المطلب الرابع: جوانب الحذر والحماية في بيعة العقبة
قال كعب بن مالك رضي الله عنه: (ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعقبة من أوسط أيام التشريق. قال: فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم لها... وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا... فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه و سلم، نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشِّعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً، فاجتمعنا في الشِّعب، ننتظر رسول الله صلى الله عليه و سلم، حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، فلما جلس كان أول متكلم العباس...).
لقد كانت بيعة العقبة ثمرة من ثمرات الأساليب المناسبة، التي استخدمها الرسول صلى الله عليه و سلم ضد مكر قريش، والتي كانت في غاية من السرية والكتمان، وسنقف هنا على بعض جوانب الحذر والحيطة، التي تخللت بيعة العقبة الكبرى:
ـ الاتفاق المسبق على زمان ومكان البيعة:
تم الاتفاق على زمان ومكان البيعة، بين الرسول صلى الله عليه و سلم والأنصار، حيث واعدهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجتمعوا أوسط أيام التشريق في الشعب، الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى، وأن يتم هذا الاجتماع ليلاً.
إن اختيار هذا الوقت -ليلاً- وذاك المكان -الشِّعْب- يؤكد مدى اهتمام النبي صلى الله عليه و سلم بالجانب الأمني، وإحاطة تحركاته بالسرية والكتمان، ففي هذا الوقت تقل رقابة قريش، وتهدأ الحركة، وتندر الرؤية، مما يجعل فرصة الانكشاف أمرًا صعبًا.
ـ الأمر بكتمان الخبر:
طلب الرسول صلى الله عليه و سلم من الأنصار كتمان الخبر عن المشركين، فذلك أمر تقتضيه الظروف الأمنية، حتى لا يتسرب خبر البيعة إلى قريش، فتقوم بإحباطها.. وقد نفذ الأنصار هذا الطلب، يقول كعب بن مالك رضي الله عنه: (وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا).. وقد ظهرت أهمية ونتيجة هذا الكتمان عندما جاءت قريش لتتقصى الخبر من صبيحة البيعة، فتولى الرد علىها مشركو الأنصار، وأقسموا على نفي حدوث البيعة، ولولا هذا الكتمان لانكشف أمر البيعة والمبايعين.
ـ الاحتياط في الحضور إلى مكان البيعة:
وضع الرسول صلى الله عليه و سلم خطة مأمونة دقيقة للحضور إلى مكان البيعة، فطلب من الأنصار أن يأتوا أفرادًا لا جماعة، حتى يجتمعوا جميعًا في العقبة، وأن يكون ذلك بعد مضي ثلث الليل الأول، وأمرهم ألا ينبهوا نائمًا، ولا ينتظروا غائبًا، وقد طبق الأنصار هذه الخطة تمامًا، يقول كعب: (فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه و سلم نتسلل مستخفين تسلل القطا)، أي أفرادًا.
يتجلى لنا من تلك الخطة وتطبيقها، الاحتياط الأمني المحكم في كل جوانبها، فكونهم يأتون بعد ثلث الليل، فذلك وقت يكون الناس فيه قد استثقلوا في النوم، ولا يشعرون بحركة المسلمين يقول كعب: (فلما استثقل الناس في النوم تسللنا...)، بالإضافة إلى أن هذا الوقت يُمكِّن المجتمعين من إنجاز أمر البيعة، وهو وقت مريح.. ولو كان قبل ثلث الليل لكان عرضة للانكشاف، فمعظم الناس لم يخلد بعد إلى النوم أو لم يستثقل فيه، ولو كان بعد ثلث الليل، لكان قريبًا من الصبح، وبالتالي يصبح وقت الاجتماع ضيقًا، مما قد ينتج عنه عدم إنجاز أمر البيعة.
أما تسللهم أفرادًا، فهو زيادة في الحيطة والحذر، مما يجعل أمر اكتشافهم عسيرًا بخـلاف ما لو خرجـوا جماعـات، فخروجهـم أفرادًا لا يثير شكًا أو ريبة إذا حدث وأن شاهدهم أحد، فربما حسب أن الفرد منهم يقضي حاجته أو نحو ذلك، أما إذا كان الخروج جماعة فإن ذلك يثير الشك والريبة خاصة في مثل هذا الوقت من الليل، ومن ثم تأتي المراقبة والمتابعة، الأمر الذي يفضي إلى كشف أمر البيعة.
أما أمره صلى الله عليه و سلم بعدم إيقاظ النائم أو انتظار الغائب، فهو تحسب من أن يؤدي إيقاظ النائم إلى انتباه المشركين، هذا إلى جانب أن هذا الأمر يجعل كل المسلمين في حالة تأهب، فيعمل كل فرد منهم على ألا يتسلل النوم إلى عينيه مخافة أن يفوته ذاك الفضل، وهذا ينطبق على عدم انتظار الغائب، بحيث يحاول كل فرد من الأنصار ألا يتغيب أو يذهب بعيدًا في ذلك الوقت. لقد كان لهذا الأمر النبوي أثره الظاهر، حيث حضر الجميع في الزمان والمكان المحدديْن دون أن يتخلف أحد.
ـ التصرف السليم حيال الطوارئ:
حين صرخ الشيطان بأعلى صوته من رأس العقبة قائلاً: (يا أهل الجباجب -المنازل- هل لكم في مُذَمَّم والصُّبَاة معه قد اجتمعوا على حربكم)، حينها أمر الرسول صلى الله عليه و سلم الأنصار بالانصراف والرجوع إلى رحالهم.
هذا الأمر بالانصراف فور سماع صوت الشيطان، الذي كشف أمر الاجتماع، يعد تصرفًا أمنيًا، اقتضته ظروف وملابسات الحدث، لأن قريشًا غالبًا ما تكون بعد سماعه في حالة استنفار تام، وقد تقوم بمسح شامل للمنطقة، لتتأكد من هذه المعلومة.. وحتى يُفوِّت الرسول صلى الله عليه و سلم الفرصة على قريش أمر أصحابه بالانصراف، فانصرفوا إلى رحالهم، وأصبحوا مع قومهم.
وربما كان أقرب مثال لدور الشيطان، ما تقوم به شياطين الإنس ممن باعوا أنفسهم للشيطان، ليوقعوا بالمسلمين ودعاة الإسلام، ويغروا بهم الأعداء باسم التطرف والأصولية وغير ذلك من الصناعات والصيغ الشيطانية، لشل حركة العمل الدعوي.
