، شافيًا، وذلك لاشتماله على مبدأ التشجيع.. والتشجيع مبدأ فيه سلوى وتخفيف، فقد وضّح له أن عذاب الذين سبقوه من المؤمنين كان أشد مما يلاقونه الآن، وذلك ليستثير صبره، ثم فتح له باب الأمل، بأن بشّره بمستقبل الإسلام، وانتشاره، وبسط الأمن والطمأنينة.. وهنا يظهر تصرف الرسول القدوة صلى الله عليه و سلم، حيث أفسد الأثر الذي تركته قريش في نفس خباب، وبالتالي فوت عليهم الفرصة، فرجع خباب أقوى إيمانًا مما كان عليه قبل مواساة الرسول صلى الله عليه و سلم له.‏
ـ ومما ساعد المسلمين على اجتياز هذه المحنة، التي أوقعهم فيها كفار قريش، الشعور بالمسؤولية، حيث كان الصحابة رضي الله عنهم يشعرون شعورًا تامًا بما على كواهلهم من المسؤولية الضخمـة، التـي لا يمكن الحياد عنها، أو الانحراف بحال، فالعواقب التي تترتب على الفرار من تحملها أشد ضخامة، وأكبر ضررًا عما هم فيه من الاضطهاد والعذاب.‏
كما أنه كان للقرآن دور بارز في تهوين المتاعب، والمرارات التي كان يحسها الصحابة أثناء التعذيب، والاضطهاد، فيجدون فيه البلسم الشافي، إذ يحثهم على الصبر، ويوضح لهم ثواب الصابرين فيصبرون، ويوضح لهم مصير الزبانية، والمتكبرين فيسخرون منهم، ويحتقرون فعلهم، ويرشدهم إلى أن هذه الفتنة، وهذا الابتلاء، من طبيعة الطـريـق، وأنهـا شيء لابـد منـه، لتمييز الصـادق من الكـاذب: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) (البقرة: 214).‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عاشق المصطفى
عضو / ة
عضو / ة
عاشق المصطفى


الساعة الأن :
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 837
نقاط : 1628
السٌّمعَة : 1
تاريخ التسجيل : 15/10/2010

في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية Empty
مُساهمةموضوع: رد: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية   في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية Icon_minitime1السبت 16 أكتوبر 2010, 12:45 am

