خطبتى الجمعة بعنوان
( تحية رمضان )
ألقاها الأخ فضيلة الشيخ / نبيل عبدالرحيم الرفاعى
الحمد لله المتفضِّل بكلّ نعمة ، دافعِ كلّ نقمة ، له الخلق و الأمر ، و إليه المرجع و المستقرّ ،
يتفضّل بالصالحات و يجزي عليها ، و ينعم بالخيرات و يوفِّق إليها ،
أحمده تعالى و أشكره و قد تفضّل بالزيادة لم شكر ،
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،
و أشهد أن سيدنا و نبينا محمدا عبده و رسوله ،
صلى الله عليه و على آله و صحبه ما تعاقب الشمس و القمر .
أمــــا بعـــــد :
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ و نفسي بتقوى الله عز و جل ، فاتقوا الله رحمكم الله ،
و ارغبوا فيما عنده ، و لا تغرنكم الحياة الدنيا ، فطالبها مكدود ، و المتعلق بما متعب مجهود ،
و الزاهد فيها محمود ، و استعيذوا بالله من هوى مطاع ، و عُمُر مُضاع ،
و رحم الله عبدًا أعطي قوةً و عمل بها في طاعة الله ، أو قصر به ضعف فكفَّ عن محارم الله .
أيها الناس : إن المتطلّع في واقع كثير من الناس ، وَسْط أجواء المتغيرات المتكاثرة ،
و الركام الهائل من المصائب و البلايا ، و النوازل و الرزايا ، ليلحظ بوضوح
أن كثيرًا من النفوس المسلمة توّاقة إلى تحصيل ما يُثبت قلوبها ،
و إلى النهل مما تطفئ به ظمأها ، و تسقي به زرعها ، و تجلو به صدأها ،
فهي أحوج ما تكون إلى احتضان ضيف كريم ، يحمل في جنباته مادة النماء ،
فهي مشرئبّة لحلوله ، يقطّعها التلهّف إلى أن تطرح همومها و كدَّها و كدحها
عند أول عتبة من أعتابه ، بعد أن أنهكت قواها حلقات أحداث مترادفة ،
بعضها يموج في بعض ، فلأجل هذا كان الناس بعامة أحوج ما يكونون
إلى حلول شهر الصيام و القيام ، شهر الراحة النفسية و السعود الروحي ،
شهر الركوع و السجود ، شهر ضياء المساجد ، شهر الذكر و المحامد ،
شهر الطمأنينة و محاسبة النفس ، و إيقاظ الضمير ، و التخلص من النزعات الذاتية ،
و الملذات الآنية ، في شهوات البطون و الفروج ، و العقول و الأفئدة ،
و التي شرع الصيام لأجل تضييق مجاريها في النفوس ،
و كونه فرصة كل تائب ، و عبرة كل آيب ،
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ
كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
[البقرة: 183] .
أيها المسلمون ، شهر رمضان المبارك هو شهر القرآن ، القرآن الذي لا تنطفئ مصابيحه ،
و السراج الذي لا يخبو توقده ، و المنهاج الذي لا يضل ناهجه ، و العزّ الذي لا يهزم أنصاره ،
القرآن ـ عباد الله ـ هو في الحقيقة بمثابة الروح للجسد ، و النور للهداية ،
فمن لم يقرأ القرآن ، و لم يعمل به فما هو بحيّ ، و إن تكلم أو عمل أو غدا أو راح ،
بل هو ميت الأحياء ، و من لم يعمل به ضل و ما اهتدى ،
و إن طار في السماء أو غاص في الماء ،
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ٱلنَّاسِ
كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَـٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا }
[الأنعام:122] .
إن الإنسان بلا قرآن كالحياة بلا ماء و لا هواء ، بل إن الإفلاس متحقق في حسّه و نفسه ،
ذلك أن القرآن هو الدواء و الشفاء ،
{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ
وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }
[فصلت:44] .