ـ الأمر بانتخاب النقباء:
إن طلب الرسول صلى الله عليه و سلم من الأنصار انتخاب نقباء من بينهم، يدل على يقظة وفطنة المصطفى صلى الله عليه و سلم، فهو لا يريد أن يفرض عليهم أشخاصًا من غير شوراهم، كما أنه لم يسبق له التعرف عليهم حتى يعلم معادنهم، وربما حدد أشخاصًا كلهم من الخزرج أو الأوس فيؤدي ذلك إلى عدم رضاء طرف على آخر، ولتفادي تلك الاحتمالات وغيرها، ترك الرسول صلى الله عليه و سلم أمر اختيار النقباء للأنصار.
ـ توفر الحس الأمني لدى بعض من شهدوا البيعة:
تجلى الحس الأمني لدى العباس بن عُبادة بن نَضْلة الأنصاري وأسعد بن زرارة، في تأكيدهما على خطورة البيعة على قومهم، فقال العباس بن عُبادة: (إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهِكَتْ أموالُكُم مُصيبة، وأشرافُكم قتلاً، أسلمتموه، فمن الآن)، فأجابوه: (فإنا نأخذه على مُصيبة الأموال وقتل الأشراف).
وقال أسعد قبيل البيعة: رويدًا يا أهل يثرب... وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما تصبرون على ذلك فخذوه، وإما تخافون على أنفسكم خيفة فذروه.
وهذا مما يبرز مدى حرص العباس وأسعد على الاحتياط لأمر الدعوة، وقائدها، فأرادا بذلك أن يؤكدا على خطورة الأمر، بإظهار نتائج تلك البيعة ومتطلباتها، ابتداءً، حتى يكون أهل البيعة على علم تام بما قد يحدث لهم، قبل أن تفاجئهم الأحداث ويتخلوا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، وحينها لا يمكن تصور ما سيحدث للدعوة وقائدها، وتفاديًا لذلك حرصوا على التحقق من استعداد قومهم للتضحيـة في سبيل الله.
الفصل الثالث: جوانب الحذر والحماية في الهجرة النبوية
تـوطـئـة: ?
بعد أن تيقن الرسول صلى الله عليه و سلم من أن مكة لم تعد تصلح أن تكون أرضًا تؤوي الدعوة وتحميها، بل باتت تهدد وجودها، كان لابد لدعوة الإسلام من أرض تقف عليها، وتنطلق منها، وتكون لها السيطرة عليها، حتى يتسنى لها الانتشار ومجابهة الباطل، الذي يقف أهله عقبة في طريق الدعوة.. كان لابد لهذه الأرض من أن تتوافر فيها بعض السمات، حتى تكون عونًا للمسلمين على أداء دورهم في خلافة الأرض، وإقامة العدل، ولعل من أبرز هذه السمات: أن تكون تلك الأرض ذات قدرات اقتصادية، وأن تمتاز بموقع طبيعي حصين، وأن تتمتع بمنافذ وقنوات اتصال مع الخارج، وأن يكون بها أنصار وحماة لدعوة الإسلام، يضحون في سبيلها بالنفس والمال.. هذه هي أبرز الصفات التي امتازت بها المدينة المنورة، وفيما يلي نلقي بعض الضوء على الصفات الأربع المذكورة:
ـ بالنسبة للصفة الأولى، نجد أن المدينة كانت مركزًا تجاريًا هامًا بين شمالي الجزيرة العربية وجنوبيها، وكانت -وما تزال- أرضًا زراعية خصبة، يزرع بها التمر بكميات هائلة، وعندما جاء الصحابة رضي الله عنهم للمدينة المنورة، وجدوها أرضًا عامرة بالزراعة.
ـ أما الصفة الثانية فكانت المدينة أرضًا حصينة، إذ تحيط بها الجبال، والحِرار من كل الجوانب، وقد ظهرت أهمية هذه الميزة حين هجوم الأحزاب عليها، فقد فشلت قريش في الدخول إلى المدينة المنورة لمجرد حفر المسلمين للخندق.
ـ أما بخصوص موقع المدينة، فكان فريدًا، إذ كانت تمثل همزة الوصل بين شمالي الجزيرة وجنوبيها، لذا كانت قنوات الاتصال بالمدينة سالكة مع الخارج.
ـ أما أمر الأنصار وحمايتهم للدعوة، فأمر معلوم تشهد به مجاهداتهم في بدر، وأحد، وغيرهما. فقد كان الأنصار من الأوس والخزرج معروفين بقوة الشكيمة، والفروسية، والشجاعة، والنخوة، وكانوا أهل خبرة وبصر بالقتال وفنونه.. ولهذا لم يتأخروا أبدًا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، فدوه بالنفس والنفيس.
ونظرًا لتلك السمات المتفردة، لم يكن غريبًا أن تصبح المدينة أصلح مكان لهجرة الرسول صلى الله عليه و سلم وصحبه، فاتخذوها لهم دارًا وقرارًا، حتى يقوى الإسلام، ويشق طريقه إلى الأمام، ويفتح الجزيرة ثم يفتح العالم المتمدن، وقد كان نجاح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة، من أعظم المكاسب التي حصل عليها منذ بداية الدعوة. وفي هذا الفصل سنحاول الوقوف على جوانب الحماية والأمن للهجرة إلى المدينة المنورة.
المبحث الأول: جوانب الحماية والأمن قُبيل الهجرة
ثمة جوانب مهمة تمت قبيل الهجرة، سنحاول الوقوف عندها من خلال هذا المبحث بتوفيق الله.
المطلب الأول: تغلب المسلمين على أساليب
قريش وتمكنهـم من الهجـرة إلى المدينـة عقب الفشل الذي منيت به قيادة قريش، في عدم مقدرتها على منع توقيع البيعة بين الرسول صلى الله عليه و سلم والأنصار، وبعد أن أدركت خطورة أن يجد الرسول صلى الله عليه و سلم وصحبه أعوانًا وأرضًا ينطلقون منها، عقب كل ذلك عملت قيادة قريش جاهدة للحيلولة دون خروج مَن بقي من المسلمين إلى المدينة، ولقد اتبعت في ذلك عدة أساليب نستعرضها فيما يلي:
أولاً: أسلوب التفريق بين الرجل وزوجه وولده:
لا شك أن للزوجة والولد مكانة عظيمة في قلب الرجل، فأي تفريق بينه وبينهم يعد أمرًا بالغ الصعوبة، وخاصة إذا كان هذا التفريق قسرًا، لذا لجأت قريش إلى هذا الأسلوب كي تحول بين المسلمين وبين الهجرة إلى المدينة.