ومن تبعـات الإيمـان، كمـا يوضـح القـرآن، الابتـلاء والامتحـان: (آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ـ ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين).(العنكبوت: 1­3).
وعلى هذا يمكن أن نلخص العوامل التي جابه بها المسلمون اضطهاد قيادة قريش، فيما يلي: ‏
الإيمان بالله تعالى إيمانًا راسخًا ثابتًا.. التأسي بالرسول صلى الله عليه و سلم.. الدعاء وطلب الصبر والثبات من الله.. الشعور بالمسؤولية الملقاة على عاتق المؤمن.. الإيمان بالدار الآخرة، وما فيها من ثواب وعقاب.. مصاحبة القرآن الكريم.‏
وما أحوج المسلمين اليوم، وهم يعانون ما يعانون من المحاصرة والاضطهاد، إلى الإفادة من السيرة، والتأسي بمواقف الرسول صلى الله عليه و سلم وأصحابه رضي الله عنهم، في مواجهة المخاطر والمؤامرات التي تحيط بدعوتهم.‏
والمتتبع لتأريخ الدعوة، يقف على ما تقشعر لذكره الأبدان، ويخفق لسماعه الجنان.‏
المطلب الثالث: فشل قيادة قريش في المفاوضات
بعد أن أخفقت قيادة قريش في أسلوب الاضطهاد، ولم تجن منه سوى الخسران، إذ كان المسلمون يتزايدون ­كما فشلت من قبل حين استخدمت أسلوب الحرب النفسية­ لجأت إلى أسلوب المفاوضات غير المباشرة، والمباشرة مع النبي صلى الله عليه و سلم.‏
ـ قيادة قريش تجري مفاوضات غير مباشرة مع أبي طالب: ‏
قررت قيادة قريش أن تبدأ المفاوضات مع عم النبي صلى الله عليه و سلم، باعتباره القائم على حمايته، والدفاع عنه، ضد عدوان قريش.. ذهب إلى أبي طالب وفد من قريش فقالوا له: يا أبا طالب! إن ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفَّه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفَّه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه.. فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقًا، وردهم ردًا جميلاً.‏
ولعل بدء قريش المفاوضات مع أبي طالب، أملته ظروف وملابسات معينة، من أظهرها أن أبا طالب يمثل خط الدفاع الأول عن الرسول صلى الله عليه و سلم، ولـه فضـل على المصطفـى، حيث تكفَّل برعايتـه بعـد مـوت جـده عبد المطلب، لذا بدأت قيادة قريش المفاوضات معه، وحاولت التأثير عليه، فإذا خلى أبو طالب بينهم وبين ابن أخيه، فهذا يُمكِّن قريشًا من النبي صلى الله عليه و سلم، فتفعل به ما تشاء، بعد أن يكون قد فقد حماية عمه أبي طالب. وإذا كفَّه عنهم فذلك غاية ما يتمنونه.. وما طلبوا من أبي طالب أن يكف ابن أخيـه عنهم، إلا لعلمهم أنه أقرب مَن يمكـن أن يكلـم الرسـول صلى الله عليه و سلم، ويسمع منه، لقربه منه، ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث، فردهم أبو طالب ردًا جميلاً، فانصرفوا دون أن يظفروا منه بشيء.‏
ولكنهم عاودوا الاتصال مرة أخرى، فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سنًا، وشرفًا، ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك، فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك على ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا عنه.‏
فبعث أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم، فقال له: يا ابن أخي! إن قـومـك جـاءونـي، فقالـوا لـي كـذا وكـذا، فأبـق علـيَّ وعـلى نفسـك، ولا تحملني من الأمر مالا أطيق، فظن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء، أنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال: (يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته).. ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه و سلم فبكى، ثم قام، فلمـا ولَّى نـاداه أبو طالب، فقـال: أقبـل يا ابن أخي! فأقبـل عليـه، فقال: اذهب يـا ابن أخي، فقـل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا.‏
لقد اختلف أسلوب قادة قريش هنا تمامًا عن أسلوبها السابق في مخاطبة أبي طالب، حيث أصبحت اللهجة هنا شديدة ممزوجة بالتهديد والتحذير من مغبة هذا التأييد والحماية لمحمد صلى الله عليه و سلم، فبات موقف أبي طالب صعبًا، فقد وضعته قيادة قريش أمام خيارين لا ثالث لهما، كلاهما مُر، مما جعل أبا طالب يرسل إلى ابن أخيه بخلاف المرة السابقة، التي لم يكن فيها أسلوب قريش بهذه الحدة والشدة.‏
ويبدو أن قيادة قريش استطاعت أن تؤثر نفسيًا ومعنويًا على أبي طالب، بدليل أنه قال لسيدنا محمد صلى الله عليه و سلم: (فأبـقِ علـيَّ وعـلى نفسـك، ولا تحملني من الأمر مالا أطيق)، فهذا مما ينبئ بالحالة النفسية التي وصل إليها أبو طالب من جراء تهديد قريش له، ولكن الموقف الثابت الصلب الصلد من النبي صلى الله عليه و سلم ورده الحاسم: (والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه، ما تركته)، وضع هذا الرد الأمور في نصابها.. وهذا الرد قمة في الحكمة، إذ وضع النقاط على الحروف، وخط خطًا فاصلاً وجسرًا منيعًا بين المضي في طريق الدعوة حتى النهاية، وبين التراجع أو التنازل والتخاذل، مما كان له أكبر الأثر على أبي طالب، الذي حسم موقفه وتخلص من الخوف والتردد الذي أصابه من جراء تهديد قريش، وجزم ألا يُسلم الرسول صلى الله عليه و سلم.‏
وكان من نتائج موقف النبي صلى الله عليه و سلم، وعمه أبي طالب، أن تحققت قريش من أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه و سلم، وأنه أجمع على فراقهم في ذلك، لذا مشوا إليه مرة ثالثة بعرض تفاوضي آخر، فأحضروا معهم هذه المرة عمارة بن الوليد. فقالوا: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش، وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدًا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا، الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرّق جماعة قومك، وسفَّه أحلامهم، فنقتله فإنما هو رجل برجل، فقال: والله بئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبدًا.‏
إنه أسلوب آخر تستخدمه طغمة الكفر مع أبي طالب، وهو يختلف عن سابقيه، حيث طُرح فيه عرض تَمَثَّلَ في عمارة بن الوليد، الذي قدموه بطريقة فيها شيء من الذكاء، إذ أثنوا على عمارة بما يُرغِّب فيه، ثم طلبوا من أبي طالب مبادلته بابن أخيه، الذي وصفوه بصفات تزهد فيه، حين قالوا: خالف دينك ودين آبائك، وفرّق جماعة قومك.. وصفوه بذلك ليبرروا قتل الرسول صلى الله عليه و سلم، وهم لم يقولوا: أعطنا ابن أخيك لنقتله، بل قدموا هذه التبريرات كي تكون تعليلاً لقتله.‏
ولكن فات قريشًا، على الرغم من ذكائها وعرضها المتوازن ماديًا، والمختل عاطفيًا وعقليًا، فات عليها ما أدركه أبو طالب، حين قال لهم: والله لبئس ما تسومونني به، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟ فهذا بالطبع مالا يقبله عاقل منصف، وهو ما فات على قريش أن تدركه، فخاب سعيهم ولم يظفروا بشيء.‏
ـ إقدام قريش على المفاوضات المباشرة: ‏
بعد إخفاق قيادة قريش في المفاوضات غير المباشرة، اتجهت نحو المفاوضات المباشرة مع النبي صلى الله عليه و سلم، وذلك عقب اجتماع ضم أربعة عشر فردًا من قادة معسكر الشرك، وهم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان، والنضر بن الحارث، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشـام، وعبـد الله ابن أمية، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف.‏
ويلاحظ على هؤلاء النفر أنهم من أشراف قريش وكبرائها، وهم من ألد خصوم الدعوة، ويجمع هؤلاء جميعًا هَمُّ القضاء على الدعوة في مهدها، فتبادلوا الآراء، وتشاوروا في الأمر، حتى خلص عتبة إلى قوله: يا معشر قريش! ألا أقوم لمحمد، فأكلمه، وأعرض عليه أمورًا، عله يقبل بعضها، فنعطه إياها فيكف عنا! فأجابه الحضور: يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه.‏
فذهب إلى الرسول صلى الله عليه و سلم، وهو يصلي في المسجد، فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرَّقت به جماعتهم، وسفهت أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني، أعرض عليك أمورًا، تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها، فقال عليـه الصـلاة والسـلام: (قل يا أبا الوليد، أسمع). قال: يا ابن أخي! إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفًا سوَّدناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان الذي يأتيك رئيًا من الجن لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى.‏
فلما فرغ عتبة، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (أقد فرغت يا أبا الوليد؟) قال: نعم. قال: (فاسمع مني). قال: أفعل. فقرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم آيات من أول سورة فصلت إلى السجدة. فلما سمع عنه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليها، يسمع منه، فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى السجدة منها سجد، ثم قال: (قد سمعت يا أبا الوليـد ما سمعت، فأنت وذلك).‏
وفي رواية، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم: (ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحتُ لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم).‏
فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض، يحلف بالله: لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعتُ قولاً، والله ما سمعتُ مثله قطُّ، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة.. يا معشر قريش! أطيعوني، فاجعلوها بي، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لكلامه الذي سمعتُ نبأ، فإن تصبه العرب كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فعزه عزكم. فقالوا: لقد سحرك محمد. قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.‏
يُظهر الحوار الذي دار بين الرسول صلى الله عليه و سلم، وعتبة بن ربيعة، ذكاء مندوب قيادة قريش، حين استخدم الأسلوب العاطفي مع النبي صلى الله عليه و سلم، فخاطبه بقوله: (يا ابن أخي! إنك منا حيث قد علمت). وقوله: (قومك). ثم كرر: (ابن أخي) مرة أخرى، وربما قصد من الأسلوب العاطفي، التأثير على النبي صلى الله عليه و سلم، عله يستجيب لهم، أو على الأقل يفكر في الأمر.‏
ولإحكام العرض، نوّعت قيادة قريش الخيارات للمصطفى صلى الله عليه و سلم، من مال، وسيادة، وملك، وهي المطالب التي عادة ما يمكن أن يضمرها أصحاب الدعوات الجديدة، والمنادون بالثورة والإصلاح.. فظنت قيادة قريش أن هدف محمد صلى الله عليه و سلم من دعوته هذه، لا يخلو من أحد العروض آنفة الذكر. ولكن فات على قريش جوهر وحقيقة دعوة الإسلام، المغايرة لسائر الدعوات الوضعية، فهي مرتبطة بالسماء، غايتها وأهدافها سامية، لذا كـان الـرد قاطعـا وحاسمًا مـن قائـد الدعـوة: (ما بي ما تقولـون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم...)، إنما هدفه وغايته إخراج الناس من الظلمات إلى النور.‏
ـ تعـقـيـب: ‏
ربما تساءل بعض الناس: لماذا لم يرض رسول صلى الله عليه و سلم ­من باب الحكمة والسياسة­ الزعامة، أو الملك، على أن يقرر في نفسه اتخاذ الملك والزعامة وسيلة إلى تحقيق دعوة الإسلام فيما بعد، خصوصًا وأن للسلطان والملك تأثيرًا قويًا في النفوس؟ ولعل الإجابة تكمن في أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يرض سلوك هذه السياسة والوسيلة إلى دعوته، لأن ذلك ينافي مبادئ الدعوة نفسها، ولأن المساومة كانت للعدول عن الدعوة، وفي الإسلام الغاية لا تبرر الوسيلة، فالله سبحانه وتعالى تعبَّدَنَا بالوسائل كما تعبَّدَنا بالغايات، فليس لأحد أن يسلك إلى الغاية التي شرعها الله، إلا بالوسيلة السليمة الخالصة القاصدة التي شرعها الله، قال تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا) (الكهف: 110).‏
وهذا مبدأ هام من مبادئ الإسلام.. فإذا كانت بعض المواقف في الشدة والمحنة، تحتاج إلى مداراة، فعلى المسلم أن يكون حذرًا في ذلك، غير متجاوز حدود الشرع.‏
ونلاحظ أيضًا حكمة النبي صلى الله عليه و سلم في الرد على عُتبة حين تخير هذه الآيات من سورة فصلت، ليعرف محدثه حقيقة الرسالة، والرسول صلى الله عليه و سلم، وكتاب الدعوة الذي فصلت آياته من لدن حكيم خبير إلى خلقه، كي يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم من ضلال، وينقذهم من خبال.. فكان لهذا الاختيار أثره البالغ على مندوب قريش، حتى طلب من النبي صلى الله عليه و سلم التوقف، ناشدًا إياه بحق الرحم.‏
ولا يخفى ما في ذلك من جانب مهم، يتمثل في التأثير على العدو، ومحاولة إقناعه، وتغيير أفكاره، وقد كان التأثير على عتبة واضحًا لدرجة أن أصحابه أقسموا على ذلك التأثير قبل أن يخبرهم، فبعد أن كان عدوًا ينوي استئصال الدعوة والداعية، إذا به يدعو لعكس ذلك، فيطلب من قريش أن تخلي بين محمد صلى الله عليه و سلم وما يريد.‏
ـ قريش تساوم على التنازل عن بعض الإسلام: ‏
لما تأكد لقريش عدم جدوى المفاوضات السابقة في التنازل عن كل المنهج، لجأت إلى أسلوب آخر من المفاوضات، يقوم على طلب بعض التنازلات عن المنهج الإسلامي. فقام وفد من قيادة قريش، يتكون من الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب، وأمية ابن خلف، قاموا بتقديم عرض لرسول الله صلى الله عليه و سلم يتمثل في أن يعبد آلهتهم عامًا ويعبدون إلهه عامًا. فقال: (معاذ الله أن أشرك به غيره)، فأنزل الله سورة (الكافرون).‏
وجاء وفد آخر بعد فشل الوفد السابق، يتكون من عبد الله بن أبي أمية، والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفـص، وعمرو بن عبد الله ابن أبي قيس، والعاص بن عامر، جاء ليقدم عرضًا آخر للتنـازل عن بعض مـا في القرآن، فطلبـوا من النبـي صلى الله عليه و سلم أن ينـزع مـن القـرآن ما يغيظهم من ذم آلهتهم، فأنزل الله لهم جوابًا حاسمًا، قال تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إليّ إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) (يونس: 15).‏
هاتان الحادثتان، تظهران مدى الإخفاق الذي مُنيت به قيادة قريش في عدم حصولها على التنازل الكلي عن الإسلام، الأمر الذي جعلها تلجأ إلى طلب الحصول على شيء من التنازل، لعل ذلك يساعدها مستقبلاً في الحصول على تنازل آخر، حتى يتحقق لها التنازل التام شيئًا فشيئًا. ولكن فات قريشًا أن الإسلام كلٌّ لا يتجزأ، وسبيل واحد لا يتعدد.. وحتى لا يبقى لقريش أي أمل في التنازل، جاء الرد مباشرة، قرآنًا يتلى، ليظل دستورًا لهم، ولمن يأتي من بعدهم، ألا تنازل عن شيء من الإسلام.‏
ويلاحظ أن التنازل الذي طلبوه في المرة الأولى، أكبر مما طلبوه في المرة الثانية، وهذا يدل على تدرجهم في التنازل من الأكبر إلى الأصغر، عله يجد آذانًا صاغية لدى قائد الدعوة، كما أنهم كانوا يغيرون الأشخاص المتفاوضين، فالذين تفاوضوا مع الرسول صلى الله عليه و سلم في المرة الأولى غير الذين تفاوضوا معه في المرة الثانية، ما خلا الوليد بن المغيرة، وذلك حتى لا تتكرر الوجوه، وفي ذات الوقت تنويع الكفاءات والعقول المفاوضة، فربما أثر ذلك -في نظرهم- بعض الشيء.‏
وفي هذا درس للدعاة إلى يوم القيامة بأن لا تنازل عن الإسلام، ولو كان هذا التنازل شيئًا يسيرًا، فالإسلام دعوة ربانية، ولا مجال فيها للمساومة إطلاقًا، مهما كانت الأسباب، والدوافع، والمبررات، قال تعالى: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ) (البقرة: 85).‏
وعلى الدعاة اليوم الحذر من مثل هذه العروض، والإغراءات المادية، التي قد لا تعرض بطريق مباشر، فقد تأخذ شكلاً غير مباشر، في شكل وظائف عليا، أو عقود عمل مجزية، أو صفقات تجارية مربحة، وهذا ما تخطط له المؤسسات العالمية المشبوهة، لصرف الدعاة عن دعوتهم، وبخاصة القياديين منهم، وهناك تعاون تام في تبادل المعلومات بين هذه المؤسسات، التي تعمل من مواقع متعددة لتدمير العالم الإسلامي.‏
ولقد جاء في التقرير الذي قدمه (ريتشارد ب. ميشيل)، أحد كِبار العاملين في مجال الشرق الأوسط، لرصد الصحوة الإسلامية، وتقديم النصح لكيفية ضربها، جاء في هذا التقرير وضع تصور لخطة جديدة يمكن من خلالها تصفية الحركات الإسلامية، فكان من بين فقرات هذا التقرير فقرة خاصة بإغراء قيادات الدعوة، فاقترح لتحقيق ذلك الإغراء، ما يلي: ‏
أ ـ تعيين مَن يمكن إغراؤهم بالوظائف العليا، حيث يتم شغلهم بالمشروعات الإسلامية فارغة المضمون، وغيرها من الأعمال التي تستنفد جهدهم، وذلك مع الإغداق عليهم أدبيًا وماديًا، وتقديم تسهيلات كبيرة لذويهم، وبذلك يتم استهلاكهم محليًا، وفصلهم عن قواعدهم الجماهيرية.‏
ب ـ العمل على جذب ذوي الميول التجارية والاقتصادية إلى المساهمة في المشروعات ذات الأهداف المشبوهة، التي تُقام في المنطقة العربية لصالح أعدائها.‏
جـ ـ العمل على إيجاد فرص عمل وعقود مجزية في البلاد العربية الغنية، الأمر الذي يؤدي إلى بُعدهم عن النشاط الإسلامي.‏
فالمتأمل في النقاط الثلاث سالفة الذكر، يجد أنها عبارة عن إغراءات مادية غير مباشرة.. وبنظرة فاحصة للعالم الإسلامي اليوم، نجد أن هذه النقاط تُنفذ وإلى حد كبير على أرض الواقع، فقد ألهت المناصب العليا بعض الدعاة، واستهلكت بعض الدول العربية الغنية جمًا غفيرًا من الدعاة، وألهت التجارة بعضهم.‏
ـ لجوء قريش إلى عروض تعجيزية: ‏
لم تعتبر قريش بالإخفاق الذي لازمها في جميع المفاوضات، المباشرة وغير المباشرة، بأساليبها المتباينة، بل عمدت إلى استخدام عروض تعجيزية، كعامل آخر من عوامل الضغط على قائد الدعوة، لتحقق بذلك تأثيرًا معنويًا عليه، وفي حالة عدم تحققها تكون قريش قد حفظت ماء وجهها، وفي الوقت ذاته تستخدم ذلك سلاحًا دعائيًا ضد الدعوة، وقائدها، فتشيع أن محمدًا صلى الله عليه و سلم، عجز عن تلبية طلباتهم، ولا يخفى ما في ذلك من أثر على عوام الناس.‏
ومما قالوا له: (يا محمد! فإن كنت غير قابل منا شيئًا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدًا، ولا أقل ماءً، ولا أشد عيشًا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فيسير عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهارًا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه شيخ صدق، فنسأله عما تقول، أحق هو أم باطل؟ فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدّقناك، وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولاً كما تقول).‏
فقال لهم صلى الله عليه و سلم: (ما بهذا بُعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أُرسلتُ به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم بيني وبينكم).‏
لقد غيَّرت قريش أسلوبها في المفاوضات، ولجأت إلى هذا النوع من الطلبات، التي تعلم هي قبل غيرها أن الغرض منها ليس الوصول إلى الحقيقة بقدر ما هي مناورةٌ، القصد منها المجادلة، حيث تضمنت هذه الطلبات شروطًا غير ممكنة التحقيق، وحددت أشخاصًا ماتوا، وربطت إيمانها وتصديقها بإيمان وتصديق أولئك الأموات.. فكل ذلك يدل على تعنتهم واستهزائهم، وأنهم ما طلبوها على وجه الاسترشاد ودفع الشك، قال تعالى: (ولو فتحنا عليهم بابًا من السماء فظلوا فيه يعرجون ـ لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ) (الحجر: 14-15).‏
لذا بين لهم الرسول صلى الله عليه و سلم أن هذه الطلبات ليس لها صلة بما أرسل به، وأنها خروج عن محل النزاع، ورأى أن الخوض فيها مضيعة للوقت، وأن أي محاورة أو مجادلة حول هذه الطلبات تُعطي قريشًا ثغرة ربما تحصل من خلالها على ما تريد، ومنعًا لهذا الجدال كان رد الرسول صلى الله عليه و سلم واضحًا وحاسمًا: (ما بهذا بُعثت إليكم).‏
ولكن لم تكتف قريش بهذا الرد، وإنما واصلت قيادتها أسلوبها الجدلي التعجيزي فكان ردهم: (فإذا لم تفعل هذا لنا، فخذ لنفسك، سل ربك أن يبعث معك ملكًا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنانًا وقصورًا، وكنوزًا من ذهب وفضة، يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك، ومنزلتك من ربك، إن كنت رسولاً كما تزعم). قال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم: (ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا). قالوا: (فأسقط علينا كسفًا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل) وقال بعضهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلاً.‏
لقد ظهر بوضوح تام تعنت واستهزاء قيادة قريش من خلال طرحها لطلباتها، حيث خرجت من الطلبات الخاصة بها إلى أشياء تتعلق بالرسول صلى الله عليه و سلم، وهو أمر لا يخص قريشًا في شيء، وليس من لب محل النزاع، وموضع الخلاف، الأمر الذي يؤكد أن الغرض والهدف من تلك الطلبات هو التعنت والاستهزاء، لا الوصول إلى الحق، لذا تولى الله الرد على طلباتهم تلك، فقال جل شأنه: ( وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرًا ـ أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحورًاـ انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاًـ تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرًا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورًا) (الفرقان: 7-10).‏
المطلب الرابع: حصار قريش وموقف المسلمين منه
بعد الفشل الذريع الذي مُنيت به قريش، حيث الحرب النفسية لم تكبح جماح الدعوة، ولم تفلح الاضطهادات في إيقاف تقدمها، ولم تثمر المفاوضات عن شيء.. بعد كل ذلك، أقدمت سادة قريش على استخدام أسلوب آخر، إذ اجتمعوا في حيف بني كنانة من وادي المحصب، وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابًا يتعاقدون فيه على مقاطعـة بني هـاشـم، وبني عبـد المطلب، علـى أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا، ولا يبتاعوا منهم، ولا يدعوا سببًا من أسباب الرزق يصـل إليهـم، ولا يقبلـوا منهم صلحـا، ولا تأخذهـم بهـم رأفـة، ولا يخالطوهم، ولا يجالسوهم، ولا يكلموهم، ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله للقتل، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدًا على أنفسهم.‏
إن المتأمل لبنود هذه الاتفاقية، يجد أن قريشًا قد أحكمت البنود، ولم تدع فيها ثغرة يمكن النفاذ من خلالها، مما يؤكد أنها وُضعت بعد مداولات ومشاورات على نطاق واسع، وشاركت في وضعها عقول مفكرة، امتزجت معها خبرات عديدة، وحبكها ذكاء مفرط.. ولعل ذلك يتضح من خلال استعراض بنود هذه الاتفاقية، التي حوى كل بند فيها عدة جوانب هامة.‏
ففي عدم الزواج بين الطرفين جانب اجتماعي مهم، فالـزواج غالبـا ما يؤدي إلى التآلف، والتآخي، والتراحم، والتواصل، والتزاور بين أهل الزوجين، فإذا تم شيء من ذلك، فسيؤدي إلى فشـل الحصـار، وحتـى لا يحدث ذلك نصت الوثيقة على عدم الزواج بين الطرفين.‏
وجاء النهي عن البيع إليهم، والشراء منهم، وهنا يظهر جانب اقتصادي بالغ الأهمية، فالبيع والشراء عصب الحياة الاقتصادية، ويقوم عليه تبادل المنافع بين بني البشر، فإذا انعدم ذلك التعامل، انهار البناء الاقتصادي، وباتت الحياة الاقتصادية مهددة بالخطر، فيصبح الإنسان مفتقدًا لضروريات الحياة، مما يعرضه إلى الرضوخ والانصياع لأوامر من يملك تلك الضروريات، ومعلوم أثر ذلك على الجماعة والأفراد، فأرادت قريش من ذلك البند تجويع المسلمين، وهذا ما وقع فعلاً، فقد جاء في الصحيح: أنهم جهدوا حتى كانوا يأكلون ورق الشجر والجلود.‏
وكي يزيد كفار قريش من إحكام الحصار الاقتصادي على المسلمين، وضعوا بندًا يسد الطريق أمام المسلمين في التعامل مع التجار الوافدين من خارج مكة، فكانوا يغالون على المسلمين في السعر حتى لا يدرك الصحابة شيئًا يشترونه، فيرجعون إلى أطفالهم، الذين يَتَضَاغَوْنَ جُوعًا، وليس في أيديهم شيء يعللونهم به، فكان يُسمع بُكاء الأطفال من بعيد. كل هذا التضييق بسبب البند الذي يقول: (ولا يدعوا شيئًا من أسباب الرزق يصل إليهم)، كما أن هذا البند يفوِّت الحجة على مَن أراد أن يهدي.. شيئًا لأهل الشِّعْب، بحجة أنه لا يبيع وإنما يهدي، وحتى لا تبقى ذريعة، لإيصال الطعام إليهم تحت أي مسمى، وضعت قريش هذا البند.‏
والبند التالي: (ولا يقبلوا منهم صلحًا)، يسد الطريق أمام أي خيار آخر سوى تسليم محمد صلى الله عليه و سلم، فلا مجال لأنصاف الحلول عندهم.‏
أما البند الذي يقضي (بألا تأخذهم بهم رأفة)، فهو بند يضع قيودًا حتى على العواطف، كي لا يكون للرأفة والرحمة وجود بين أهل الصحيفة تجاه المؤمنين، لأن الرحمة والرأفة قد تقودان إلى فك الحصار، الذي يؤدي بدوره إلى فشل جهود قريش، وهو ما لا تهواه، لذا عملت على إبطال مفعول الرأفة بوضعها لهذا البند في الصحيفة.‏
وفي (عدم مجالستهم ومخالطتهم وكلامهم)، سد لثغرة هامة، ربما جاء مِن قِبَلها خطر على المقاطعة، والحصار، لأن المجالسة، والمخالطة، والكلام مع المسلمين يؤدي إلى النقاش، وتبادل الآراء ووجهات النظر، فقد يُقنع المسلمون بعضَ أهل الصحيفة بخطأ ما هم عليه، لأن المسلمين يملكون من الحق والأدلة ما يمكن أن يقنعوا بها سواهم.. وحتى لا يتم ذلك، نصت الصحيفة على عدم المجالسة، والمخالطة، والكلام.‏
وقولهم: (لا يدخلوا بيوتهم)، بند لا يختلف عمَّا سبقه، لأن دخول البيوت يحرك الجوانب الإنسانية في النفس، فالإنسان عندما يرى بيتًا يخلو من أبسط مقومات الحياة، وأصاب أهله الجوع والعري والمرض، ليس لذنب سوى أنهم اختاروا دينًا غير دين قريش، لا شك أن العاطفة تتحرك عنده، ويحاول رفع هذا الظلم، وتلك المعاناة.. وحتى لا تقع قيادة قريش في مثل هذا الموقف، نصت على عدم دخول البيوت.‏
وتعليق الصحيفة في الكعبة، يعطيها قدسية، ويجعل بنودها تأخذ طابع القداسة، التي يجب التقيد والالتزام بها، فالعرب قاطبة تقدس الكعبة، وتضع لها مكانًا ساميًا من الحرمة والقدسية، لذا عمدت قريش إلى تعليق الصحيفة داخل الكعبة.‏
موقف المسلمين من الحصار: ‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عاشق المصطفى
عضو / ة
عضو / ة
عاشق المصطفى


