انفصام الشخصية أو “السيزوفرنيا”, هو أحد الأمراض النفسية * العصبية التي يؤدي تفاقمها الى نتائج خطيرة قد تصل الى حد إقدام المريض على الانتحار. علاج هذا المرض ممكن ومتوفر, المهم التنبه لأعراضه وعدم التردد في طلب مساعدة الطبيب المختص, وإحاطة المريض بأقصى درجات الاهتمام والرعاية.
في العام 1911 استعمل بلولر عبارة انفصام الشخصية للدلالة على هذا المرض الذي سبق أن سماه كربلي في أواخر القرن التاسع عشر “الخرف المبكّر”.
تستند التسمية الأخيرة الى واقع التطوّر الطبيعي للمرض, حيث أنه في غياب العلاج, يؤدي الى تراجع القدرات العقلية للمريض وصولاً الى “الخرف” في سن مبكرة نسبياً.
أما تسمية بلولر فجاءت انطلاقاً مما يعانيه المريض من تفكك في شخصيته واختلال في تفكيره وإدراكه وسلوكه...
ما هو انفصام الشخصية وما هي أسبابه وأعراضه وكيف يتم علاجه؟ أسئلة نجيب عنها في هذا التحقيق الذي يتضمن مقابلة مع الطبيبة النفسية جوسلين عازار, الى شهادتين أدلت بهما سيدتان في عائلة كل منهما مريض يعاني من انفصام الشخصية.
{أعراض المرض}
المريض المصاب بانفصام الشخصية هو شخص لا يتحمل ضغط الواقع ولا يستطيع مواجهة الحاضر, لذلك فهو ينسج عالماً خاصاً به يخترعه لنفسه ويعيش فيه منطوياً, عاجزاً عن التمييز بين الواقع والخيال. هذا ما أكدته الدكتورة جوسلين عازار التي أضافت أنّ لانفصام الشخصية أعراضاً عدة تظهر كالآتي:
● الهذيان: وهو الاعتقاد الخاطئ بوجود أمور غير موجودة فعلاً وغير واقعية. من الأمثلة على ذلك اعتقاد المريض بأن ثمة مؤامرة تحاك ضده أو بأنّ زوجته تخونه.
● الهلوسة: وهي الإحساس بواسطة واحدة أو أكثر من الحواس الخمس, بوجود أشياء غير موجودة أصلاً, مثل سماع أصوات, رؤية أشخاص أو أشباح... ويرافق ذلك عدم ترابط الأفكار وبالتالي عدم وضوح في الكلام الذي ينطق به المريض.
● اضطراب الحركة: ويتجلى من خلال زيادة الحركة الى درجة الهيجان, أو نقصانها الى درجة الجمود.
ولانفصام الشخصية عوارض أخرى هامة تتجلى في البرودة العاطفية, الإنطواء على النفس, فقدان المتعة, اللاإرادة واللامنطق.
الى ذلك ينزوي المريض وينغلق على ذاته, وتصبح تصرّفاته غريبة, فينقطع الحوار بينه وبين الآخرين ويبقى في عالمه الخاص لا يستطيع التأقلم مع الواقع, ويعاني من قلق عظيم قد يدفعه الى الانتحار.
{أسباب المرض وتطوّره}
دلت كل الدراسات والأبحاث على وجود عامل وراثي أكيد وراء هذا المرض النفسي المزمن, إضافة الى العوامل الأخرى الناتجة عن الظروف العائلية, التربوية, الاجتماعية والعاطفية...
يظهر مرض الفصام ابتداءً من أواخر مرحلة المراهقة, على أثر ضغط نفسي أو عاطفي أو اجتماعي... ويكون ظهوره إما في شكل مفاجئ من خلال أفكار هذيانية وهلوسات, وإما في شكل تدريجي, بحيث تصبح تصرفات الشخص غريبة, فينطوي على نفسه ويتراجع مستوى انتاجيته الدراسي أو المهني. الى ذلك تبدو على المريض مظاهر البرودة العاطفية واللامبالاة تجاه أفراد عائلته ومعارفه.
يعيش المصاب بالفصام في عالمه الخاص, عازلاً نفسه عن محيطه العائلي والاجتماعي, غير مدرك وآبه لما يحصل من حوله, يحادث نفسه والأصوات التي يخال أنه يسمعها, كما أنه يهمل نظافته الشخصية ويطلق العنان لأفكاره غير الواقعية أو تأملاته الروحية؛ ومع مرور الزمن تتراجع قدراته الفكرية.
وقد يتخلل هذا التطوّر الطبيعي نزعة المريض الى الإدمان بكل أنواعه.
أخيراً, قد يلجأ الشخص المريض الى الانتحار, في أي من مراحل مرضه, كي يتخلص من معاناته النفسية, خصوصاً إذا ترافقت الأعراض الذهانية مع القلق والاكتئاب.
{كيفية التصرف حيال المريض}
تختلف الاحتياطات حسب نوع الأعراض التي تظهر على المريض وتبعاً لدرجة تفاقم المرض.