تقول أم سلمة رضي الله عنها: (لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحّل لي بعيره، ثم حملني عليه وحمـل معي ابني سلمـة ابن أبي سلمة في حجري، ثم خرج يقود بي بعيره، فلما رأته رجالُ بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غَلَبْتَنَا عليها، أرأيت صاحبتك هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت: فنزعوا خِطَامَ البعير من يده فأخذوني منه. قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رَهْط أبي سلمة، فقالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، قالت: فتجاذبوا بُنَيَّ سلمة بينهم، حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحَبَسَنِي بنو المغيره عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة).
وهذا أنموذج للطرق القاسية التي سلكتها قريش لتحول بين أبي سلمة والهجرة، رجل يفرق بينه وبين زوجه عنوة، وبينه وبين فلذة كبده، على مرأى منه! كل ذلك من أجل أن يثنوه عن الهجرة! ولكن متى ما تمكّن الإيمان من القلب، استحال أن يُقَدِّم صاحبه على الإسلام والإيمان شيئًا، حتى لو كان ذلك الشيء فلذة كبده، أو شريكة حياته، لذا انطلق سيدنا أبو سلمة رضي الله عنه إلى المدينة لا يلوي على أحد، وفشل معه هذا الأسلوب.. وللدعاة إلى الله فيه، أسوة حسنة.
ثانيًا: أسلوب التجريد من المال:
المال زينة الحياة الدنيا، وبريق المال له فتنة، ومن الصعوبة بمكان أن يتنازل المرء عن كل ماله دون مقابل مادي ملموس، وإذا خير الإنسان بين المال والفكرة، فقليل هم أولئك الذين يقدمون الفكرة على المادة. ولما كانت قريش تعلم مدى تعلق الإنسان بحب المال، أرادت أن تجعل منه عامل ضغط، وأسلوبًا آخر من أساليبها، للحيلولة بين المسلمين والهجرة.
فلما أراد صهيب رضي الله عنه الهجرة، قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني قد جعلت لكم مالي. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: (ربح صهيب، ربح صهيب)
لقد حاولت قيادة قريش أن تثني صهيبًا رضي الله عنه عن الهجرة، مهددة إياه بتجريد من ماله إذا عزم على الهجرة، فوضعوه بين خيارين: التجريد من المال أو ترك الهجرة إذا أحب أن يبقي على ماله عنده، وإلا فلا يمكنه أن يهاجر بماله ونفسه، ولكن الإيمان جعل صهيبًا رضي الله عنه يأخذ بالخيار الأول، فقدم لهم المال طائعًا مقابل أن يخلوا سبيله، ولهذا استطاع أن يهاجر ويلحق برسول الله صلى الله عليه و سلم في المدينة.
ثالثًا: أسلوب الحبس:
لجأت قريش إلى الحبس، كأسلوب لمنع الهجرة، فكل من تقبض عليه وهو يحاول الهجرة، كانت تقوم بحبسه داخل أحد البيوت، مع وضع يديه ورجليه في القيد، وتفرض عليه رقابة وحراسة مشددة، حتى لا يتمكن من الهرب، وأحيانًا يكون الحبس داخل حائط بدون سقف، كما فعل مع عياش وهشام بن العاص، رضي الله عنهما، حيث كانا محبوسين في بيت لا سقف له. وذلك زيادة في التعذيب، إذ يضاف إلى وحشة الحبس حرارة الشمس، وسط بيئة جبلية شديدة الحرارة مثل مكة.
فقيادة قريش تريد بذلك تحقيق هدفين: أولهما منع المحبوسين من الهجرة، والآخر أن يكون هذا الحبس درسًا وعظة لكل من يحاول الهجرة من أولئك الذين يفكرون بها ممن بقي من المسلمين بمكة، ولكن لم يمنع هذا الأسلوب المسلمين من الخروج إلى المدينة المنورة، فقد كان بعض المسلمين محبوسين في مكة مثل عياش وهشام رضي الله عنهما، ولكنهم تمكنوا من الخروج واستقروا بالمدينة.
رابعًا: أسلوب الاختطاف:
لم تكتف قيادة قريش بالمسلمين داخل مكة، لمنعهم من الهجرة، بل تعدت ذلك إلى محاولة إرجاع من دخل المدينة مهاجرًا، فقامت بتنفيذ عملية اختطاف أحد المهاجرين، ولقد نجحت هذه المحاولة، وتم اختطاف المهاجر من المدينة وأعيد إلى مكة.
يقول عمر رضي الله عنه: (... فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن ربيعة وكان ابن عمهما، وأخاهما لأمهما، حتى قَدِمَا علينا المدينة، ورسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة، فكلمـاه وقالا: إن أُمَّـكَ قد نـذرت أن لا يمسَّ رأسَها مِشْطٌ حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرقّ لها. فقلت له: يا عياش! إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلَّت. قال: فقال: أبرّ قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه. قال: فقلتُ: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما. قال: فأبى عليَّ إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك، قلت له: أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها إن رابك من القوم ريب فانج عليها. فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطـريق قـال له أبو جهـل: يا ابن أخي! والله لقد استغلظتُ بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى. قال: فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما اسْتَوَوْا بالأرض عَدَوَا عليه فأوثقاه وربطاه... ثم دخلا به مكة نهارًا موثَّقًا، ثم قالا: يا أهل مكة! هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا).
هذه الحادثة تظهر مدى دقة الخطة التي نفذت بها قريش عملية الاختطاف، حيث قام بهذه المهمة أبو جهل، والحارث، وهما إخوة عياش من أمه، الأمر الذي جعل عياشًا يطمئن لهما، وبخاصة، إذا كان الأمر يتعلق بأمه، فاختلق أبو جهل هذه الحيلة لعلمه بمدى شفقة ورحمة عياش بأمه، والذي ظهر جليًا عندما أظهر موافقته على العودة معهم.. كما تظهر الحادثة الحس الأمني العالي الذي كان يتمتع به عمر رضي الله عنه، حين صدقت فراسته في أمر الاختطاف، وحين أعطى عياشًا رضي الله عنه ناقته النجيبة.