الساعة الأن :
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 837
نقاط : 1628
السٌّمعَة : 1
تاريخ التسجيل : 15/10/2010

في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية Empty
مُساهمةموضوع: رد: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية   في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية Icon_minitime1السبت 16 أكتوبر 2010, 12:50 am

لم تحقق المقاطعة مع هذا الإحكام المتقن، والتنفيذ الدقيق، طوال السنوات الثلاث، الغاية التي من أجلها وضعت، وذلك لصلابة المسلمين في الحق، وعدم تنازلهم عنه مهما كانت الأسباب والنتائج، مما فوت على قريش الفرصة في الظفر بتسليم محمد صلى الله عليه و سلم لقتله، وقد كان للصبر والثبات الذي واجه به المسلمون الحصار، أثر عظيم في توهين المشركين، الذين بدأوا ينقسمون على أنفسهم، ويتساءلون عن صواب ما فعلوا، وشرع فريق منهم يعمل على إبطال هذه المقاطعة، ونقض الصحيفة التي حوت بنود المقاطعة.‏
وقد أفاد الصحابة رضي الله عنهم من ذلك الحصار عفة ونقاءً وإخلاصًا، فلما خرجوا فاتحين، كانت دوافع العقيدة وأهدافها هي التي تشغل بالهم، قبل الفتح وبعده، فلم يكترثوا لذهب أو فضة، إنما عناهم إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.‏
كما أن المقاطعة لم تؤثر على قيام المسلمين بأمر الدعوة وعرضها على كل وفد، فإن الاضطهاد لا يقتل الدعوات، بل يزيد جذورها عمقًا وفروعها امتدادًا. وقد كسب الإسلام أنصارًا كثيرين في هذه الفترة.‏
ونخرج من هذا بأن كل بلد مسلم في أي وقت، يود تطبيق شرع الله، عليه أن يضع في حسبانه احتمالات الحصار والمقاطعة من أهل الباطل، فأحفاد قريش من أهل الكفر مستمرون، ويتحكمون في كثير من مقدرات الأمم الأخرى، وعلى الدعاة تهيئة أنفسهم وأتباعهم لمثل هذه الظروف، وعليهم وضع الحلول المناسبة لها، إذا حصلت، والتفكير بمقاومة الحصار بالبدائل المناسبة، كي تتمكن الأمة من الصمود في وجه أي نوع من أنواع الحصار.‏
‏ المبحث الثاني: جوانب الحماية للدعوة خارج مكة

بعـد أن عـرضنـا للأسـاليب التي اتخذتهـا قريش ضـد الدعـوة الإسلامية، كان لابد من الوقوف على جوانب المواجهة الوقائية، التي تصدت بها الدعوة الإسلامية لتلك الأساليب، والخطوات التي اتبعتها في سبيل الاحتياط واليقظة الأمنية، لتسير بها أمورها في تلك الفترة، وسط الأساليب القاسية التي مارستها قريش ضد المسلمين.‏
لقد استخدمت القيادة المسلمة في تلك الفترة، عدة أساليب للمواجهة، منها الهجرة إلى الحبشة، وخروج النبي صلى الله عليه و سلم إلى الطائف، وصاحبت كل هذه التحركات إجراءات للحماية، تستلزم الوقوف عندها، وهذا ما نحاول توضيحه من خلال هذا المبحث بإذن الله، وسنتناول كل أسلوب على حدة.‏
المطلب الأول: جوانب الحماية في الهجرة إلى الحبشة
لما رأى الرسول صلى الله عليه و سلم ما يصيب أصحابه، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم مخرجًا مما أنتم فيه). فخرج عند ذلك المسلمون متسللين سرًا.‏
إن اختيار الحبشة عن سواها، إنما كان لميزات تمتاز بها، وتتطلبها حساسية المرحلة، لعل من أبرزها وجود الملك العادل، الذي لا يظلم عنده أحد.. وهذا العدل، ظهرت أهميته عندما عملت قريش على إرجاع المهاجرين، فقد وجدت أنها لا تستطيع ذلك دون أن يتحرى الملك في أمر هؤلاء، قبل أن يصدر حكمًا بإخراجهم من أرضه، وهذا مما يقتضيه العدل، الذي جعل الملك يسمع حجة الخصم قبل إصدار الحكم، فلو كان الملك ظالمًا جائرًا، لظفرت قريش بما تريد.‏
ومن ميزات الحبشة، أنها أرض صدق وأرض دين سماوي، فهم أقرب إلى المسلمين من سواهم، فالرسالات السماوية منبعها واحد، وأصولها واحدة، وقد يسهل إقناع هؤلاء بالحق بخلاف أهل الشرك، وهذا ما تم فعلاً، فعندما تلا جعفر رضي الله عنه آيات من الذكر الحكيم على مسامع النجاشي وقساوسته، فاضت أعينهم من الدمع تأثرًا بما سمعوا من القرآن الكريم: ( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا من الشاهدين * وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين * فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين) (المائدة: 83-85).‏
وثمة نقطة استراتيجية هامة، تمثلت في معرفة الرسول صلى الله عليه و سلم بما حوله من الدول والممالك، فكان يعلم طيبها من خبيثها، وعادلها من ظالمها، الأمر الذي ساعد على اختيار دار آمنة لهجرة أصحابه، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال قائد الدعوة، الذي لابد أن يكون ملمًا بما يجري حوله، مطلعًا على أحوال وأوضاع الأمم، والحكومات من حوله، حتى إذا اتخذ قرارًا، يكون القرار مبنيًا على علم سابق مدروس، فتكون غالبًا نتائجه طيبة، بخلاف ما لو بناه على جهل وعدم معرفة.‏
أما جانب الحماية الكامن في كيفية الخروج، فيتمثل في كونه تم تسللاً وخفية، حتى لا تفطن له قريش فتحبطه، كما أنه تم على نطاق ضيق لم يزد على ستة عشر فردًا، فهذا العدد لا يلفت النظر في حالة تسللهم فردًا أو فردين، وفي ذات الوقت يساعد على السير بسرعة، وهذا ما يتطلبه الموقف، فالركب يتوقع المطاردة والملاحقة في أي لحظة.‏
ولعل السرية المضروبة على هذه الهجرة، فوتت على قريش العلم بها في حينها، فلم تعلم بها إلا مؤخرًا، فقامت في إثرهم لتلحق بهم، لكنها أخفقت في ذلك، فعندما وصلت البحر لم تجد أحدًا.. وهذا مما يؤكد أن الحذر هو مما يجب أن يلتزمه المؤمن في تحركاته الدعوية، فلا تكون التحركات كلها مكشوفة ومعلومة للعدو بحيث يترتب عليها الإضرار به وبالدعوة.‏
ـ قيادة قريش تعمل على إعادة المهاجرين من الحبشة: ‏
عز على قريش أن يجد المهاجرون مأمنًا لأنفسهم ودينهم، وأغرتهم كراهيتهم للإسلام أن يبعثوا إلى النجاشي وفدًا منهم محملاً بالهدايا والتحف، كي يحرم المسلمين وده، ويطوي عنهم بشره، وتخيروا لهذه المهمة عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، وقيل عمارة بن الوليد.. ولكي نقف على مجريات هذه المحاولة، نورد هنا حديث أم سلمة رضي الله عنها عن رسولي قريش إلى النجاشي: ‏
عن أم سلمة بنت أبي أمية قالت: (لما نزلنا أرض الحبشة، جَاوَرْنا بها خيرَ جارٍ، النجاشي، أَمِنَّا على ديننا، وعبدْنا الله تعالى، لا نُؤْذَى ولا نسمع شيئًا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشًا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جَلَدَيْن، وأن يُهدوا إلى النجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأَدَم، فجمعوا له أَدَمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بَطَارِقَتِه بِطْرِيقًا إلا أَهْدَوْا له هدية، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بِطْرِيقٍ هديته قبل أن تُكلما النجاشي فيهم، ثم قَدِّما إلى النجاشي هداياه، ثم سَلاَهُ أن يُسلمهم إليكما قبل أن يُكلمهم. قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار عند خير جار، فلم يَبْقَ من بطارقته بِطْرِيق إلا دفعا إليه هديته، قبل أن يكلما النجاشي، وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضَوَى -لجأ- إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مُبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بَعَثَنَا إلى الملك فيهم أشرافُ قومهم ليردوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يُسْلِمَهم إلينا ولا يكلّمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينًا، وأعلمُ بما عابوا عليهم.. فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قَدَّما هداياهما إلى النجاشي، فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بَعَثَنَا إليك فيهم أشرافُ قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه... قالت: ولم يكن شيء أبغضَ إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامَهم النجاشي. قالت: فقالت بطارقته حوله: صَدَقَا أيها الملك. قومهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى بلادهم وقومهم. قالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لاها الله، إذن لا أُسلمهم إليهمـا، ولا يُكاد قومٌ جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على مَن سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني).‏
ثم أرسل إلى الصحابة، وقبل أن يحضروا اتفقوا على أن يقولوا الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه و سلم، وكان ممثلهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فأجاب على أسئلة النجاشي وبين له الحقيقة، فرد النجاشي وفد قريش دون أن يسلمهم المهاجرين.‏
ـ تعقيب على الموقف: ‏
وبالنظر إلى هذا الموقف، نستخلص أمرين هامين، هما دهاء قيادة قريش، وتفوق المهاجرين عليها.. والنص السابق يظهر بوضوح الدهاء والإحكام المتقن، في الخطة التي رسمتها قريش، للعودة بالمهاجرين، ويظهر ذلك من خلال الملاحظات التالية: ‏
ـ نلاحظ ابتداءً الدقة في اختيار ممثلي الوفد، فعمرو بن العاص يعد داهية من دهاة العرب، يمتاز بالذكاء، وحسن التصرف، ولا يقل عنه في ذلك عبد الله بن أبي ربيعة، فهما من أهل الرأي والمشورة في قريش، فمثل هذه المهمة، تحتاج إلى نوعية معينة من الرجال، يمتازون بالذكاء، والحكمة، والدهاء، وحسن التصرف، حتى يكونوا أهلاً للقيام بها.‏
ـ ولعل من أميز ما يمكن ملاحظته في هذه المهمة، الاتفاق المسبق على كيفية التخاطب، وكيف يتم الحوار، فهم اختاروا أحب الهدايا للنجاشي، ثم قدموا هدايا لجميع البطارقة، وطلبوا منهم أن يشيروا على النجاشي بتسليم المهاجرين، وكان هذا الاتفاق قبل مقابلة النجاشي، مع الإصرار على عدم الكلام والتحدث مع المهاجرين.‏
فتخير الهدايا التي يحبها النجاشي، محاولة لكسب جانبه، وبالتالي فقد يرضخ لطلبهم، كما أن إعطاء الهدايا للبطارقة قبل النجاشي، فيه أيضًا محاولة لكسب حاشية الملك، التي غالبًا ما تشاركه اتخاذ القرار، وبالتالي قد تزين له ذلك القرار، وتحمله على الموافقة عليه، وخاصة أن رسولي قريش قد طلبا من القساوسة أن ينصحوا الملك بتسليم المهاجرين لهما.‏
كما أن تخير الوفد للألفاظ التي وُصف بها المهاجرون، بكونهم غلمان سفهاء قد فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دين الملك، إنما كان لإثارة الغضب والسخط على المهاجرين من قِبَل الملك وبطارقته، بحيث يصبحون مهيئين تمامًا لقبول طلب التسليم، دون أن يكلم الملك المهاجرين، وهذا ما تصبو إليه قريش.‏
وكان إصرار الوفد على عدم مقابلة النجاشي للمسلمين ليكلمهم، لعلمهم بأن الادعاء الذي قدموه، والوصف الذي وصفوهم به، لا يقوم على أساس من الصحة، فإذا كلمهم الملك اتضح له افتراء وفد قريش، مما قد يترتب عليه فشل الوفد في مهمته، وهذا ما حدث فعلاً عندما تكلَّم النجاشي إلى المهاجرين.‏
ـ تفوق المهاجرين على مكائد قريش: ‏
وقع الاختيار على جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، ليمثل المهاجرين أمام الملك، فكان اختيارًا موفقًا، وظهر ذلك في فصاحته ولباقته، ومن خلال الحس الأمني العالي الذي امتاز به سيدنا جعفر، أثناء مخاطبته للنجاشي.‏
فأول ما فعله جعفر، أن عدد للنجاشي عيوب الجاهلية، وعرضها بصورة تنفِّر منها السامع، وقصد بذلك تشويه صورة قريش في عين الملك، وفي ذات الوقت إبراز محاسن الإسلام، التي هي نقيض لأفعال الجاهلية، إضافة إلى ذلك، فقد نفى التهمة التي لفقتها عليهم قريش، وقد نجح أيما نجاح، بدليل أن النجاشي طلب منه أن يقرأ عليه شيئًا من القرآن، فاختار سورة مريم، الأمر الذي أثَّر على النجاشي وبطارقته.. واختيار جعفر لسورة مريم، يظهر بوضوح حكمة وذكاء مندوب المهاجرين، فسورة مريم تتحدث عن مريم وعيسى عليهما السلام ، فأثرت في النجاشي وبطارقته، حتى بكوا جميعًا. وبعد ذلك أصدر قراره في صالح المسلمين بعدم تسليمهم أبدًا.‏
ومع ذلك لم تيأس قريش من محاولة التأثير على موقف النجاشي، فلجأ وفدهم إلى محاولة أخيرة لا تخلو من دهاء أيضًا، فقد زعم عمرو أن المهاجرين يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيمًا، وهذه بالطبع مكيدة عظيمة، تؤكد ما قلناه عن ذكاء ودهاء عمرو بن العاص، ولقد كان لهذه المكيدة أثرها البالغ على المهاجرين، حتى قال قائلهم: (لم ينزل بنا مثلها قط).. وقد جعلت النجاشي يستدعيهم مرة أخرى، ولكن ذكاء وثبات المسلمين على الحق رد هذا السهم إلى نحور رماته، إذ كانت الإجابة واضحة، كما جاء بها الإسلام، هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فهذا الرد جعل النجاشي يضرب يده بالأرض، ويأخذ عودًا، ثم يقول: (والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلتَ هذا العود!)، وقال لهم: (اذهبوا فأنتم شيوم -أي آمنون- بأرضي).‏