إن مما لا شك فيه ـ أيها المسلمون ـ أن صلة الكثيرين بكتاب ربهم يكتنفها شيء
من الهجران و العقوق ، سواء في تلاوته أو في العمل به ، بل قد لا نبتعد عن الحقيقة
لو قلنا : إن علل الأمم السابقة قد تسللت إلى أمة الإسلام لِواذًا وهي لا تشعر ،
ألا تقرؤون ـ يا رعاكم الله ـ
قول الباري جل وعلا:
{ وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَـٰبَ إِلاَّ أَمَانِىَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ }
[البقرة:78] .
يقول المفسرون :
" أي لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة و ترتيلا ، بحيث لا يجاوز حناجرهم و تراقيهم " ،
كل ذلك بسبب الغياب القلبي ، و الحجر الروحي عن تدبر القرآن،
{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلَـٰفاً كَثِيراً }
[النساء:82]،
أفلا يتدبرون القرآن إذًا.
روى الإمام أحمد و الترمذي و ابن ماجه عن زياد بن لبيد الأنصاري رضي الله عنه قال :
ذكر النبي صلى الله عليه و سلم شيئًا
فقال عليه الصلاة و السلام :
( وذلك عند ذهاب العلم ) ،
قلنا : يا رسول الله ، كيف يذهب العلم و نحن قرأنا القرآن ، و نقرئه أبناءنا ،
و أبناؤنا يقرئونه أبناءهم ؟!!
فقال عليه أفضل الصىة و أزكى السلام :
( ثكلتك أمك يا ابن لبيد ، إن كنت لأراك من أفقه رجل في المدينة ،
أوَليس هذه اليهود و النصارى بأيديهم التوراة و الإنجيل
و لا ينتفعون مما فيهما بشيء ؟ ) .
إن المرء المسلم لتأخذ الدهشة بلبه كل مأخذ ، حين يرى مواقف كثير من المسلمين
مع كتاب ربهم ، وقد أحاط بهم الظلام ، و ادلهمت عليهم الخطوب من كل حدب و صوب ،
فيا لله العجب كيف يكون النور بين أيدينا ثم نحن نلحق بركاب الأمم من غيرنا ؟!!
تتهاوى بنا الريح في كل اتجاه لا نلوي على شيء .
لقد عاش رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثة و ستين عامًا ،
و لقد كنا نسمع كثيرًا أن كبر السن ، و صروف الحياة المتقلبة قد تشيب منها مفارق الإنسان ،
فما ظنكم بمن تمر به هذه كلها ، واحدة تلو الأخرى ، ثم هو ينسب المشيب الذي فيه
إلى آيات من كتاب ربه كان يرددها ، و معان يتأولها و يتدبرها ،
روى الترمذي و الحاكم أن أبا بكر رضى الله تعالى عنه
سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال :
يا رسول الله ، ما شيبك ؟
قال عليه الصلاة و السلام :
( شيبتني هود و الواقعة و عم يتساءلون و إذا الشمس كورت ) .
إن رمضان بهذه الإطلالة المباركة ، ليعدّ فرصة كبرى و منحة عظمى للمرء المسلم ،
في أن يطهر نفسه بالنهار ، لكي يعدّها لتلقي هدايات القرآن في قيام الليل ،
{ إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً }
[المزمل:6] ،
و لقد ورد أن أئمة المذاهب الأربعة كانوا يغلقون كتب العلم ، و يهجرون مجالس العلم
في رمضان و يكتفون بقراءة القراءان وحده .
عباد الله ، شهر رمضان المبارك ، شهر رحب و ميدان فسيح ، يوطد المرء نفسه
من خلاله على أن يحيي ليله ، و على أن لا يلجأ في حوائجه إلا إلى قاضيها سبحانه ،
إذ لا ملجأ من الله إلا إليه ، و هو يقضي و لا يقضى عليه .
فثلث الليل الآخر هو وقت التنزل الإلهي ، على ما يليق بجلاله و عظمته ، إلى سماء الدنيا ،
إذ يقول :
( هل من سائل فأعطيه ؟
هل من داع فأستجيب له ؟
هل من مستغفر فأغفر له ؟ ) .