ومن جوانب إحكام الخطة، تلك الحيلة التي استطاع بها أبو جهل، أن يُنزل عياشًا رضي الله من الناقة السريعة، فجرده من أخطر سلاح يملكه، وبدونه بات صيدًا سهلاً لأبي جهل والحارث، الأمر الذي مكنهم من تقييده، والرجوع به إلى مكة.. تظهر هذه الحيلة مدى ذكاء وحسن تصرف أبي جهل، حيث استولى على سلاح عياش رضي الله عنه قبل أن يأسره، فحتى لـو حـدث وتخلص عيـاش من القيـد، لن يجد الوسيلة التي تمكنه من الهرب.
وفي قول أبي جهل: (يا أهل مكة! فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا)، تحريض لقريش، كي تقوم بعمليات اختطاف مماثلة لأقاربهم بالمدينة. كما أنه محاولة لغرس نوع من اليأس والقنوط في قلوب المسلمين الذين لم يهاجروا بعد، حين يرون عياشًا الذي هاجر إلى المدينة قد رجع مقيدًا إلى مكة، فربما أثر ذلك في نفوس بعض الذين يودون الهجرة، فيجعلهم يعيدون التفكير في أمرهم.
ولم يترك المسلمون أمر اختطاف عياش، فقد ندب الرسول صلى الله عليه و سلم أحد أصحابه للقيام بمحاولة إطلاق سراح عياش وهشام رضي الله عنهما، وفعلاً استعد للمهمة ورتب لها ما يحقق نجاحها، وجاء إلى مكة، واستطاع بكل اقتدار وذكاء أن يصل إلى البيت الذي حُبسا فيه، وأطلق سراحهما ورجع بهما إلى المدينة المنورة.
ولكن بالرغم من هذه الأساليب القاسية والمتنوعة، التي استخدمتها قريش، تمكن المسلمون من الهجرة إلى المدينة، فلم يقف التفريق بين المرء وزوجه وولده حائلاً، ولا التجريد من المال والحبس مانعًا، ولا الاختطاف حاجزًا بين المسلمين وهجرتهم إلى المدينة.
المطلب الثاني: فشل خطة قريش لاغتيال قائد الدعوة
بعد أن مُنيت قريش بالفشل في منع الصحابة رضي الله عنهم من الهجرة إلى المدينة المنورة، على الرغم من كل الأساليب آنفة الذكر، بعد هذا الفشل، أدركت قريش خطورة الأمر، فأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قد خرجوا، وساقوا الذراري والأطفال إلى الأوس والخزرج، حيث تجسد أمامهم الخطر الحقيقي الذي يهدد كيانهم الاجتماعي، والاقتصادي، فهم يعلمون قوة تأثير شخصية الرسول صلى الله عليه و سلم، مع كمال القيادة والرشاد، ويعلمون عزيمة أصحابه واستقامتهم، ومدى استعدادهم للفداء والتضحية في سبيل عقيدتهم، ويعلمون كذلك ما في الأوس والخزرج من قوة ومِنعة، وما في عقلاء هاتين القبيلتين من عواطف السلم، والصلح، والتداعي إلى نبذ الأحقاد فيما بينهم، بعد أن ذاقوا مرارة الحرب الأهلية طيلة أعوام من الدهر.
كما أنهم كانوا يدركون ما للمدينة من الأهمية من حيث الموقع الاستراتيجي لتجارتهم التي تمر بسـاحـل البحر الأحمـر إلى الشـام، ولا ريب أنها كانت تحتاج إلى الأمن والاستقرار طوال الطريق.
فهذا الموقف البالغ الحساسية والخطورة، كان يتطلب من قيادة قريش أن تحاول فعل شيء تجاهه، فصاروا يبحثون عن أنجع الوسائل لدفع هذا الخطر الذي مبعثه الوحيـد حامـل لواء الدعـوة، النبي صلى الله عليه و سلم، لذا اجتمعت قيادة قريش في دار الندوة للتشاور في أمر القضاء على قائد الدعوة.. ولما جاءوا إلى دار الندوة، اعترضهم إبليس في هيئة شيخ حكيم على الباب، فقالوا: مَن الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمع بالذي اتَّعَدتُّم له فحضر معكـم، ليسمـع ما تقولـون، وعسـى ألا يُعْدِمكم منه رأيًا ونُصحًا، قالوا: أجل فادخل، فدخل معهم.
طُرحت عدة آراء واقتراحات، أثناء ذلك الاجتماع، منها إخراج الرسول صلى الله عليه و سلم من مكة، ولكن هذا الرأي أُبعد بحجة أنه سوف يجد مأوى، ثم يعود لغزو مكة. فطُرح رأي آخر يقول بحبس المصطفى صلى الله عليه و سلم، ولكن هذا الرأي استبعد أيضًا بحجة أن أصحابه سيفكون قيده.
فكان الرأي، الثالث الذي وافق عليه الحاضرون وعلى رأسهم إبليس، ولم يعترض عليه أحد، وحظي بالإجماع.. يتلخص هذا الرأي في أن يؤخذ من كل قبيلة فتى شابًا جلدًا نسيبًا، وسيطًا في قومه، فيعطى كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلونه، فيتفرق دمه في القبائل جميعًا، فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب جميع القبائل فيرضوا بالدية، وقد حددوا مكان وزمان تنفيذ العملية، وقد رافق مؤامرتهم هذه اتخاذ بعض الإجراءات الأمنية، نوجزها فيما يلي:
ـ التكتم التام على الاجتماع:
لقد تكتمت قيادة قريش تكتمًا تامًا على اجتماعها في دار الندوة، فلم يعلم أحد في المؤمنين بأمره، ولا حتى أولئك الموالين للنبي صلى الله عليه و سلم من كفار قريش، فلم يُدع له أحد، وبخاصة عمه العباس، وقد نجحوا في أمر الكتمان هذا، بدليل أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يعلم به إلا عن طريق الوحي.
ـ التوقيت المناسب لتنفيذ العملية:
وهو من أبرز الإجراءات الأمنية التي اتخذتها قريش لضمان نجاح تنفيذ هذه المؤامرة، فقد كان ميعاد التنفيذ بعد منتصف الليـل، ولا يخفى ما في ذلك من جوانب أمنية، فالليل غطاء أمني لإخفاء أفراد المهمة، هذا إلى جانب أن في مثل هذا الوقت تقل -وربما تنعدم- الحركة، مما يجعل أمر اكتشاف المؤامرة ضعيفًا، كما أن في مثل هذا الوقت يكون السواد الأعظم من الناس قد استغرقوا في النوم، فلا يشعرون بحركة أفراد المؤامرة، مما يسهل عليهم تنفيذ مهمتهم بنجاح.