المطلب الثاني: جوانب الحماية في الخروج إلى الطائف
بعد أن اشتد أذى قريش بالنبي صلى الله عليه و سلم، عقب وفاة عمه أبي طالب، ولم يجد في قريش معينًا، صمم على الخروج إلى الطائف، وربما اختارها عن سواها، لميزات تفضلها عن غيرها، كقربها من مكة، وكان له فيها خؤولة، كما أنه رضع في بني سعد، وهم بمقربة من الطائف، وفيهم مراضعه وحواضنه، والطائف تلي مكة في الأهمية واتساع العمران، ورفاهية السكان.. يقـول الله تعـالى: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) (الزخـرف: 31) .. وكـانـت الطائف مستقر عبادة اللات -صنم يُعبد، ويُحج إليه- وكانت تضارع في ذلك مكة، التي كانت مستقر عبادة (هُبَل)، صنم قريش الأكبر.‏
خرج النبي صلى الله عليه و سلم إلى الطائف ماشيًا على قدميه ذهابًا وإيابًا، معه مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام، فلم تجبه إليه واحدة منها، فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى ثلاثة أخوة من رؤساء ثقيف، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله ونُصرة الإسلام، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسله. وقال الآخر: أما وجـد الله أحدًا غيـرك. وقـال الثالث: والله لا أكلمك أبدًا، إن كنت رسولاً، لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله، ما ينبغي أن أكلمك. فقام عنهم رسول الله صلى الله عليه و سلم، وقال لهم: إذ فعلتم فاكتموا عني.‏
فلم يسمعوا له، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، فوقفوا له صفين يسبونه، ويصيحون به، ويرجمونه بالحجارة، حتى اختضبت نعلاه بالدماء، وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى أصابه شجاج في رأسه، ولم يزل به السفهاء حتى ألجأوه إلى حائط -بستان- لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فلما رأوه تحركتْ له رَحِمَهُما، فَدَعَوَا غلامًا لهما نصرانيًا، يقال له عَدَّاس، فقالا له: خذ قِطْفًا من هذا العنب، فضعْه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه. ففعل عَدَّاس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم، ثم قال له: كُل، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه يدَهُ قال: (بسم الله)، ثم أكل، فنظر عدّاس في وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال لـه رسول الله صلى الله عليه و سلم: (ومِن أي البلاد أنت يا عَدّاس؟ وما دينك؟) قال: نصراني وأنا رجل من أهل نِينَوَى، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟) قال له: وما يدريك ما يونس ابن متى؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (ذاك أخي، كان نبيًا وأنا نبي)، فأكبَّ عدَّاس ُعلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يُقبَّل رأسه ويديْه وقَدَميْه.‏
ورجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى مكة، حتى إذا ما دنا منها، مكث بحراء، وبعث رجلاً من خزاعة إلى الأخنس بن شريق ليجيره، فاعتذر ، ثم إلى سهيل بن عمرو فاعتذر، ثم إلى المطعم بن عدي فأجاره، ودخل مكة في جواره.‏
نلمح من هذا النص، جوانب الحيطة والحذر الآتية: ‏
ـ اختيار النبي صلى الله عليه و سلم للطائف، كان اختيارًا مبنيًا على أسس أمنية هامة، فكون الطائف قريبة من مكة، يجعل الوصول إليها سهلاً قليل المخاطر، كما أن وجود خؤولة له فيها ربما ضمن له جانبًا من الحماية وفق أعراف الجاهلية، وقرب ديار بني سعد، ربما أعانه على السير، لأنهم أخواله من الرضاعة، فلربما يكونون مأموني الجانب.‏
ـ خروج الرسول صلى الله عليه و سلم ماشيًا، يعد أيضًا تصرفًا حكيمًا، فعندما تراه قريش على هذه الحالة ماشيًا على قدميه، لا يخطر ببالها إطلاقًا أنه ينوي الخروج من مكة، أما لو خرج راكبًا فذلك مما يثير الشبهة والشكوك، وأنه ينوي الخروج والسفر إلى جهة ما، مما قد يعرضه للمنع من الخروج من قِبَل قريش، ولكن خروجه ماشيًا ضمن له مغادرة مكة دون اعتراض من أحد.‏
ـ واختيار الرسول صلى الله عليه و سلم زيدًا كي يرافقه في رحلته، فيه جوانب أمنية، فزيد هو ابن رسول صلى الله عليه و سلم بالتبني، فإذا رآه معه أحد، لا يثير ذلك أي نوع من الشك، لقوة الصلة بينهما، كما أنه صلى الله عليه و سلم عرف زيدًا عن قرب، فعلم فيه الإخلاص والأمانة، والصدق، والوفاء، فهو إذن مأمون الجانب، فلا يفشي سرًا، ويعتمد عليه في الصحبة، وهذا ما ظهر عندما كان يقي النبي صلى الله عليه و سلم الحجارة بنفسه، حتى أصيب بشجاج في رأسه.‏
ـ اتصاله صلى الله عليه و سلم برؤساء ثقيف قبل غيرهم، حين دخوله إلى الطائف، تصرف سليم، يتطلبه الموقف، وذلك لأن الأمر أمر نصر وتأييد، وهذا ما لا يتأتى إلا من سادات القوم لا من عوامهم، فإذا وافق هؤلاء كان الآخرون تبعًا لهم، لذا بدأ بهم الرسول صلى الله عليه و سلم دون غيرهم.‏
وعندما كان رد هؤلاء النفر ردًا قبيحًا مشوبًا بالاستهزاء والسخرية، تحمله الرسول صلى الله عليه و سلم ولم يغضب أو يثور، بل طلب منهم أن يكتموا عنه، فهذا تصرف غاية في الحيطة، فإذا علمت قريش بهذا الاتصال، فإنها لا تسخر منه فحسب، بل ربما شددت عليه في العذاب والاضطهاد، وحاولت رصد تحركاته داخل وخارج مكة.‏
ـ وفي حواره مع عداس، ظهرت براعته صلى الله عليه و سلم في كيفية إدارة الحوار، مما ترتب عليه أن أصبـح عـداس يسـأل عن المعلومـة من الرسول صلى الله عليه و سلم والإنسان حين يسأل عن المعلومة، فإنه يهتم بها، ويعي مضمونها، بخلاف ما لو أُلقيت عليه دون أن يطلبها، لذا كان أثر تلك المعلومة على عداس واضحًا، فنجم عن ذلك أن قبّل رأس ويدي وقدمي رسول الله صلى الله عليه و سلم، وأعلن إسلامه.‏
ـ وحين عاد الرسول صلى الله عليه و سلم من الطائف إلى مكة، لم يدخلها، بل ذهب إلى غار حراء وجلس فيه، حيث يعد ذلك تصرفًا أمنيًا تمليه الظروف والملابسات، فالرسول صلى الله عليه و سلم أدرك أن قريشـا علمت بخروجـه لا سيما وقد مكث في الطائف عشرة أيام.‏
ـ الرسول صلى الله عليه و سلم يستفيد من قوانين وأعراف الجاهلية: ‏
كانت للجاهلية أعراف وقوانين تقدسها وتحترمها، ولعل في مقدمتها أعراف وقوانين الجوار أو الحماية، فإذا دخل أحد في جوار زيد من الناس فلا يحق لأحد أن يناله بأذى، أو يتعرض له بسوء.‏
فَقَبْلَ أن يدخل الرسول صلى الله عليه و سلم مكة عائدًا من الطائف، حاول الاستفادة من هذا القانون أو العرف (الجوار)، فأرسل إلى من يأخذ له الجوار من أحد أشراف مكة، وقد وفق في ذلك، حيث أجاره المطعم ابن عدي، فدخل مكة.‏
ولقد استفاد الرسول صلى الله عليه و سلم من هذا الجوار أيما فائدة، فقد عاد إلى دعوة الناس لدين الله، كما كان يفعل في جوار عمه أبي طالب.. ولولا أن هيأ الله له هذا الجوار، لما كان من اليسير عليه القيام بأمر الدعوة في تلك الظروف الحرجة، حيث تعد تلك الفترة من أحرج فترات الدعوة، وكانت تحتاج لوجود النبي صلى الله عليه و سلم داخل مكة في هذا الوقت بالذات، والذي كان من ثمراته الاتصال بأهل المدينة، وتوقيع بيعة العقبة الكبرى.‏
أما الجانب الأمني في إرسال رجل من خزاعة دون زيد بن حارثة، ليؤمن الجوار لرسول الله صلى الله عليه و سلم فلأن زيدًا مسلم معلوم الإسلام، فهذا يقف حجر عثرة أمام قيامه بمهمة كهذه المهمة الحساسة. أضف إلى ذلك رفقته لرسول الله صلى الله عليه و سلم، فربما قبضت عليه قريش بمجرد دخوله مكة، مما ينتج عنه فشل المهمة، وقد يتمكنوا من خلاله الوصول إلى مكان رسول الله صلى الله عليه و سلم، فتحاشيًا لهذه الاحتمالات، لم يرسل الرسول صلى الله عليه و سلم زيدًا في هذه المهمة.‏
أما صاحب خزاعة، فهو رجل مجهول لدى قريش، مما سهل مهمة اتصاله بمن أرسل إليهم دون أن يعترضه أحد، أو أن يحول بينه وبين مهمته حائل. وهذا ما تم بالفعل، حيث تمكن من أخذ الجوار لرسول الله صلى الله عليه و سلم، دون أن يشعر به أحد.‏
ـ جانب الحماية والأمن في الدعاء: ‏
الدعاء من أعظم العبادات، وهو سلاح فعّال في مجال الحماية للإنسان وتحقيق أمنه، فمهما بلغ العقل البشري من الذكاء والدهاء، فهو عرضة للزلل والإخفاق، وقد تمر على المسلم مواقف يعجز فيها عن التفكير والتدبير تمامًا. فليس له مخرج منها سوى أن يجأر إلى الله بالدعاء، ليجد له فرجًا ومخرجًا.‏
فعندما لحق برسول الله صلى الله عليه و سلم من أهل الطائف الأذى والطرد والسخرية والاستهزاء، وأصبح هائمًا على وجهه، لجأ إلى الله قائلاً: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت ربي ورب المستضعفين). فما أن انتهى من الدعاء، حتى جاءت الإجابة من السماء مع جبريل وملك الجبال.. وليس من شك في أنه كانت لهذه الإجابة أثرها الكبير على نفس رسول الله صلى الله عليه و سلم، فإذا كان الناس قد تنكّروا له، وآذوه، وطردوه، فإن الله معه، ناصره ومعينه، وبذا وجد الرسول صلى الله عليه و سلم تأييدًا ربانيًا، أعطاه دفعة معنوية كان أحوج ما يكون إليها في مثل تلك الظروف الحرجة.‏
المطلب الثالث: جوانب الحماية والأمن في عرض الدعوة على القبائل وإرسال الدعاة
بعد أن أصبحت بيئة مكة طاردة للدعوة، وتيقن الرسول صلى الله عليه و سلم أن مكة ليست بالموضع الذي يحمي ويحمل الدعوة، بدأ بالبحث عن موضع آخر وقبيلة أخرى تقوم بدور الحماية للدعوة، وتتحمل تبعاتها، فعرض نفسه صلى الله عليه و سلم على القبائل بمختلف أسمائها.. قال الزهري: (وكان ممن يسمى لنا من القبائل، الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ودعاهم وعرض نفسه عليهم: بنو عامر بن صعصعة، محارب بن خصفة، وفزارة، وغسان، ومرة، وبنو حنيفة، وسليم، وعبس، وبنو نضر، وبنو البكاء، وكِندة، وكَلْب، والحارث بن كعب، وعذرة، والحضارمة، فلم يستجب منهم أحد).‏
وهذه القبائل التي سماها الزهري، لم يكن عرض الإسلام عليها في سنة واحدة، ولا في موسم واحد، بل إنما كان ما بين السنة الرابعة من النبوة إلى آخر موسم قبل الهجرة.‏
وسنبدأ عرضنا بذكر بعض الأساليب التي اتخذتها قريش لصد هذه القبائل عن الإسلام، ثم نوضح الجوانب الأمنية التي انتهجها الرسول صلى الله عليه و سلم خلال عرضه نفسه على القبائل.‏
أساليب قيادة قريش لصد القبائل عن الدعوة: ‏
لقد استخدمت قيادة قريش لصد القبائل عن الدعوة عدة أساليب، فكانت تارة تبعث مندوبها خلف الرسول صلى الله عليه و سلم يشوه شخص الرسول صلى الله عليه و سلم ودعوته، قال ربيعة بين عباد الديلي: (رأيت الرسول صلى الله عليه و سلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: (قولوا لا إله إلا الله، تفلحوا) والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيئ الوجه أحـول، ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فقالوا: عمه أبو لهب).‏
وتارة أخرى تتعقبه قريش إلى القبائل التي يتحدث إليها، وقد أوشك أن يؤثر في بعضها، فكانت قيادة قريش تأتي بعده فتشوه الحقيقة، وتحذر من مغبة التأثر به وتصديقه، فغالبًا ما يذهب الأثر عقب ذلك التشويه، بدليل ما جرى مع قبيلة بكر، التي تأثرت، بل وأوشكت أن تعتنق الإسلام عقب ملاقاة الرسول صلى الله عليه و سلم وحديثه معهم.‏
ولكن قبل أن تختمر الفكرة في عقـول بنـي بكر، مر عليهم أبو لهب، قالوا له : (هل تعرف هذا الرجل؟ قال: نعم، هذا في الذروة منا، فعن أي شيء تسألون؟ فأخبروه بما دعاهم إليه، وقالوا زعم أنه رسول الله. قال: ألا لا ترفعوا برأسه قولاً، فإنه مجنون يهذي من أم رأسه، قالوا: قد رأينا ذلك حين ذكر من أمر فارس ما ذكر).‏
فواضح من الحوار السابق بين أبي لهب، وبني بكر، أن أبا لهب جاء إليهم عقب مغادرة الرسول صلى الله عليه و سلم مباشرة، وذلك كان عن طريق غير مباشر حيث مر عليهم، وكان يتوقع أن يسألوه عن محمد فتحقق له ذلك، فاستغـل السانحـة للقيـام بمهمتـه، فعندمـا سـألـوه عن شخـص النبي صلى الله عليه و سلم، أجاب بالثناء على سمو نسبه، وذلك ليطمئن إليه بنو بكر، ويصدقوه فيما يزعمه من بعد، وبذكاء خبيث أدار السؤال عليهم، ليأخذ منهم معلومة هامة بالنسبة له، فقد علم أنهم دُعوا إلى الإسلام، وأنهم على وشك الإجابة، وبناء على ذلك حاول أبو لهب إزالة هذا الأثر، فأخبرهم عن كونه مجنونًا يهذي، لا يُعتد بقوله. وقد صدقه بنو بكر، وبالتالي تكون قريش قد نجحت في مهمتها تلك.‏
ولقد كان لهذه الأساليب أثرها الكبير في صد القبائل عن الدعوة، حيث كان رد معظم القبائل: قوم الرجل أعلم به، أترون أن رجلاً يصلحنا، وقد أفسد قومه ولفظوه. وما يؤيد ذلك، عدم استجابة كل القبائل التي عرض عليها الإسلام، كما مرّ معنا في صدر هذا المطلب.‏
أساليب الحماية المضادة لأساليب قريش: ‏
عندما ظهر للنبي صلى الله عليه و سلم تأثير مكائد قريش على القبائل، رأى أنه لابد من اتخاذ أساليب حماية مضادة لما تقوم به، وكان من أهم تلك الأساليب ما يلي: ‏
ـ مقابلة القبائل في الليل: ‏
في الليل تهدأُ الحركةُ وتَسْكُنُ الرِّجْلُ، وتندر أو تنعدم المراقبة من قِبَل المشركين على رسول الله صلى الله عليه و سلم. لذا اتجه الرسول صلى الله عليه و سلم لأسلوب مقابلة القبائل ليلاً. يقول النجيب أبادي: (وكان من حكمته صلى الله عليه و سلم أنه كان يخرج إلى القبائل في ظلام الليل، حتى لا يحول بينه وبينهم أحد من المشركين)، وقد نجح هذا العمل في إبطال مفعول الدعاية المضادة، التي كانت تتبعها قريش، كلما اتصل الرسول صلى الله عليه و سلم بقبيلة من القبائل.. والدليل على نجاح هذا الأسلوب المضاد، اتصال الرسول صلى الله عليه و سلم بالأوس والخزرج ليلاً، ومن ثمَّ كانت بيعة العقبة الأولى والثانية ليلاً.‏
ـ الرسول صلى الله عليه و سلم يذهب إلى القبائل في منازلهم: ‏
وكأسلوب آخر من الأساليب المضادة لإحباط محاولات قريش ومكائدها، اتجه الرسول صلى الله عليه و سلم إلى أسلوب الاتصال بالقبائل في منازلهم. فقد أتى كلبًا وبني حنيفة وبني عامر في منازلهم.. وبالتالي يكون بعيدًا عن مطاردة قريش، فيستطيع أن يتفاوض مع القبائل بالطريقة المناسبة دونما تشويش أو تشويه من قريش.‏
ـ اصطحاب الأعوان: ‏
كان أبو بكر وعلي رضي الله عنهما يرافقا الرسول صلى الله عليه و سلم في بعض مفاوضاته مع بعض القبائل، وربما كانت هذه الرفقة لأجل ألا يظن المدعوون أنه وحيد، ولا أعوان له من أشراف قومه وأقاربه، هذا إلى جانب معرفة أبي بكر رضي الله عنه بأنساب العرب، الأمر الذي يساعد الرسول صلى الله عليه و سلم في التعرف على معادن القبائل، فيقع الاختيار على أفضلها، لتحمل تبعات الدعوة.‏
ـ التأكد من حماية القبيلة: ‏
ومن الجوانب الأمنية المهمة، سؤاله صلى الله عليه و سلم عن المنعة والقوة لدى القبائـل قبل أن يوجـه إليهم الدعـوة، ويطلب منهم الحمـاية، قـال ابن عباس في حديث طويل: فأتى بكر بن وائل فقال: (ممن القوم؟) قالوا: من بكر بن وائل. قال: (فكيف المنعة؟) قالوا: لا منعة. جاورنا فارس لا نمتنع منهم ولا نجير عليهم... قالوا: ومن أنت؟ قال: (أنا رسول الله)، ثم انطلق.‏
فقوة ومنعة القبيلة التي تحمي الدعوة، شيء ضروري ومهم، لابد منه، لأن هذه القبيلة ستواجه كل قوى الشر والباطل، فلابد أن تكون أهلاً لهذا الدور من حيث الاستعداد المعنوي والمادي، الذي يرهب الأعداء، ويحمي حمى الدعوة، ويتحمل تبعات نشرها، مزيلاً لكل العقبات التي تقف في طريقها.‏
ـ جوانب الحذر والحماية في إرسال دعاة خارج مكة: ‏
الإسلام رسالة عالمية، جـاءت للبشـر كافـة، فلا تحدهـا حـدود، ولا تقيدها قيود.. وتتطلب هذه العالمية أن ينتشر دعاة الإسلام في الأرض، كل الأرض، مبشرين ومنذرين، ومبلغين لدين الله، ولهذا أرسل قائد الدعوة صلى الله عليه و سلم، دعاة خارج مكة منذ بداية الدعوة، وقبل أن يستوي عودها، ويشتد ساعدها، ولقد كان صلى الله عليه و سلم يراعي جوانب أمنية معينة وصفات محددة في أولئك الذين كان يختارهم ويرسلهم في مهمات خارج مكة، لعل من أبرزها: ‏
ـ أن يكون من أهل المنطقة المبتعث إليها: ‏
يتضمن هذا الجانب عدة ميزات أمنية منها: سهولة التخاطب مع المدعوين، وسهولة إيصال المعلومة إليهم، بحكم معرفته بلسان قومه.. ولأهمية ذلك، ما أرسل الله رسـولاً إلا بلغة قومـه، قـال تعالـى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) (إبراهيم: 4).. كما أن الرجل وسط قومه، يكون ملمًا بعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم، وبناءً على ذلك يختار الأسلوب الدعوي الذي يناسبهم.. كذلك فإن الرجل وسط قومه لا يكون مثار شك، فيستطيع أن يقوم بالدعوة سرًا وسط قومه دون مراقبة أو متابعة، بخلاف الغريب. أضف إلى ذلك، الحماية التي قد يجدها الرجل بين قومه وعشيرته. لذلك بعث الرسول صلى الله عليه و سلم الطفيل إلى قومه دوس، وأبا ذر إلى قومه غفار.‏
ـ أن يكون على خلق ودين وعلم: ‏
لابد أن يكون المبتعث على درجة من الأخلاق الفاضلة، والتمسك بآداب الإسلام والفقه فيه، ففاقد الشيء لا يعطيه، ومن يمتاز بهذه الصفات يكون محل تقدير واحترام الجميع، مما يسهل عليه الاتصال بأفراد المجتمع من منطلق ذلك التقدير والاحترام، الذي اكتسبه من تلك الأخلاق والمعاملة الطيبة. والعلم ضروري وأساس، لأنه يتضمن المعلومات المتعلقة بالرسالة المراد تبليغها للناس. فقد كان الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه و سلم على خلق، ودين، وعلم، حيث أثروا في قومهم، ودخل على أيديهم جمع غفير من قومهم، فقد جاء أبو ذر بغِفار كلها مسلمة.. وجاء الطفيل بن عمرو
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عاشق المصطفى
عضو / ة
عضو / ة
عاشق المصطفى