تُرى ، هل فكّر كل واحد منا في استثمار هذا الوقت العظيم الذي هو من آكد مظان إجابة الدعاء ؟
تُرى ، ما هي أحوال الناس مع ثلث الليل الآخر ؟ بل كم من شاكٍ لنفسه قد غاب عنه
هذا الوقت المبارك ، كم من مكروب غلبته عينه عن حاجته و مقتضاه ،
كم من مكلوم لم يفقه دواءه و سر شفائه ، كم و كم من أصحاب الحاجات فرطوا
في هذا الوقت المبارك . ألا إن كثيرًا من النفوس في سبات عميق ،
إنها لا تكسل في أن تجوب الأرض شمالها و جنوبها ، و شرقها و غربها ،
باحثة عن ملجأ للشكوى ، أو فرصة سانحة لعرض الهموم و الغموم على بني البشر ،
غافلة عن الالتجاء إلى كاشف الغم ، و فارج الهم ، و منفس الكرب الذي ،
{ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ }
[المؤمنون:88]
و الذي ،
{ يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء }
[النمل:62] ،
{ مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً }
[نوح:13، 14] .
روى الإمام أحمد و الترمذي و النسائي
أن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
( ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ، و الصائم حتى يفطر ،
و دعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام يوم القيامة ، و يفتح لها أبواب السماء
و يقول : بعزتي لأنصرنَّك و لو بعد حين ) .
عباد الله ، إن كثيرًا ممن يرفعون أكف الضراعة بالدعاء إلى الباري جل شأنه ،
قد يستبطئون الإجابة ، و لربما أصابهم شيء من اليأس و القنوط ،
{ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ }
[الحجر:56].
و هذا هو السر الكامن في منع إجابة الدعاء ،
يقول المصطفى صلى الله عليه و سلم :
( إن الله يستجيب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول :
دعوت ربي فلم يستجب لي )
رواه البخاري و مسلم .
و لربما لم يستجب الدعاء لما فيه من الإثم ، أو قطيعةٍ للرحم ، أو أن يكون الدعاء
المنبثق من شفاه الداعين غير مقترن بالقلب اقتران الروح بالجسد ، لأن اللسان
ترجمان القلب و بريده ، و القلب خزانةٌ مستحفظةٌ للخواطرَ و الأسرار ،
و مساربَ النفس الكامنة ، فالدعاء باللسان و القلبُ غافل لاهٍ إنما هو قليل الجدوى أو عديمها ،
فرسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
( إن الله لا يقبل الدعاء من قلب لاهٍ )
رواه الحاكم والترمذي و حسنه .
فالله اللهَ ـ أيها المسلمون ـ في الدعاء ، فهو العبادة و مخها ، و هو السهام النافذة لذوي العجز
و قلة الحيلة ، و لا يحقرن أحدكم الحوائج مهما قلت أو كثرت ، فإن الله أكثر ،
و قد قال سبحانه :
{ وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰخِرِينَ }
[غافر:60] .
و بعد ـ يا رعاكم الله ـ ، نقول لذوي المصائب و الفاقات ، و الهموم و المقلقات :
خذوا هذا المثل عبرة و سلوانًا ، و الذي يتجلى من خلاله أثر الدعاء في حياة المرء ،
و أنه لا غنى له عنه ما دام فيه عرق ينبض ، إذ هو الدواء إذا استفحل الداء ،
و هو البلسم الشافي إذا اشتد الداء .
دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم المسجد ذات يوم فإذا هو برجل من الأنصار
يقال له : أبو أمامة ، فقال :
( يا أبا أمامة ، ما لي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصلاة ؟! )
قال : هموم لزمتني ، و ديون يا رسول الله ،
قال عليه الصلاة و السلام :
( أفلا أعلمك كلامًا إذا قلته أذهب الله همك ، و قضى عنك دينك ؟ )
قال : بلى يا رسول الله ،
قال عليه الصلاة و السلام :
( قل إذا أصبحت و إذا أمسيت : اللهم إني أعوذ بك من الهَمّ و الحزن ،
و أعوذ بك من العجز و الكسل ، و أعوذ بك من الجبن و البخل ،
و أعوذ بك من غلبة الدين و قهر الرجال ) ،