ـ إحكـام الخطـة:
لقد كانت الخطة محكمة بحيث لم تكن فيها ثغرة يمكن أن تفسدها، وهذا الإحكام يؤكد أن النقاش في دار الندوة كان مستفيضًا، بدليل أنهم رفضوا فكرة الحبس، والقيد، والإخراج، لما فيها من ثغرات.. رفضوا فكرة الحبس، لأنهم أقنعوا أنفسهم بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يمكنهم أن يطلقوا سراحه، واستبعدوا فكرة إخراجه لخوفهم من قوة تأثيره صلى الله عليه و سلم على الآخرين. واختيارهم للرأي الثالث القائل بالقتل الجماعي، يدل أيضًا على إحكام خطتهم، حيث إن القضاء على قائد الدعوة قضاء على الدعوة، هذا إلى جانب استحالة محاربة بني عبد مناف لقومهم جميعًا، وبالتالي يتفادى المشركون الحرب معهم، وتنحصر المشكلة في دفع الدية، وهو أمر ميسور لدى المتآمرين.
ومما يدل على إحكام الخطة أيضًا، إسناد هذه المهمة لأشخاص تنطبق عليهم مواصفات خاصة، بأن يكون الفرد منهم شابًا جلدًا، نسيبًا وسيطًا في قومه، يتقلد سيفًا صارمًا، ولا ريب أن أشخاصًا بهذه المواصفات، يجعلون نسبة نجاح العملية عالية.
ـ الترتيبات الوقائية، وتدخل العناية الإلهية:
ولكن على الرغم من كل هذه الاحتياطات الأمنية العالية، فقد وفَّق الله عز وجل رسوله صلى الله عليه و سلم لإفشال خطة قريش، وتفويت فرصة أن ينالوا شرًا بالرسول صلى الله عليه و سلم، وذلك لأن الرسول صلى الله عليه و سلم يمثل قمة الإيمان والتقوى والورع، إلى جانب استنفاده الأسباب الممكنة.. وحسمت العناية الإلهية الأمر. ولا شك أن البُعد الأمني للإيمان ذو أثر بالغ في تحقيق النتائج، فينبغي على المسلمين أن يضعوا ذلك نصب أعينهم، حيث يتنزل المدد من الله الذي تستمد منه الجماعة المسلمة عدتها وعتادها، وهذا ما حدث عندما أحكمت قريش خطتها، وحافظت على سرية اجتماعها، وخفيت تلك المعلومة المهمة عن النبي صلى الله عليه و سلم، فجاء الوحي يخبره بتلك المؤامرة. وهذا ما يميز المسلم عن سواه.
ولكن بالطبع تدخُّل العناية الإلهية يأتي بعد الأخذ بالأسباب، وإعداد العدة، وعدم التواكل، فإذا تركنا الأخذ بالأسبـاب، ولـم نُعـد ما نستطيع من قوة، وأصبحنا ننتظر تدخُّل العنايـة الإلهيـة، فهـذا مما يخالف منهجنا الإسلامي، الذي يأمر بإعداد العدة بكل ما نستطيع من معدات وآليات، لأن الاستجابة لأمر الله بإعداد العدة، سبيل للعناية الإلهية وحصول النصر.
المبحث الثاني: جوانب الحذر والحيطة في الإعداد للهجرة
صاحب الإعداد للهجرة، اتخاذ عدة جوانب من الحذر والحيطة، بعضها قام به رسول الله صلى الله عليه و سلم وبعضها الآخر قام به سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، وسوف نقف في هذا المبحث على تلك الجوانب بعون الله.
المطلب الأول: جوانب من الحذر والحيطة فيما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم
لقد أولى النبي صلى الله عليه و سلم أمر الهجرة اهتمامًا بالغًا، فما أن جاءه الوحي بأمر الهجرة حتى باشر في تنفيذه بدقة، وإحكام، وتأمين، وهذا يظهر من خلال استعراضنا للجوانب التي صاحبت مراحل إعداده صلى الله عليه و سلم لهجرته، والتي من أبرزها ما يأتي:
ـ اختيار الوقت المناسب لإيصال المعلومة:
عندما جاء الأمر لرسول الله صلى الله عليه و سلم بالهجرة، وأراد أن يخبر صديقه الوفي أبا بكر رضي الله عنه ليصحبه معه، اختار لذلك وقت الظهيرة، وهي ساعة لم يكن قد اعتاد المجيء فيها إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه. قالت عائشة رضي الله عنها: (بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها).
ففي مثل هذا الوقت تقل الحركة، ويندر الرقيب، وبالتالي يضمن الرسول صلى الله عليه و سلم أن من الصعوبة على قيادة قريش وعيونها أن ترصده، مما يجعل أمر اللقاء أقرب إلى الخفاء، ومعلوم أن هذا التحرك كان بعد أن أخبر جبريل عليه السلام سيدنا محمدًا صلى الله عليه و سلم بمؤامرة قريش لقتله، وهذا مما يطرح احتمال أن تكون قيادة قريش تراقب عن كثب تحركات المصطفى صلى الله عليه و سلم.. وحتى يفوِّت الرسول صلى الله عليه و سلم الفرصة على عيون قريش، جاء في مثل هذا الوقت الذي لم يعتد الحضور فيه لبيت أبي بكر رضي الله عنه، إذ كان يأتي طرفي النهار.. فإذا افترضنا أن هناك من يراقب منزل أبي بكر، فإنه غالبًا يراقبه في هذين الوقتين دون سواهما.
ـ إخفاء الشخصية أثناء تنفيذ المهمة:
من الطبيعي أن يخفي الإنسان معالم شخصيته أثناء تنفيذ المهمات الصعبة والحساسة، حتى لا يثير الريبة والشك لدى أعدائه، وبخاصة إذا كان الصراع بينهما محتدمًا، لأنه متى ما علم الطرف الآخر بتحركات خصمه، راقبه وتابعه، حتى يتبين له ماذا ينوي فعله، لذا جاء الرسول صلى الله عليه و سلم متلثمًا لبيت أبي بكر رضي الله عنه، فالتلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم وجه الـمُتَلَثِّم، وبالتالي التعرف عليه، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه و سلم حتى يخفي شخصيته عن زعماء قريش.