الساعة الأن :
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 837
نقاط : 1628
السٌّمعَة : 1
تاريخ التسجيل : 15/10/2010

في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية Empty
مُساهمةموضوع: رد: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية   في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية Icon_minitime1السبت 16 أكتوبر 2010, 12:53 am

بسبعين بيتًا أو ثمانين من دوس.. ومصعب ابن عمير أدخل الله على يديه في الإسلام، جل الأنصار.‏
ـ أن يمتاز بقدر من الذكاء والحكمة: ‏
المهمات الصعبة، كتحمل تبعات الدعوة، تحتاج إلى قدر من الذكاء والحكمة، للتصرف السليم إبان الظروف الصعبة والمواقف الحرجة، التي تصادف الداعية أثناء قيامه بأمر الدعوة، وتعامله مع أصناف متباينة من المدعوين، وهذا ما كان صلى الله عليه و سلم يراعيه في رسله.. وخير شاهد على ذكاء وحكمة من أرسلوا خارج مكة، ما حدث مع مصعب بن عمير رضي الله عنه، عندما قدم المدينة، وجاءه سيدان من الأنصار هما أُسيد بن حُضير وسعد بن معاذ، يريدان طرده وإخراجه من المدينة، يحمل كل منهما سلاحه، وتظهر عليهما علامات الغضب، فقد تصرف معهما مصعب بذكاء وحكمة، فكان يقول لكل واحد: هلاّ جلست فسمعت، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره، فكان جواب الرجلين: أنصفت. فكانت النتيجة أن أسلم أُسيد وسعد وأسلم بإسلامهما قومهما.‏
ـ أن يكون مدركًا وملمًا بالناحية الأمنية للدعوة: ‏
الحس الأمني مطلوب فيمن يقوم بأمر الدعوة، حتى يكتب له النجاح في دعوته، ولا يحبط عمله في أول الطريق. ولهذا لابد أن يكون حذرًا ومتيقظًا، مقدرًا للموقف وما يترتب عليه من تداعيات، في كل الحالات التي يتعامل معها.. فقد كان هذا الحس متوفرًا في أولئك الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه و سلم للدعوة خارج مكة، وكنا قد أشرنا إلى الحس الأمني لدى كل من أبي ذر والطفيل وغيرهما. فالطفيل بدأ بدعوة أقرب الناس إليه، كما فعل المصطفى صلى الله عليه و سلم، وهو أول السلم في منهج الحماية في الفترة السرية، وكذلك فعل أبو ذر الغفاري. وقد أشرنا إلى ذلك في موضع آخر من هذا البحث.‏
وهذا يعني أنه ينبغي على الدعاة، وهم يعملون لنشر الإسلام في أنحاء المعمورة، أن يراعوا تلك الصفات فيمن يمارسون الدعوة في أقطار العالم، وبخاصة تلك البلاد التي يدين غالبيتها بغير الإسلام.. إن الداعية في تلك البيئات يحتاج إلى مثل هذه الصفات والجوانب الأمنية، حتى يكون قادرًا على أداء مهمته دون أن يعرض نفسه، أو دعوته لمكر أولئك الماكرين.‏

المطلب الرابع: جوانب الحذر والحماية في بيعة العقبة
قال كعب بن مالك رضي الله عنه: (ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعقبة من أوسط أيام التشريق. قال: فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم لها... وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا... فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه و سلم، نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشِّعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً، فاجتمعنا في الشِّعب، ننتظر رسول الله صلى الله عليه و سلم، حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، فلما جلس كان أول متكلم العباس...).‏
لقد كانت بيعة العقبة ثمرة من ثمرات الأساليب المناسبة، التي استخدمها الرسول صلى الله عليه و سلم ضد مكر قريش، والتي كانت في غاية من السرية والكتمان، وسنقف هنا على بعض جوانب الحذر والحيطة، التي تخللت بيعة العقبة الكبرى: ‏
ـ الاتفاق المسبق على زمان ومكان البيعة: ‏
تم الاتفاق على زمان ومكان البيعة، بين الرسول صلى الله عليه و سلم والأنصار، حيث واعدهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجتمعوا أوسط أيام التشريق في الشعب، الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى، وأن يتم هذا الاجتماع ليلاً.‏
إن اختيار هذا الوقت -ليلاً- وذاك المكان -الشِّعْب- يؤكد مدى اهتمام النبي صلى الله عليه و سلم بالجانب الأمني، وإحاطة تحركاته بالسرية والكتمان، ففي هذا الوقت تقل رقابة قريش، وتهدأ الحركة، وتندر الرؤية، مما يجعل فرصة الانكشاف أمرًا صعبًا.‏
ـ الأمر بكتمان الخبر: ‏
طلب الرسول صلى الله عليه و سلم من الأنصار كتمان الخبر عن المشركين، فذلك أمر تقتضيه الظروف الأمنية، حتى لا يتسرب خبر البيعة إلى قريش، فتقوم بإحباطها.. وقد نفذ الأنصار هذا الطلب، يقول كعب بن مالك رضي الله عنه: (وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا).. وقد ظهرت أهمية ونتيجة هذا الكتمان عندما جاءت قريش لتتقصى الخبر من صبيحة البيعة، فتولى الرد علىها مشركو الأنصار، وأقسموا على نفي حدوث البيعة، ولولا هذا الكتمان لانكشف أمر البيعة والمبايعين.‏
ـ الاحتياط في الحضور إلى مكان البيعة: ‏
وضع الرسول صلى الله عليه و سلم خطة مأمونة دقيقة للحضور إلى مكان البيعة، فطلب من الأنصار أن يأتوا أفرادًا لا جماعة، حتى يجتمعوا جميعًا في العقبة، وأن يكون ذلك بعد مضي ثلث الليل الأول، وأمرهم ألا ينبهوا نائمًا، ولا ينتظروا غائبًا، وقد طبق الأنصار هذه الخطة تمامًا، يقول كعب: (فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه و سلم نتسلل مستخفين تسلل القطا)، أي أفرادًا.‏
يتجلى لنا من تلك الخطة وتطبيقها، الاحتياط الأمني المحكم في كل جوانبها، فكونهم يأتون بعد ثلث الليل، فذلك وقت يكون الناس فيه قد استثقلوا في النوم، ولا يشعرون بحركة المسلمين يقول كعب: (فلما استثقل الناس في النوم تسللنا...)، بالإضافة إلى أن هذا الوقت يُمكِّن المجتمعين من إنجاز أمر البيعة، وهو وقت مريح.. ولو كان قبل ثلث الليل لكان عرضة للانكشاف، فمعظم الناس لم يخلد بعد إلى النوم أو لم يستثقل فيه، ولو كان بعد ثلث الليل، لكان قريبًا من الصبح، وبالتالي يصبح وقت الاجتماع ضيقًا، مما قد ينتج عنه عدم إنجاز أمر البيعة.‏
أما تسللهم أفرادًا، فهو زيادة في الحيطة والحذر، مما يجعل أمر اكتشافهم عسيرًا بخـلاف ما لو خرجـوا جماعـات، فخروجهـم أفرادًا لا يثير شكًا أو ريبة إذا حدث وأن شاهدهم أحد، فربما حسب أن الفرد منهم يقضي حاجته أو نحو ذلك، أما إذا كان الخروج جماعة فإن ذلك يثير الشك والريبة خاصة في مثل هذا الوقت من الليل، ومن ثم تأتي المراقبة والمتابعة، الأمر الذي يفضي إلى كشف أمر البيعة.‏
أما أمره صلى الله عليه و سلم بعدم إيقاظ النائم أو انتظار الغائب، فهو تحسب من أن يؤدي إيقاظ النائم إلى انتباه المشركين، هذا إلى جانب أن هذا الأمر يجعل كل المسلمين في حالة تأهب، فيعمل كل فرد منهم على ألا يتسلل النوم إلى عينيه مخافة أن يفوته ذاك الفضل، وهذا ينطبق على عدم انتظار الغائب، بحيث يحاول كل فرد من الأنصار ألا يتغيب أو يذهب بعيدًا في ذلك الوقت. لقد كان لهذا الأمر النبوي أثره الظاهر، حيث حضر الجميع في الزمان والمكان المحدديْن دون أن يتخلف أحد.‏
ـ التصرف السليم حيال الطوارئ: ‏
حين صرخ الشيطان بأعلى صوته من رأس العقبة قائلاً: (يا أهل الجباجب -المنازل- هل لكم في مُذَمَّم والصُّبَاة معه قد اجتمعوا على حربكم)، حينها أمر الرسول صلى الله عليه و سلم الأنصار بالانصراف والرجوع إلى رحالهم.‏
هذا الأمر بالانصراف فور سماع صوت الشيطان، الذي كشف أمر الاجتماع، يعد تصرفًا أمنيًا، اقتضته ظروف وملابسات الحدث، لأن قريشًا غالبًا ما تكون بعد سماعه في حالة استنفار تام، وقد تقوم بمسح شامل للمنطقة، لتتأكد من هذه المعلومة.. وحتى يُفوِّت الرسول صلى الله عليه و سلم الفرصة على قريش أمر أصحابه بالانصراف، فانصرفوا إلى رحالهم، وأصبحوا مع قومهم.‏
وربما كان أقرب مثال لدور الشيطان، ما تقوم به شياطين الإنس ممن باعوا أنفسهم للشيطان، ليوقعوا بالمسلمين ودعاة الإسلام، ويغروا بهم الأعداء باسم التطرف والأصولية وغير ذلك من الصناعات والصيغ الشيطانية، لشل حركة العمل الدعوي.‏
ـ الأمر بانتخاب النقباء: ‏
إن طلب الرسول صلى الله عليه و سلم من الأنصار انتخاب نقباء من بينهم، يدل على يقظة وفطنة المصطفى صلى الله عليه و سلم، فهو لا يريد أن يفرض عليهم أشخاصًا من غير شوراهم، كما أنه لم يسبق له التعرف عليهم حتى يعلم معادنهم، وربما حدد أشخاصًا كلهم من الخزرج أو الأوس فيؤدي ذلك إلى عدم رضاء طرف على آخر، ولتفادي تلك الاحتمالات وغيرها، ترك الرسول صلى الله عليه و سلم أمر اختيار النقباء للأنصار.‏
ـ توفر الحس الأمني لدى بعض من شهدوا البيعة: ‏
تجلى الحس الأمني لدى العباس بن عُبادة بن نَضْلة الأنصاري وأسعد بن زرارة، في تأكيدهما على خطورة البيعة على قومهم، فقال العباس بن عُبادة: (إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهِكَتْ أموالُكُم مُصيبة، وأشرافُكم قتلاً، أسلمتموه، فمن الآن)، فأجابوه: (فإنا نأخذه على مُصيبة الأموال وقتل الأشراف).‏
وقال أسعد قبيل البيعة: رويدًا يا أهل يثرب... وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما تصبرون على ذلك فخذوه، وإما تخافون على أنفسكم خيفة فذروه.‏
وهذا مما يبرز مدى حرص العباس وأسعد على الاحتياط لأمر الدعوة، وقائدها، فأرادا بذلك أن يؤكدا على خطورة الأمر، بإظهار نتائج تلك البيعة ومتطلباتها، ابتداءً، حتى يكون أهل البيعة على علم تام بما قد يحدث لهم، قبل أن تفاجئهم الأحداث ويتخلوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، وحينها لا يمكن تصور ما سيحدث للدعوة وقائدها، وتفاديًا لذلك حرصوا على التحقق من استعداد قومهم للتضحيـة في سبيل الله.‏
الفصل الثالث: جوانب الحذر والحماية في الهجرة النبوية
تـوطـئـة: ?
بعد أن تيقن الرسول صلى الله عليه و سلم من أن مكة لم تعد تصلح أن تكون أرضًا تؤوي الدعوة وتحميها، بل باتت تهدد وجودها، كان لابد لدعوة الإسلام من أرض تقف عليها، وتنطلق منها، وتكون لها السيطرة عليها، حتى يتسنى لها الانتشار ومجابهة الباطل، الذي يقف أهله عقبة في طريق الدعوة.. كان لابد لهذه الأرض من أن تتوافر فيها بعض السمات، حتى تكون عونًا للمسلمين على أداء دورهم في خلافة الأرض، وإقامة العدل، ولعل من أبرز هذه السمات: أن تكون تلك الأرض ذات قدرات اقتصادية، وأن تمتاز بموقع طبيعي حصين، وأن تتمتع بمنافذ وقنوات اتصال مع الخارج، وأن يكون بها أنصار وحماة لدعوة الإسلام، يضحون في سبيلها بالنفس والمال.. هذه هي أبرز الصفات التي امتازت بها المدينة المنورة، وفيما يلي نلقي بعض الضوء على الصفات الأربع المذكورة: ‏
ـ بالنسبة للصفة الأولى، نجد أن المدينة كانت مركزًا تجاريًا هامًا بين شمالي الجزيرة العربية وجنوبيها، وكانت -وما تزال- أرضًا زراعية خصبة، يزرع بها التمر بكميات هائلة، وعندما جاء الصحابة رضي الله عنهم للمدينة المنورة، وجدوها أرضًا عامرة بالزراعة.‏
ـ أما الصفة الثانية فكانت المدينة أرضًا حصينة، إذ تحيط بها الجبال، والحِرار من كل الجوانب، وقد ظهرت أهمية هذه الميزة حين هجوم الأحزاب عليها، فقد فشلت قريش في الدخول إلى المدينة المنورة لمجرد حفر المسلمين للخندق.‏
ـ أما بخصوص موقع المدينة، فكان فريدًا، إذ كانت تمثل همزة الوصل بين شمالي الجزيرة وجنوبيها، لذا كانت قنوات الاتصال بالمدينة سالكة مع الخارج.‏
ـ أما أمر الأنصار وحمايتهم للدعوة، فأمر معلوم تشهد به مجاهداتهم في بدر، وأحد، وغيرهما. فقد كان الأنصار من الأوس والخزرج معروفين بقوة الشكيمة، والفروسية، والشجاعة، والنخوة، وكانوا أهل خبرة وبصر بالقتال وفنونه.. ولهذا لم يتأخروا أبدًا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، فدوه بالنفس والنفيس.‏
ونظرًا لتلك السمات المتفردة، لم يكن غريبًا أن تصبح المدينة أصلح مكان لهجرة الرسول صلى الله عليه و سلم وصحبه، فاتخذوها لهم دارًا وقرارًا، حتى يقوى الإسلام، ويشق طريقه إلى الأمام، ويفتح الجزيرة ثم يفتح العالم المتمدن، وقد كان نجاح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة، من أعظم المكاسب التي حصل عليها منذ بداية الدعوة. وفي هذا الفصل سنحاول الوقوف على جوانب الحماية والأمن للهجرة إلى المدينة المنورة.‏
المبحث الأول: جوانب الحماية والأمن قُبيل الهجرة