فإذا كانت هذه الأعراض مقتصرة على القلق والتوتر, من المهم جداً الإحاطة بالمريض ورعايته وطمأنته من قبل العائلة أو الأشخاص المحيطين به, والتنبه الى أهمية عدم معاملته بسلبية ومخاصمته. ولكن عندما تكون العوارض متفاقمة وقوية, فإدخاله المستشفى على الفور يصبح أمراً ضرورياً, إذ يمكن أن يكون المريض مصدر خطر لنفسه وللمحيطين به.
وحول العلاج تقول الدكتورة عازار: انطلاقاً من واقع طبيعة مرض الفصام الوراثية, ومن استحالة شفائه نهائياً, فإن العلاج ينبغي أن يكون دائماً ومرفقاً بالرعاية المستمرة للمريض.
وتضيف: حين نتكلم عن وجود عامل وراثي في أي مرض, تكون الإضطرابات البيولوجية من صلب المعادلة المرضية, وبالتالي تكون الأفضلية للعلاج بالأدوية. وتجدر الإشارة الى أن المصاب بالفصام يكون غير مدرك لوضعه, وبالتالي فهو لن يطلب المعالجة من تلقاء نفسه. لذلك تقع مسؤولية علاجه على أهله, وفي حال غيابهم على محيطه.
والإحاطة بالمريض ضرورة قصوى, ويجب الإيحاء له بالثقة وبأننا لن نتخلى عنه. فردات الفعل السلبية تجاهه تشعره بالتخلي, ويصبح منطوياً وفي بعض الأحيان عدوانياً, إذاً الخطوة الأولى هي في إخراجه من عزلته.
اليوم, بفضل الأدوية الحديثة والفعّالة, أصبحت معالجة المريض ممكنة في منزله وضمن عائلته, إلا في الحالات التي يكون فيها هائجاً أو عدوانياً.
ومن أجل إعطاء العلاج فرصة نجاح أكبر, من المهم التوجه الى الطبيب المختص في أول مراحل المرض كما من المستحسن التعاون معه وذلك من خلال الإلتزام بإعطاء المريض دواءه بانتظام ومن دون انقطاع حتى لو تحسنت حالته كلياً, والا تعرض المريض للانتكاسة مع ما يرافق ذلك من مخاطر ومضاعفات.
كما أنه لا يجوز إعطاء المريض الدواء من دون علمه إذا كان يرفض تناوله.
وترى الدكتورة عازار أنه في بعض الأحيان يجب إعطاء المريض فكرة عن مرضه ليتجاوب مع العلاج. لكن في الحالات الصعبة وحين يرفض العلاج لا بد من اللجوء الى الحقن في العضل.
{شهادتان}
● الشهادة الأولى:
تقول سيدة يعاني زوجها من مرض انفصام الشخصية:
“ظهـر المرض عند زوجـي منذ نحو 5 سنوات. كان يقــول أن أحداً ما يريـد قتـله ويشعــر أيضاً بأنه غير مرغـوب فيه. حـاول الانتحار مرتين, على الأثـر أدخلناه المستشـفى. هنـاك لم يعد يعـرف أحـداً سواي, وأصبـح منطويـاً على نفـسه يخاف من الجمـيع ويرفـض تنـاول الطعـام والـدواء, فاعتــمد الأطـباء معالجـته بالحـقن”.
وتضيف السيدة: “قبل أن يتضح مرضه, كانت تظهر عليه عوارض عدّة كالتمتمة بكلام غير مفهوم والإشارات الغريبة التي يرسمها بيديه. الآن, لا يفكر إلا بأشياء وأمور تعنيه شخصياً, حتى ما يتعلق بالبيت والعائلة لا يهتم له.
أوصانا طبيبه بعدم الضغط عليه وبتأمين أجواء إيجابية له وإحاطته بالحب والرعاية, والمثابرة على العلاج وأخذ الدواء بشكل منتظم ومتواصل”. وتنهي أخيراً بالقول: “هو لا يستطيع أن يكون في عالمنا ولكن نحن يمكن أن نكون في عالمه...”.
● الشهادة الثانية:
قصة مراهقة ترويها والدتها قائلة:
“إبنتي في الخامسة عشرة, كانت تعاني من صعوبات دراسية, ظننّا أنها لا تقوم بالجهود اللازمة وتصرّفنا معها على هذا الأساس. في ما بعد, تفاقمت حالتها بحيث باتت تصرفاتها غريبة. وبدأت تهلوس وتعاني من القلق وتتفوه بكلام غير مفهوم.. عندها قررنا عرضها على الطبيب.
العلاج بالأدوية والحقن خفف من معاناتها وهي تتابع حياتها بشكل طبيعي وتواظب على العلاج النفسي الذي ساعدها لاستعادة ثقتها بنفسها والانخراط في المجتمع. كما أن الطبيب يساعدنا أيضاً على فهمها وكيفية وضعها في مناخ سليم يؤمن لها الطمأنينة والراحة”.