ـ التأكد والتثبت قبل النطق بالمعلومة:
حينما دخل الرسول صلى الله عليه و سلم بيت أبي بكر رضي الله عنه، وقبل أن يخبره خبره، طلب منه أن يخرج مَن معه من البيت، فقال: (أَخْرِجْ عني من عندك)، وهذا احتياط أمني ضروري، لخطورة الأمر، فأي تسرب لهذه المعلومة، ستكون عواقبه وخيمة على الدعوة وقائدها، لأن أمر الهجرة مايزال في طوره الأول، فعندما تأكد النبي صلى الله عليه و سلم من خلو بيت أبي بكر رضي الله عنه من العيون، أخبر صاحبه بأمر الهجرة.
وثمة نقطة هامة تستوجب الوقوف عندها، وهي أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يعط سيدنا أبا بكر المعلومة كاملة أمام أسرته، فأخبره بالهجرة فقط، دون أن يذكر له مكان الهجرة بدليل أن أسماء رضي الله عنها عندما سمعت الصوت القائل:
جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين حلا خيمتي أم معبد
قالت (أسماء): (فلما سمعنا قوله، عرفنا أن وجهه كان إلى المدينة المنورة).
وهذا شيء ضروري يجب الانتباه له في تعامل الداعية مع أسرته، بحيث يكون هذا التعامل في ضوء إمكانات كل فرد منها والثقة به، ومعرفة مدى فائدة إيصال المعلومة إليه أو منعها عنه.
لذا لم يعط الرسول صلى الله عليه و سلم المعلومة كاملة أمام أسماء وعائشة رضي الله عنهما، ليتأسى به مَن بعده من الدعاة، فالأعداء غالبًا ما يلجأون إلى أسر الدعاة للحصول على المعلومة منهم، سواء كان ذلك عن طريق الترغيب أو الترهيب، وهذا ما حدث من قريش، قالت أسماء رضي الله عنها: (أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل، فوقفوا على باب أبي بكر، فقالوا: أين أبوك؟ فقلت: لا أدري، فرفع أبو جهل يده فلطم خدي لطمةً طرح قُرْطي).
ـ التمويه في مبيت علي رضي الله عنه في فراشه صلى الله عليه و سلم:
قال النبي صلى الله عليه و سلم لعلي بن أبي طالب: (نم في فراشي، وتسج ببردي هذا، الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم)، وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينام في برده ذلك إذا نام.
لقد كان تصرف النبي صلى الله عليه و سلم بتوجيه عليّ للنوم في فراشه، وتسجيه ببرده، تصرفًا سليمًا حكيمًا، إذ في ذلك تمويه تقتضيه ظروف وملابسات الموقف، وقد ظهرت حكمة وحنكة ذلك التصرف حينما قال الرجل الذي رأى سيدنا محمدًا صلى الله عليه و سلم خارجًا من بيته، قال لأفراد المهمة: (خيّبكم الله، قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك رجلاً إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، أما ترون ما بكم؟ فوضع كل رجل منهم يده على رأسه، فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليًا على الفراش، متسجيًا ببرد رسول الله صلى الله عليه و سلم، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائمًا عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا).
هذا التمويه، فوت على قريش فرصة إدراك رسول الله صلى الله عليه و سلم.. وهو مع حماية ربه له، إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يأخذ بأسباب الاحتياط البشري الذي يملكه.. وما أحوج المسلمين إلى إدراك واجبهم في الإعداد لمواجهة العدو، رغم اعتمادهم الأول والأخير على الله تعالى، وألا يعتادوا إحالة ضعفهم، وتقصيرهم على القدر، متوجعين على تأخر نصر الله تعالى.
ـ اختيار الدليل:
كان من مستلزمات الإعداد للهجرة، الخبرة الكافية بالطريق من حيث القصر والطول، والبعد عن المسالك المعروفة والمألوفة، حتى يكون الركب بعيدًا عن العيون، لذا استأجر الرسول صلى الله عليه و سلم دليلاً ماهرًا عالمًا بآمن وأقصر الطرق بين مكة والمدينة المنورة، وهو عبد الله بن أريقط، وكان على دين قريش، وذلك حتى لا يضلا الطريق، أو يسلكا طريقًا معروفًا، مما يجعلهما عُرضة لمطاردات قريش.
ولنا وقفة مع عبد الله بن أريقط المشرك، الذي قاد ركب الإيمان إلى المدينة.. فالعبرة هنا في التعامل مع المشركين، وتسخيرهم لخدمة الدعوة بمقدار ما أمن جانبهم، وعليه فيمكن للمسلم التعامل مع غيره وفق مستوى عدائه لهذا الدين.
إن المنطق الظاهري يقتضي عدم اختيار عبد الله بن أُريقط دليلاً لأخطر هجرة في تأريخ الدعوة، لأنه مشرك، ولكن تقدير الرسول صلى الله عليه و سلم لشخصه بأنه أمين وصادق، لا يمكن أن يبوح بهذا السر، جعله يسند له تلك المهمة، هذا ما حدث فعلاً، فلم يخبر قريشًا بالأمر، على الرغم من الإغراء المادي الضخم، الذي قدمته قريش لمن يدل على محمد صلى الله عليه و سلم.. وهذا دليل على نقاء معدن الرجل، وصِدْقِ فِرَاسة الرسول صلى الله عليه و سلم.
ـ كتم خبر الهجرة:
من الضروري جدًا لإنجاح أي مهمة حساسة كالهجرة، أن يكون أمرها طي الكتمان، لأن ذيوع خبرها يؤدي إلى اكتشافها، وبالتالي فشلها، وكلما كان الأمر محصورًا في عدد قليل جدًا، كلما كانت فرصة تسربه واكتشافه ضئيلة ونادرة.
لذا نجد أن النبي صلى الله عليه و سلم قد كتم أمر الهجرة عن أصحابه إلا عن قلة قليلة، قال ابن إسحاق: (ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله صلى الله عليه و سلم حين خرج إلا عليّ وأبو بكر وآل أبي بكر)، ونلاحظ أن هذه القلة كانت لها أدوار معينة تقوم بها، ولولا ذلك لما أخبرهم الرسول صلى الله عليه و سلم بأمر الهجرة.