ثمة جوانب مهمة تمت قبيل الهجرة، سنحاول الوقوف عندها من خلال هذا المبحث بتوفيق الله.‏
المطلب الأول: تغلب المسلمين على أساليب
قريش وتمكنهـم من الهجـرة إلى المدينـة عقب الفشل الذي منيت به قيادة قريش، في عدم مقدرتها على منع توقيع البيعة بين الرسول صلى الله عليه و سلم والأنصار، وبعد أن أدركت خطورة أن يجد الرسول صلى الله عليه و سلم وصحبه أعوانًا وأرضًا ينطلقون منها، عقب كل ذلك عملت قيادة قريش جاهدة للحيلولة دون خروج مَن بقي من المسلمين إلى المدينة، ولقد اتبعت في ذلك عدة أساليب نستعرضها فيما يلي: ‏
أولاً: أسلوب التفريق بين الرجل وزوجه وولده: ‏
لا شك أن للزوجة والولد مكانة عظيمة في قلب الرجل، فأي تفريق بينه وبينهم يعد أمرًا بالغ الصعوبة، وخاصة إذا كان هذا التفريق قسرًا، لذا لجأت قريش إلى هذا الأسلوب كي تحول بين المسلمين وبين الهجرة إلى المدينة.‏
تقول أم سلمة رضي الله عنها: (لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحّل لي بعيره، ثم حملني عليه وحمـل معي ابني سلمـة ابن أبي سلمة في حجري، ثم خرج يقود بي بعيره، فلما رأته رجالُ بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غَلَبْتَنَا عليها، أرأيت صاحبتك هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت: فنزعوا خِطَامَ البعير من يده فأخذوني منه. قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رَهْط أبي سلمة، فقالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، قالت: فتجاذبوا بُنَيَّ سلمة بينهم، حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحَبَسَنِي بنو المغيره عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة).‏
وهذا أنموذج للطرق القاسية التي سلكتها قريش لتحول بين أبي سلمة والهجرة، رجل يفرق بينه وبين زوجه عنوة، وبينه وبين فلذة كبده، على مرأى منه! كل ذلك من أجل أن يثنوه عن الهجرة! ولكن متى ما تمكّن الإيمان من القلب، استحال أن يُقَدِّم صاحبه على الإسلام والإيمان شيئًا، حتى لو كان ذلك الشيء فلذة كبده، أو شريكة حياته، لذا انطلق سيدنا أبو سلمة رضي الله عنه إلى المدينة لا يلوي على أحد، وفشل معه هذا الأسلوب.. وللدعاة إلى الله فيه، أسوة حسنة.‏
ثانيًا: أسلوب التجريد من المال: ‏
المال زينة الحياة الدنيا، وبريق المال له فتنة، ومن الصعوبة بمكان أن يتنازل المرء عن كل ماله دون مقابل مادي ملموس، وإذا خير الإنسان بين المال والفكرة، فقليل هم أولئك الذين يقدمون الفكرة على المادة. ولما كانت قريش تعلم مدى تعلق الإنسان بحب المال، أرادت أن تجعل منه عامل ضغط، وأسلوبًا آخر من أساليبها، للحيلولة بين المسلمين والهجرة.‏
فلما أراد صهيب رضي الله عنه الهجرة، قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني قد جعلت لكم مالي. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: (ربح صهيب، ربح صهيب)
لقد حاولت قيادة قريش أن تثني صهيبًا رضي الله عنه عن الهجرة، مهددة إياه بتجريد من ماله إذا عزم على الهجرة، فوضعوه بين خيارين: التجريد من المال أو ترك الهجرة إذا أحب أن يبقي على ماله عنده، وإلا فلا يمكنه أن يهاجر بماله ونفسه، ولكن الإيمان جعل صهيبًا رضي الله عنه يأخذ بالخيار الأول، فقدم لهم المال طائعًا مقابل أن يخلوا سبيله، ولهذا استطاع أن يهاجر ويلحق برسول الله صلى الله عليه و سلم في المدينة.‏
ثالثًا: أسلوب الحبس: ‏
لجأت قريش إلى الحبس، كأسلوب لمنع الهجرة، فكل من تقبض عليه وهو يحاول الهجرة، كانت تقوم بحبسه داخل أحد البيوت، مع وضع يديه ورجليه في القيد، وتفرض عليه رقابة وحراسة مشددة، حتى لا يتمكن من الهرب، وأحيانًا يكون الحبس داخل حائط بدون سقف، كما فعل مع عياش وهشام بن العاص، رضي الله عنهما، حيث كانا محبوسين في بيت لا سقف له. وذلك زيادة في التعذيب، إذ يضاف إلى وحشة الحبس حرارة الشمس، وسط بيئة جبلية شديدة الحرارة مثل مكة.‏
‏ فقيادة قريش تريد بذلك تحقيق هدفين: أولهما منع المحبوسين من الهجرة، والآخر أن يكون هذا الحبس درسًا وعظة لكل من يحاول الهجرة من أولئك الذين يفكرون بها ممن بقي من المسلمين بمكة، ولكن لم يمنع هذا الأسلوب المسلمين من الخروج إلى المدينة المنورة، فقد كان بعض المسلمين محبوسين في مكة مثل عياش وهشام رضي الله عنهما، ولكنهم تمكنوا من الخروج واستقروا بالمدينة.‏
رابعًا: أسلوب الاختطاف: ‏
لم تكتف قيادة قريش بالمسلمين داخل مكة، لمنعهم من الهجرة، بل تعدت ذلك إلى محاولة إرجاع من دخل المدينة مهاجرًا، فقامت بتنفيذ عملية اختطاف أحد المهاجرين، ولقد نجحت هذه المحاولة، وتم اختطاف المهاجر من المدينة وأعيد إلى مكة.‏
يقول عمر رضي الله عنه: (... فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن ربيعة وكان ابن عمهما، وأخاهما لأمهما، حتى قَدِمَا علينا المدينة، ورسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة، فكلمـاه وقالا: إن أُمَّـكَ قد نـذرت أن لا يمسَّ رأسَها مِشْطٌ حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرقّ لها. فقلت له: يا عياش! إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلَّت. قال: فقال: أبرّ قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه. قال: فقلتُ: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما. قال: فأبى عليَّ إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك، قلت له: أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها إن رابك من القوم ريب فانج عليها. فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطـريق قـال له أبو جهـل: يا ابن أخي! والله لقد استغلظتُ بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى. قال: فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما اسْتَوَوْا بالأرض عَدَوَا عليه فأوثقاه وربطاه... ثم دخلا به مكة نهارًا موثَّقًا، ثم قالا: يا أهل مكة! هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا).‏
هذه الحادثة تظهر مدى دقة الخطة التي نفذت بها قريش عملية الاختطاف، حيث قام بهذه المهمة أبو جهل، والحارث، وهما إخوة عياش من أمه، الأمر الذي جعل عياشًا يطمئن لهما، وبخاصة، إذا كان الأمر يتعلق بأمه، فاختلق أبو جهل هذه الحيلة لعلمه بمدى شفقة ورحمة عياش بأمه، والذي ظهر جليًا عندما أظهر موافقته على العودة معهم.. كما تظهر الحادثة الحس الأمني العالي الذي كان يتمتع به عمر رضي الله عنه، حين صدقت فراسته في أمر الاختطاف، وحين أعطى عياشًا رضي الله عنه ناقته النجيبة.‏
ومن جوانب إحكام الخطة، تلك الحيلة التي استطاع بها أبو جهل، أن يُنزل عياشًا رضي الله من الناقة السريعة، فجرده من أخطر سلاح يملكه، وبدونه بات صيدًا سهلاً لأبي جهل والحارث، الأمر الذي مكنهم من تقييده، والرجوع به إلى مكة.. تظهر هذه الحيلة مدى ذكاء وحسن تصرف أبي جهل، حيث استولى على سلاح عياش رضي الله عنه قبل أن يأسره، فحتى لـو حـدث وتخلص عيـاش من القيـد، لن يجد الوسيلة التي تمكنه من الهرب.‏
وفي قول أبي جهل: (يا أهل مكة! فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا)، تحريض لقريش، كي تقوم بعمليات اختطاف مماثلة لأقاربهم بالمدينة. كما أنه محاولة لغرس نوع من اليأس والقنوط في قلوب المسلمين الذين لم يهاجروا بعد، حين يرون عياشًا الذي هاجر إلى المدينة قد رجع مقيدًا إلى مكة، فربما أثر ذلك في نفوس بعض الذين يودون الهجرة، فيجعلهم يعيدون التفكير في أمرهم.‏
ولم يترك المسلمون أمر اختطاف عياش، فقد ندب الرسول صلى الله عليه و سلم أحد أصحابه للقيام بمحاولة إطلاق سراح عياش وهشام رضي الله عنهما، وفعلاً استعد للمهمة ورتب لها ما يحقق نجاحها، وجاء إلى مكة، واستطاع بكل اقتدار وذكاء أن يصل إلى البيت الذي حُبسا فيه، وأطلق سراحهما ورجع بهما إلى المدينة المنورة.‏
ولكن بالرغم من هذه الأساليب القاسية والمتنوعة، التي استخدمتها قريش، تمكن المسلمون من الهجرة إلى المدينة، فلم يقف التفريق بين المرء وزوجه وولده حائلاً، ولا التجريد من المال والحبس مانعًا، ولا الاختطاف حاجزًا بين المسلمين وهجرتهم إلى المدينة.‏
المطلب الثاني: فشل خطة قريش لاغتيال قائد الدعوة
بعد أن مُنيت قريش بالفشل في منع الصحابة رضي الله عنهم من الهجرة إلى المدينة المنورة، على الرغم من كل الأساليب آنفة الذكر، بعد هذا الفشل، أدركت قريش خطورة الأمر، فأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قد خرجوا، وساقوا الذراري والأطفال إلى الأوس والخزرج، حيث تجسد أمامهم الخطر الحقيقي الذي يهدد كيانهم الاجتماعي، والاقتصادي، فهم يعلمون قوة تأثير شخصية الرسول صلى الله عليه و سلم، مع كمال القيادة والرشاد، ويعلمون عزيمة أصحابه واستقامتهم، ومدى استعدادهم للفداء والتضحية في سبيل عقيدتهم، ويعلمون كذلك ما في الأوس والخزرج من قوة ومِنعة، وما في عقلاء هاتين القبيلتين من عواطف السلم، والصلح، والتداعي إلى نبذ الأحقاد فيما بينهم، بعد أن ذاقوا مرارة الحرب الأهلية طيلة أعوام من الدهر.‏
كما أنهم كانوا يدركون ما للمدينة من الأهمية من حيث الموقع الاستراتيجي لتجارتهم التي تمر بسـاحـل البحر الأحمـر إلى الشـام، ولا ريب أنها كانت تحتاج إلى الأمن والاستقرار طوال الطريق.‏
فهذا الموقف البالغ الحساسية والخطورة، كان يتطلب من قيادة قريش أن تحاول فعل شيء تجاهه، فصاروا يبحثون عن أنجع الوسائل لدفع هذا الخطر الذي مبعثه الوحيـد حامـل لواء الدعـوة، النبي صلى الله عليه و سلم، لذا اجتمعت قيادة قريش في دار الندوة للتشاور في أمر القضاء على قائد الدعوة.. ولما جاءوا إلى دار الندوة، اعترضهم إبليس في هيئة شيخ حكيم على الباب، فقالوا: مَن الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمع بالذي اتَّعَدتُّم له فحضر معكـم، ليسمـع ما تقولـون، وعسـى ألا يُعْدِمكم منه رأيًا ونُصحًا، قالوا: أجل فادخل، فدخل معهم.‏
طُرحت عدة آراء واقتراحات، أثناء ذلك الاجتماع، منها إخراج الرسول صلى الله عليه و سلم من مكة، ولكن هذا الرأي أُبعد بحجة أنه سوف يجد مأوى، ثم يعود لغزو مكة. فطُرح رأي آخر يقول بحبس المصطفى صلى الله عليه و سلم، ولكن هذا الرأي استبعد أيضًا بحجة أن أصحابه سيفكون قيده.‏
فكان الرأي، الثالث الذي وافق عليه الحاضرون وعلى رأسهم إبليس، ولم يعترض عليه أحد، وحظي بالإجماع.. يتلخص هذا الرأي في أن يؤخذ من كل قبيلة فتى شابًا جلدًا نسيبًا، وسيطًا في قومه، فيعطى كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلونه، فيتفرق دمه في القبائل جميعًا، فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب جميع القبائل فيرضوا بالدية، وقد حددوا مكان وزمان تنفيذ العملية، وقد رافق مؤامرتهم هذه اتخاذ بعض الإجراءات الأمنية، نوجزها فيما يلي: ‏
ـ التكتم التام على الاجتماع: ‏
لقد تكتمت قيادة قريش تكتمًا تامًا على اجتماعها في دار الندوة، فلم يعلم أحد في المؤمنين بأمره، ولا حتى أولئك الموالين للنبي صلى الله عليه و سلم من كفار قريش، فلم يُدع له أحد، وبخاصة عمه العباس، وقد نجحوا في أمر الكتمان هذا، بدليل أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يعلم به إلا عن طريق الوحي.‏
ـ التوقيت المناسب لتنفيذ العملية: ‏
وهو من أبرز الإجراءات الأمنية التي اتخذتها قريش لضمان نجاح تنفيذ هذه المؤامرة، فقد كان ميعاد التنفيذ بعد منتصف الليـل، ولا يخفى ما في ذلك من جوانب أمنية، فالليل غطاء أمني لإخفاء أفراد المهمة، هذا إلى جانب أن في مثل هذا الوقت تقل -وربما تنعدم- الحركة، مما يجعل أمر اكتشاف المؤامرة ضعيفًا، كما أن في مثل هذا الوقت يكون السواد الأعظم من الناس قد استغرقوا في النوم، فلا يشعرون بحركة أفراد المؤامرة، مما يسهل عليهم تنفيذ مهمتهم بنجاح.‏
ـ إحكـام الخطـة: ‏
لقد كانت الخطة محكمة بحيث لم تكن فيها ثغرة يمكن أن تفسدها، وهذا الإحكام يؤكد أن النقاش في دار الندوة كان مستفيضًا، بدليل أنهم رفضوا فكرة الحبس، والقيد، والإخراج، لما فيها من ثغرات.. رفضوا فكرة الحبس، لأنهم أقنعوا أنفسهم بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يمكنهم أن يطلقوا سراحه، واستبعدوا فكرة إخراجه لخوفهم من قوة تأثيره صلى الله عليه و سلم على الآخرين. واختيارهم للرأي الثالث القائل بالقتل الجماعي، يدل أيضًا على إحكام خطتهم، حيث إن القضاء على قائد الدعوة قضاء على الدعوة، هذا إلى جانب استحالة محاربة بني عبد مناف لقومهم جميعًا، وبالتالي يتفادى المشركون الحرب معهم، وتنحصر المشكلة في دفع الدية، وهو أمر ميسور لدى المتآمرين.‏
ومما يدل على إحكام الخطة أيضًا، إسناد هذه المهمة لأشخاص تنطبق عليهم مواصفات خاصة، بأن يكون الفرد منهم شابًا جلدًا، نسيبًا وسيطًا في قومه، يتقلد سيفًا صارمًا، ولا ريب أن أشخاصًا بهذه المواصفات، يجعلون نسبة نجاح العملية عالية.‏
ـ الترتيبات الوقائية، وتدخل العناية الإلهية: ‏
ولكن على الرغم من كل هذه الاحتياطات الأمنية العالية، فقد وفَّق الله عز وجل رسوله صلى الله عليه و سلم لإفشال خطة قريش، وتفويت فرصة أن ينالوا شرًا بالرسول صلى الله عليه و سلم، وذلك لأن الرسول صلى الله عليه و سلم يمثل قمة الإيمان والتقوى والورع، إلى جانب استنفاده الأسباب الممكنة.. وحسمت العناية الإلهية الأمر. ولا شك أن البُعد الأمني للإيمان ذو أثر بالغ في تحقيق النتائج، فينبغي على المسلمين أن يضعوا ذلك نصب أعينهم، حيث يتنزل المدد من الله الذي تستمد منه الجماعة المسلمة عدتها وعتادها، وهذا ما حدث عندما أحكمت قريش خطتها، وحافظت على سرية اجتماعها، وخفيت تلك المعلومة المهمة عن النبي صلى الله عليه و سلم، فجاء الوحي يخبره بتلك المؤامرة. وهذا ما يميز المسلم عن سواه.‏
ولكن بالطبع تدخُّل العناية الإلهية يأتي بعد الأخذ بالأسباب، وإعداد العدة، وعدم التواكل، فإذا تركنا الأخذ بالأسبـاب، ولـم نُعـد ما نستطيع من قوة، وأصبحنا ننتظر تدخُّل العنايـة الإلهيـة، فهـذا مما يخالف منهجنا الإسلامي، الذي يأمر بإعداد العدة بكل ما نستطيع من معدات وآليات، لأن الاستجابة لأمر الله بإعداد العدة، سبيل للعناية الإلهية وحصول النصر.‏

المبحث الثاني: جوانب الحذر والحيطة في الإعداد للهجرة
صاحب الإعداد للهجرة، اتخاذ عدة جوانب من الحذر والحيطة، بعضها قام به رسول الله صلى الله عليه و سلم وبعضها الآخر قام به سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، وسوف نقف في هذا المبحث على تلك الجوانب بعون الله.‏
المطلب الأول: جوانب من الحذر والحيطة فيما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم
لقد أولى النبي صلى الله عليه و سلم أمر الهجرة اهتمامًا بالغًا، فما أن جاءه الوحي بأمر الهجرة حتى باشر في تنفيذه بدقة، وإحكام، وتأمين، وهذا يظهر من خلال استعراضنا للجوانب التي صاحبت مراحل إعداده صلى الله عليه و سلم لهجرته، والتي من أبرزها ما يأتي: ‏
ـ اختيار الوقت المناسب لإيصال المعلومة: ‏
عندما جاء الأمر لرسول الله صلى الله عليه و سلم بالهجرة، وأراد أن يخبر صديقه الوفي أبا بكر رضي الله عنه ليصحبه معه، اختار لذلك وقت الظهيرة، وهي ساعة لم يكن قد اعتاد المجيء فيها إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه. قالت عائشة رضي الله عنها: (بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها).‏
ففي مثل هذا الوقت تقل الحركة، ويندر الرقيب، وبالتالي يضمن الرسول صلى الله عليه و سلم أن من الصعوبة على قيادة قريش وعيونها أن ترصده، مما يجعل أمر اللقاء أقرب إلى الخفاء، ومعلوم أن هذا التحرك كان بعد أن أخبر جبريل عليه السلام سيدنا محمدًا صلى الله عليه و سلم بمؤامرة قريش لقتله، وهذا مما يطرح احتمال أن تكون قيادة قريش تراقب عن كثب تحركات المصطفى صلى الله عليه و سلم.. وحتى يفوِّت الرسول صلى الله عليه و سلم الفرصة على عيون قريش، جاء في مثل هذا الوقت الذي لم يعتد الحضور فيه لبيت أبي بكر رضي الله عنه، إذ كان يأتي طرفي النهار.. فإذا افترضنا أن هناك من يراقب منزل أبي بكر، فإنه غالبًا يراقبه في هذين الوقتين دون سواهما.‏
ـ إخفاء الشخصية أثناء تنفيذ المهمة: ‏
من الطبيعي أن يخفي الإنسان معالم شخصيته أثناء تنفيذ المهمات الصعبة والحساسة، حتى لا يثير الريبة والشك لدى أعدائه، وبخاصة إذا كان الصراع بينهما محتدمًا، لأنه متى ما علم الطرف الآخر بتحركات خصمه، راقبه وتابعه، حتى يتبين له ماذا ينوي فعله، لذا جاء الرسول صلى الله عليه و سلم متلثمًا لبيت أبي بكر رضي الله عنه، فالتلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم وجه الـمُتَلَثِّم، وبالتالي التعرف عليه، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه و سلم حتى يخفي شخصيته عن زعماء قريش.‏
ـ التأكد والتثبت قبل النطق بالمعلومة: ‏
حينما دخل الرسول صلى الله عليه و سلم بيت أبي بكر رضي الله عنه، وقبل أن يخبره خبره، طلب منه أن يخرج مَن معه من البيت، فقال: (أَخْرِجْ عني من عندك)، وهذا احتياط أمني ضروري، لخطورة الأمر، فأي تسرب لهذه المعلومة، ستكون عواقبه وخيمة على الدعوة وقائدها، لأن أمر الهجرة مايزال في طوره الأول، فعندما تأكد النبي صلى الله عليه و سلم من خلو بيت أبي بكر رضي الله عنه من العيون، أخبر صاحبه بأمر الهجرة.‏
وثمة نقطة هامة تستوجب الوقوف عندها، وهي أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يعط سيدنا أبا بكر المعلومة كاملة أمام أسرته، فأخبره بالهجرة فقط، دون أن يذكر له مكان الهجرة بدليل أن أسماء رضي الله عنها عندما سمعت الصوت القائل: ‏
جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين حلا خيمتي أم معبد
قالت (أسماء): (فلما سمعنا قوله، عرفنا أن وجهه كان إلى المدينة المنورة).‏
وهذا شيء ضروري يجب الانتباه له في تعامل الداعية مع أسرته، بحيث يكون هذا التعامل في ضوء إمكانات كل فرد منها والثقة به، ومعرفة مدى فائدة إيصال المعلومة إليه أو منعها عنه.‏
لذا لم يعط الرسول صلى الله عليه و سلم المعلومة كاملة أمام أسماء وعائشة رضي الله عنهما، ليتأسى به مَن بعده من الدعاة، فالأعداء غالبًا ما يلجأون إلى أسر الدعاة للحصول على المعلومة منهم، سواء كان ذلك عن طريق الترغيب أو الترهيب، وهذا ما حدث من قريش، قالت أسماء رضي الله عنها: (أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل، فوقفوا على باب أبي بكر، فقالوا: أين أبوك؟ فقلت: لا أدري، فرفع أبو جهل يده فلطم خدي لطمةً طرح قُرْطي).‏
ـ التمويه في مبيت علي رضي الله عنه في فراشه صلى الله عليه و سلم: ‏
قال النبي صلى الله عليه و سلم لعلي بن أبي طالب: (نم في فراشي، وتسج ببردي هذا، الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم)، وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينام في برده ذلك إذا نام.‏
لقد كان تصرف النبي صلى الله عليه و سلم بتوجيه عليّ للنوم في فراشه، وتسجيه ببرده، تصرفًا سليمًا حكيمًا، إذ في ذلك تمويه تقتضيه ظروف وملابسات الموقف، وقد ظهرت حكمة وحنكة ذلك التصرف حينما قال الرجل الذي رأى سيدنا محمدًا صلى الله عليه و سلم خارجًا من بيته، قال لأفراد المهمة: (خيّبكم الله، قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك رجلاً إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، أما ترون ما بكم؟ فوضع كل رجل منهم يده على رأسه، فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليًا على الفراش، متسجيًا ببرد رسول الله صلى الله عليه و سلم، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائمًا عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا).‏
هذا التمويه، فوت على قريش فرصة إدراك رسول الله صلى الله عليه و سلم.. وهو مع حماية ربه له، إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يأخذ بأسباب الاحتياط البشري الذي يملكه.. وما أحوج المسلمين إلى إدراك واجبهم في الإعداد لمواجهة العدو، رغم اعتمادهم الأول والأخير على الله تعالى، وألا يعتادوا إحالة ضعفهم، وتقصيرهم على القدر، متوجعين على تأخر نصر الله تعالى.‏
ـ اختيار الدليل: ‏
كان من مستلزمات الإعداد للهجرة، الخبرة الكافية بالطريق من حيث القصر والطول، والبعد عن المسالك المعروفة والمألوفة، حتى يكون الركب بعيدًا عن العيون، لذا استأجر الرسول صلى الله عليه و سلم دليلاً ماهرًا عالمًا بآمن وأقصر الطرق بين مكة والمدينة المنورة، وهو عبد الله بن أريقط، وكان على دين قريش، وذلك حتى لا يضلا الطريق، أو يسلكا طريقًا معروفًا، مما يجعلهما عُرضة لمطاردات قريش.‏
ولنا وقفة مع عبد الله بن أريقط المشرك، الذي قاد ركب الإيمان إلى المدينة.. فالعبرة هنا في التعامل مع المشركين، وتسخيرهم لخدمة الدعوة بمقدار ما أمن جانبهم، وعليه فيمكن للمسلم التعامل مع غيره وفق مستوى عدائه لهذا الدين.‏
إن المنطق الظاهري يقتضي عدم اختيار عبد الله بن أُريقط دليلاً لأخطر هجرة في تأريخ الدعوة، لأنه مشرك، ولكن تقدير الرسول صلى الله عليه و سلم لشخصه بأنه أمين وصادق، لا يمكن أن يبوح بهذا السر، جعله يسند له تلك المهمة، هذا ما حدث فعلاً، فلم يخبر قريشًا بالأمر، على الرغم من الإغراء المادي الضخم، الذي قدمته قريش لمن يدل على محمد صلى الله عليه و سلم.. وهذا دليل على نقاء معدن الرجل، وصِدْقِ فِرَاسة الرسول صلى الله عليه و سلم.‏
ـ كتم خبر الهجرة: ‏
من الضروري جدًا لإنجاح أي مهمة حساسة كالهجرة، أن يكون أمرها طي الكتمان، لأن ذيوع خبرها يؤدي إلى اكتشافها، وبالتالي فشلها، وكلما كان الأمر محصورًا في عدد قليل جدًا، كلما كانت فرصة تسربه واكتشافه ضئيلة ونادرة.‏
لذا نجد أن النبي صلى الله عليه و سلم قد كتم أمر الهجرة عن أصحابه إلا عن قلة قليلة، قال ابن إسحاق: (ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله صلى الله عليه و سلم حين خرج إلا عليّ وأبو بكر وآل أبي بكر)، ونلاحظ أن هذه القلة كانت لها أدوار معينة تقوم بها، ولولا ذلك لما أخبرهم الرسول صلى الله عليه و سلم بأمر الهجرة.‏
المطلب الثاني: جوانب الحيطة والأمن فيـما قـام به أبو بكـر رضي الله عنـه