المطلب الثاني: جوانب الحيطة والأمن فيـما قـام به أبو بكـر رضي الله عنـه
لقد قام أبو بكر رضي الله عنه بدور بارز وكبير في الهجرة، وشارك رسول الله صلى الله عليه و سلم في حسن الإعداد لها، وقد صاحب هذا الإعداد عدة جوانب حذرة ويقظة، كان من أبرزها:
ـ تهيئة وسيلة الهجرة:
فلا ريب أن رحلة طويلة كرحلة الهجرة من مكة إلى المدينة تحتاج إلى وسيلة معدة ومهيئة، تناسب طبيعة الأرض والمناخ، وهذا ما فعله سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، فحين علم بأن النبي صلى الله عليه و سلم سوف يهاجر حبس نفسه على رسول الله صلى الله عليه و سلم لصحبته، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر.
فالإبل تُعد أنسب وسيلة سفر في الصحراء إبان ذلك العصر. فهي حيوان صحراوي، يتحمل طبيعة الصحراء القاسية بماله من صبر وقوة تحمل، وذلك لما أودعـه الله فيهـا من خصـائص، فالجمـل يصبـر أيامًا لا يشرب، وهذا ضروري جدًا للرحلة، لأنها تمر عبر طريق غير مأهولة، يندر فيها الماء، كما أن السير في رمال الصحراء لا يناسبها إلا خف البعير، لأنها مسطحة لا تغوص في الرمال، فتعوق بذلك سرعة الحركة، بل تثبت على السطح، وتزيد من سرعة الحركة، الأمر الذي تتطلبه الرحلة.
كما أن طريقًا مهجورًا كطريق الهجرة، ورحلة طويلة كهذه، تحتاج إلى نوع من الجمال يمتـاز بالقـوة، ولأجـل ذلك علفهـا سيدنـا أبو بكر رضي الله عنه ورق السمر، ولمدة أربعة أشهر، وهو غذاء ممتاز للإبل يمدها بالطاقة الكافية، لتحمل السفر لمسافات طويلة دون أن يصيبها الجهد.
لقد أعد أبو بكر للأمر عدته، وفي ذلك تنبيه وتعليم للمسلمين، على امتداد الزمان، للأخذ بالأسباب، والتفكير والتدبير المناسب لكل حالة، فيعدون لكل أمر ما يناسبه من التخطيط، سواء أكان ذلك مما يتصل بالزمان أو المكان، أو كليهما.
ـ تموين الهجرة:
هذه الرحلة الطويلة في شِعاب مكة وصحراء المدينة، تحتاج إلى تأمين الزاد، أثناء الاختباء بالغار، وأثناء الرحلة إلى المدينة، وتلك مهمة اضطلع بها أبو بكر وأهل بيته رضي الله عنهم.. قالت عائشة رضي الله عنها: (فجهزناهما أحث الجهاز، ووضعنا لهما سفرة في جراب، فقطعتْ أسماء بنت أبي بكر من نِطَاقِها فأوكأت به الجراب). قال ابن إسحاق: وكانت أسماء تأتيهما من الطعام، إذا أمست، بما يصلحهما.
ولا يخفى أهمية جانب تأمين الزاد، فعدم تأمينه يؤدي إلى الجوع الذي قد يفضي إلى الهلاك، كما أن الرحلة تحتاج إلى قوة تحمل وصبر، ولياقة عالية، وهذا ما لا يتحقق مع الجوع، كما أن عدم تأمين الزاد يجعلهم يلتمسونه أثناء الطريق، الأمر الذي يؤخر سيرهم، أو قد يعرضهم لخطر اكتشاف أمرهم.
ـ تسخير الأسرة لأمر الهجرة:
رحلة كهذه تحتاج لأعوان وعيون، حتى تتم بصورة محكمة ودقيقة، وهذا يتطلب التأني والحيطة في اختيار أمثال هؤلاء، فأي إخفاق في اختيارهم، يُعد إخفاقًا في الأمر كله.. ونسبة لمعرفته التامة بأهل بيته، وقع اختيار أبي بكر رضي الله عنه، على أفراد أسرته، للقيام بهذه الأدوار المتنوعة، من إعداد الطعام، وإخفاء الأثر، ونقل أخبار العدو أولاً بأول، فباتت أسرة أبي بكر كلها تعمل من أجل إنجاح الخطة المرسومة للهجرة، فقام كل فرد فيها بأداء الدور المنوط به خير قيام.
المبحث الثالث: من الدار إلى الغار
المطلب الأول: من الدار حتى دخول الغار
كانت بداية الهجرة من بيت أبي بكر رضي الله عنه، ومن ثم التوجه إلى الغار، ومنذ البداية يظهر لمن يتتبع وقائع الهجرة الاحتياط الأمني والتخطيط الدقيق والتنفيذ المتقن، مما يجعل هذه المرحلة من الهجرة تنطوي على عدة جوانب أمنية، من بينها:
أولاً: التوقيت المناسب للخروج:
غادر رسول الله صلى الله عليه و سلم بيته في ليلة سبع وعشرين من شهر صفر، وأتى دار رفيقه أبي بكر رضي الله عنه، ثم غادراها من باب خلفي، ليخرجا من مكة على عجل، وقبل أن يطلع الفجر، وهذا مما يشير إلى التخطيط الدقيق واختيار الوقت المناسب.. فالليل كما هو معلوم ستار آمن، يمكن التحرك فيه بكثير من الاطمئنان، مما يقلل من احتمالات رؤيتهما. هذا إلى جانب أن قيادة قريش كانت في هذا الوقت متجمعة حول بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم معتقدة أن النبي صلى الله عليه و سلم بداخله، فكل تفكيرها وتدبيرها، كان مركزًا على هذا المكان، دون سواه، مما سهل مهمة الخروج لركب الهجرة في مثل هذا الوقت دون أن تعترضه عيون قريش، التي باتت ترقب سيدنا عليًا رضي الله عنه، ظنًا منها أنه النبي صلى الله عليه و سلم.
وكون هذا التحرك تم قبل الفجر، ربما كان على تقدير أن قريشًا لن تكشف حقيقة الأمر إلا بعد طلوع الفجر، بعد قيام عليّ رضي الله عنه عن فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم، وهذا ما حدث فعلاً. يقول ابن إسحاق: (فلم يبرحوا حتى أصبحوا، فقام علي رضي الله عنه عن الفراش)، وبالتالي تكون الفرصة قد فاتت على قريش، وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم وصاحبه قد وصلا إلى الغار بسلام.