لقد قام أبو بكر رضي الله عنه بدور بارز وكبير في الهجرة، وشارك رسول الله صلى الله عليه و سلم في حسن الإعداد لها، وقد صاحب هذا الإعداد عدة جوانب حذرة ويقظة، كان من أبرزها: ‏
ـ تهيئة وسيلة الهجرة: ‏
فلا ريب أن رحلة طويلة كرحلة الهجرة من مكة إلى المدينة تحتاج إلى وسيلة معدة ومهيئة، تناسب طبيعة الأرض والمناخ، وهذا ما فعله سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، فحين علم بأن النبي صلى الله عليه و سلم سوف يهاجر حبس نفسه على رسول الله صلى الله عليه و سلم لصحبته، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر.‏
فالإبل تُعد أنسب وسيلة سفر في الصحراء إبان ذلك العصر. فهي حيوان صحراوي، يتحمل طبيعة الصحراء القاسية بماله من صبر وقوة تحمل، وذلك لما أودعـه الله فيهـا من خصـائص، فالجمـل يصبـر أيامًا لا يشرب، وهذا ضروري جدًا للرحلة، لأنها تمر عبر طريق غير مأهولة، يندر فيها الماء، كما أن السير في رمال الصحراء لا يناسبها إلا خف البعير، لأنها مسطحة لا تغوص في الرمال، فتعوق بذلك سرعة الحركة، بل تثبت على السطح، وتزيد من سرعة الحركة، الأمر الذي تتطلبه الرحلة.‏
كما أن طريقًا مهجورًا كطريق الهجرة، ورحلة طويلة كهذه، تحتاج إلى نوع من الجمال يمتـاز بالقـوة، ولأجـل ذلك علفهـا سيدنـا أبو بكر رضي الله عنه ورق السمر، ولمدة أربعة أشهر، وهو غذاء ممتاز للإبل يمدها بالطاقة الكافية، لتحمل السفر لمسافات طويلة دون أن يصيبها الجهد.‏
لقد أعد أبو بكر للأمر عدته، وفي ذلك تنبيه وتعليم للمسلمين، على امتداد الزمان، للأخذ بالأسباب، والتفكير والتدبير المناسب لكل حالة، فيعدون لكل أمر ما يناسبه من التخطيط، سواء أكان ذلك مما يتصل بالزمان أو المكان، أو كليهما.‏
ـ تموين الهجرة: ‏
هذه الرحلة الطويلة في شِعاب مكة وصحراء المدينة، تحتاج إلى تأمين الزاد، أثناء الاختباء بالغار، وأثناء الرحلة إلى المدينة، وتلك مهمة اضطلع بها أبو بكر وأهل بيته رضي الله عنهم.. قالت عائشة رضي الله عنها: (فجهزناهما أحث الجهاز، ووضعنا لهما سفرة في جراب، فقطعتْ أسماء بنت أبي بكر من نِطَاقِها فأوكأت به الجراب). قال ابن إسحاق: وكانت أسماء تأتيهما من الطعام، إذا أمست، بما يصلحهما.‏
ولا يخفى أهمية جانب تأمين الزاد، فعدم تأمينه يؤدي إلى الجوع الذي قد يفضي إلى الهلاك، كما أن الرحلة تحتاج إلى قوة تحمل وصبر، ولياقة عالية، وهذا ما لا يتحقق مع الجوع، كما أن عدم تأمين الزاد يجعلهم يلتمسونه أثناء الطريق، الأمر الذي يؤخر سيرهم، أو قد يعرضهم لخطر اكتشاف أمرهم.‏
ـ تسخير الأسرة لأمر الهجرة: ‏
رحلة كهذه تحتاج لأعوان وعيون، حتى تتم بصورة محكمة ودقيقة، وهذا يتطلب التأني والحيطة في اختيار أمثال هؤلاء، فأي إخفاق في اختيارهم، يُعد إخفاقًا في الأمر كله.. ونسبة لمعرفته التامة بأهل بيته، وقع اختيار أبي بكر رضي الله عنه، على أفراد أسرته، للقيام بهذه الأدوار المتنوعة، من إعداد الطعام، وإخفاء الأثر، ونقل أخبار العدو أولاً بأول، فباتت أسرة أبي بكر كلها تعمل من أجل إنجاح الخطة المرسومة للهجرة، فقام كل فرد فيها بأداء الدور المنوط به خير قيام.‏
المبحث الثالث: من الدار إلى الغار
المطلب الأول: من الدار حتى دخول الغار
كانت بداية الهجرة من بيت أبي بكر رضي الله عنه، ومن ثم التوجه إلى الغار، ومنذ البداية يظهر لمن يتتبع وقائع الهجرة الاحتياط الأمني والتخطيط الدقيق والتنفيذ المتقن، مما يجعل هذه المرحلة من الهجرة تنطوي على عدة جوانب أمنية، من بينها: ‏
أولاً: التوقيت المناسب للخروج: ‏
غادر رسول الله صلى الله عليه و سلم بيته في ليلة سبع وعشرين من شهر صفر، وأتى دار رفيقه أبي بكر رضي الله عنه، ثم غادراها من باب خلفي، ليخرجا من مكة على عجل، وقبل أن يطلع الفجر، وهذا مما يشير إلى التخطيط الدقيق واختيار الوقت المناسب.. فالليل ­كما هو معلوم­ ستار آمن، يمكن التحرك فيه بكثير من الاطمئنان، مما يقلل من احتمالات رؤيتهما. هذا إلى جانب أن قيادة قريش كانت في هذا الوقت متجمعة حول بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم معتقدة أن النبي صلى الله عليه و سلم بداخله، فكل تفكيرها وتدبيرها، كان مركزًا على هذا المكان، دون سواه، مما سهل مهمة الخروج لركب الهجرة في مثل هذا الوقت دون أن تعترضه عيون قريش، التي باتت ترقب سيدنا عليًا رضي الله عنه، ظنًا منها أنه النبي صلى الله عليه و سلم.‏
وكون هذا التحرك تم قبل الفجر، ربما كان على تقدير أن قريشًا لن تكشف حقيقة الأمر إلا بعد طلوع الفجر، بعد قيام عليّ رضي الله عنه عن فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم، وهذا ما حدث فعلاً. يقول ابن إسحاق: (فلم يبرحوا حتى أصبحوا، فقام علي رضي الله عنه عن الفراش)، وبالتالي تكون الفرصة قد فاتت على قريش، وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم وصاحبه قد وصلا إلى الغار بسلام.‏
أما خروجهم من الباب الخلفي، فهو من باب الاحتياط إذ هناك احتمال أن يكون بيت أبي بكر رضي الله عنه مراقبًا، وهو احتمال كبير للعلاقة الحميمة التي كانت تربط أبا بكر بالنبي صلى الله عليه و سلم، فإذا كانت المراقبة قائمة من بيت مجاور أو من مكان قريب، فستكون لباب البيت بالذات، يُرصد من خلاله الداخلون والخارجون.. وفي الخروج من مخرج سري، بعيد عن المراقبة، مراعاة للمحافظة الدائمة على السرية، ووضع الاحتمالات الكثيرة احتياطًا لتخطيط العدو ومراقبته.‏
ثانيًا: الخروج إلى الغار سيرًا على الأقدام: ‏
لقد خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم وصاحبه أبو بكر من بيت الصديق سيرًا على الأقدام، حتى دخلا الغار، فمشى رسول الله صلى الله عليه و سلم على أطراف أصابعه حتى حفيت رجلاه، فلما رآها أبو بكر أنها قد حفيت حمله على كاهله، وجعل يشتد به، حتى أتى به الغار فأنزله.‏
وفي ذلك اعتبارات أمنية ظاهرة، فسيرهم على الأقدام يجعل أثرهم أقل وضوحًا مما لو كانا راكبيْن، إضافة إلى أن الركوب على الدواب في مثل هذا الوقت من الليل ملفت للنظر، وربما تنبهت قيادة قريش للأمر، فتفسد الخطة، كما أن حركة الرواحل في الغالب يصدر عنها صوت، مما يجعل الركب عرضة لإثارة فضول قريش فتسأل الركب، أو تستوقفـه لتستوضـح أمـره، بعكـس السيـر على الأقـدام فلا يحدث صوتًا، وبخاصة إذا كان السير على أطراف الأصابع، كما كان يسير الرسول صلى الله عليه و سلم، وهذا السير يزيد من فرص نجاح المهمة.‏
ثالثًا: التمويه في الخروج إلى الغار: ‏
يقع غار (ثور) جنوبي مكة المكرمة، بينما يقع الطريق المؤدي إلى المدينة شمال مكة المكرمة، وهنا تبدو دقة التخطيط، والاحتياط الأمني. قال المباركفوري: (ولما كان النبي صلى الله عليه و سلم يعلم أن قريشًا ستجدّ في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيس المتجه شمالاً، فقد سلك الطريق الذي يضاده تمامًا، وهو الطريق الواقع جنوبي مكة، والمتجه نحو اليمن، سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ جبلاً يعرف بجبل ثور).‏
المطلب الثاني: الاحتياطات الأمنية أثناء الإقامة بالغار
لقد تخللت إقامة النبي صلى الله عليه و سلم وصاحبه في الغار بعض الاحتياطات الأمنية، سنحاول تناول أهمها في هذا المطلب.‏
أولاً: تدخل العناية الإلهية: ‏
على الرغم من كل الجهد البشري في التمويه والاختفاء والسرية، استطاعت قيادة قريش أن تصل إلى مكان الغار، سواء أكان ذلك عن طريق تتبع الأثر، أو المسح الشامل لجبال مكة بحثًا عن النبي صلى الله عليه و سلم وصاحبه، وكانت قريش قاب قوسين أو أدنى من بغيتها، حتى قال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: (يا نبي الله! لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا).‏
وهنا تدخلت العناية الإلهية، فرأت قريش على باب الغار نسج عنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فرجعت قريش عن الغار.‏
ويمكن أن نلمح من هذه الحادثة عدة أمور، منها: ‏
ـ أنه حين يبلغ الجهد البشري مداه المطلوب، وحين تستنفد الطاقة البشرية، فإن الله تعالى يرحم عبده المؤمن، ويحفظه من كيد الأعداء.‏
ثانيًا: التجسس ورصد تحركات قيادة قريش: ‏
كلما كانت القيادة أعلم بواقع العدو، وأدرى بأسراره، ولها في صفوفه من ينقل لها تخطيطهم، كلما كان ذلك أنجح لها في تنفيذ خططها ومخططاتها.. لذا أمر سيدنا أبو كر رضي الله عنه ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى، بما يكون في ذلك اليوم من الخبر.. وقد قام عبد الله بهذا الدور خير قيام، يقول ابن حبان: (...يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح بمكة مع قريش كبائت بها، فلا يسمع أمرًا يُكاد به، إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام).‏
تتضح من النص عدة أمور لها أهميتها هنا: ‏
ـ الصفات التي يمتاز بها عبد الله، فهو ثقف، أي حاذق فَطِن، ولقن، أي سريع الفهم، وهذه من السمات المطلوب توفرها فيمَن يقوم بمثل هذه المهمة.. فالذكاء يساعده على حسن التصرف حيال المواقف الحرجة، التي قد تصادفه إبان القيام بمهمته، كما يساعده في استخدام الوسيلة المثلى في الحصول على المعلومة دون زيادة أو نقص، مما يجعل المعلومة التي يأتي بها تمتاز بقدر كبير من الصحة.‏
ـ ذهابه إليهم ليلاً سرًا، وعودته عند السحر، يبعده عن خطر مراقبة قيادة قريش، لأن الظلام ­كما هو معلوم­ ساتر مناسب لمن يقوم بمثل هذه المهمة الحساسة، فدخول مكة سحرًا، يبعد عنه شبهة الاتصال بالنبي صلى الله عليه و سلم، فيصبح وكأنه بائت بمكة لا بالغار، وهذا قمة في الحيطة والحذر ودقة التخطيط، والمعلومات التي كان يأتي بها تجعل الرسول صلى الله عليه و سلموصاحبه على دراية تامة بما تفعله وستفعله قريش، الأمر الذي يجعل تحرك الركب من الغار مبنيًا على الحقائق الصحيحة لا على الظن والحدس.‏
ثالثـًا: إعفـاء الأثـر: ‏
لابد أن مجيء وذهاب عبد الله بن أبي بكر، سيخلف وراءه آثار أقدامه، الأمر الذي ربما قاد قريشًا إلى مكان ركب الهجرة، وبخاصة أن أسماء كانت هي الأخرى تأتي يوميًا إلى الغار لتحضير الطعام، وحتى يستبعد هذا الاحتمال كان عامر بن فُهيرة مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما يتبع أثرهما بالغنم كي يعفي الأثر، ونلاحظ أن إزالة الأثر عن طريق الغنم تُعد أنسب وسيلة، لأن آثار الغنم في تلك الجبال، أمر مألوف لقريش، فلا يُثير شكًا ولا ريبة.‏
رابعًا: الإمداد بالتموين في الغار: ‏
إن الإقامة في الغار ثلاثة أيام، تحتاج لزاد معد وجاهز، لأن أي محاولة لإشعال نار لإعداد
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
خدمة الاسلام
عضو / ة
عضو / ة
خدمة الاسلام


الساعة الأن :
عدد المساهمات : 133
نقاط : 283
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 28/09/2010

في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية Empty
مُساهمةموضوع: رد: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية   في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية Icon_minitime1الإثنين 18 أكتوبر 2010, 6:08 pm

جزاك الله كل خيرا

عنا وعن كل المسلمين



في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية ?ui=2&ik=032f997153&view=att&th=12bb71a6c55a5c9a&attid=0
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى اولاد حارتنا :: كلام الشيوخ بتوع حارتنــــا :: قصم المواضيع المثنتة من كلام شيوخنا-
انتقل الى:  
تصحيح أحاديث وأقوال مأثورة لشيوخ اولاد حارتنا


بحث عن:

مع تحيات أسرة اولاد حارتنـــــــــــــــــا
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية reddit      

قم بحفض و مشاطرة الرابط منتدى اولاد حارتنا على موقع حفض الصفحات

قم بحفض و مشاطرة الرابط منتدى اولاد حارتنا على موقع حفض الصفحات