أما خروجهم من الباب الخلفي، فهو من باب الاحتياط إذ هناك احتمال أن يكون بيت أبي بكر رضي الله عنه مراقبًا، وهو احتمال كبير للعلاقة الحميمة التي كانت تربط أبا بكر بالنبي صلى الله عليه و سلم، فإذا كانت المراقبة قائمة من بيت مجاور أو من مكان قريب، فستكون لباب البيت بالذات، يُرصد من خلاله الداخلون والخارجون.. وفي الخروج من مخرج سري، بعيد عن المراقبة، مراعاة للمحافظة الدائمة على السرية، ووضع الاحتمالات الكثيرة احتياطًا لتخطيط العدو ومراقبته.
ثانيًا: الخروج إلى الغار سيرًا على الأقدام:
لقد خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم وصاحبه أبو بكر من بيت الصديق سيرًا على الأقدام، حتى دخلا الغار، فمشى رسول الله صلى الله عليه و سلم على أطراف أصابعه حتى حفيت رجلاه، فلما رآها أبو بكر أنها قد حفيت حمله على كاهله، وجعل يشتد به، حتى أتى به الغار فأنزله.
وفي ذلك اعتبارات أمنية ظاهرة، فسيرهم على الأقدام يجعل أثرهم أقل وضوحًا مما لو كانا راكبيْن، إضافة إلى أن الركوب على الدواب في مثل هذا الوقت من الليل ملفت للنظر، وربما تنبهت قيادة قريش للأمر، فتفسد الخطة، كما أن حركة الرواحل في الغالب يصدر عنها صوت، مما يجعل الركب عرضة لإثارة فضول قريش فتسأل الركب، أو تستوقفـه لتستوضـح أمـره، بعكـس السيـر على الأقـدام فلا يحدث صوتًا، وبخاصة إذا كان السير على أطراف الأصابع، كما كان يسير الرسول صلى الله عليه و سلم، وهذا السير يزيد من فرص نجاح المهمة.
ثالثًا: التمويه في الخروج إلى الغار:
يقع غار (ثور) جنوبي مكة المكرمة، بينما يقع الطريق المؤدي إلى المدينة شمال مكة المكرمة، وهنا تبدو دقة التخطيط، والاحتياط الأمني. قال المباركفوري: (ولما كان النبي صلى الله عليه و سلم يعلم أن قريشًا ستجدّ في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيس المتجه شمالاً، فقد سلك الطريق الذي يضاده تمامًا، وهو الطريق الواقع جنوبي مكة، والمتجه نحو اليمن، سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ جبلاً يعرف بجبل ثور).
المطلب الثاني: الاحتياطات الأمنية أثناء الإقامة بالغار
لقد تخللت إقامة النبي صلى الله عليه و سلم وصاحبه في الغار بعض الاحتياطات الأمنية، سنحاول تناول أهمها في هذا المطلب.
أولاً: تدخل العناية الإلهية:
على الرغم من كل الجهد البشري في التمويه والاختفاء والسرية، استطاعت قيادة قريش أن تصل إلى مكان الغار، سواء أكان ذلك عن طريق تتبع الأثر، أو المسح الشامل لجبال مكة بحثًا عن النبي صلى الله عليه و سلم وصاحبه، وكانت قريش قاب قوسين أو أدنى من بغيتها، حتى قال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: (يا نبي الله! لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا).
وهنا تدخلت العناية الإلهية، فرأت قريش على باب الغار نسج عنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فرجعت قريش عن الغار.
ويمكن أن نلمح من هذه الحادثة عدة أمور، منها:
ـ أنه حين يبلغ الجهد البشري مداه المطلوب، وحين تستنفد الطاقة البشرية، فإن الله تعالى يرحم عبده المؤمن، ويحفظه من كيد الأعداء.
ثانيًا: التجسس ورصد تحركات قيادة قريش:
كلما كانت القيادة أعلم بواقع العدو، وأدرى بأسراره، ولها في صفوفه من ينقل لها تخطيطهم، كلما كان ذلك أنجح لها في تنفيذ خططها ومخططاتها.. لذا أمر سيدنا أبو كر رضي الله عنه ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى، بما يكون في ذلك اليوم من الخبر.. وقد قام عبد الله بهذا الدور خير قيام، يقول ابن حبان: (...يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح بمكة مع قريش كبائت بها، فلا يسمع أمرًا يُكاد به، إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام).
تتضح من النص عدة أمور لها أهميتها هنا:
ـ الصفات التي يمتاز بها عبد الله، فهو ثقف، أي حاذق فَطِن، ولقن، أي سريع الفهم، وهذه من السمات المطلوب توفرها فيمَن يقوم بمثل هذه المهمة.. فالذكاء يساعده على حسن التصرف حيال المواقف الحرجة، التي قد تصادفه إبان القيام بمهمته، كما يساعده في استخدام الوسيلة المثلى في الحصول على المعلومة دون زيادة أو نقص، مما يجعل المعلومة التي يأتي بها تمتاز بقدر كبير من الصحة.
ـ ذهابه إليهم ليلاً سرًا، وعودته عند السحر، يبعده عن خطر مراقبة قيادة قريش، لأن الظلام كما هو معلوم ساتر مناسب لمن يقوم بمثل هذه المهمة الحساسة، فدخول مكة سحرًا، يبعد عنه شبهة الاتصال بالنبي صلى الله عليه و سلم، فيصبح وكأنه بائت بمكة لا بالغار، وهذا قمة في الحيطة والحذر ودقة التخطيط، والمعلومات التي كان يأتي بها تجعل الرسول صلى الله عليه و سلموصاحبه على دراية تامة بما تفعله وستفعله قريش، الأمر الذي يجعل تحرك الركب من الغار مبنيًا على الحقائق الصحيحة لا على الظن والحدس.
ثالثـًا: إعفـاء الأثـر:
لابد أن مجيء وذهاب عبد الله بن أبي بكر، سيخلف وراءه آثار أقدامه، الأمر الذي ربما قاد قريشًا إلى مكان ركب الهجرة، وبخاصة أن أسماء كانت هي الأخرى تأتي يوميًا إلى الغار لتحضير الطعام، وحتى يستبعد هذا الاحتمال كان عامر بن فُهيرة مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما يتبع أثرهما بالغنم كي يعفي الأثر، ونلاحظ أن إزالة الأثر عن طريق الغنم تُعد أنسب وسيلة، لأن آثار الغنم في تلك الجبال، أمر مألوف لقريش، فلا يُثير شكًا ولا ريبة.
رابعًا: الإمداد بالتموين في الغار:
إن الإقامة في الغار ثلاثة أيام، تحتاج لزاد معد وجاهز، لأن أي محاولة لإشعال نار لإعداد