الشعر العربي عبر حنجرة «أم كلثوم»

الشعر العربي عبر حنجرة «أم كلثوم»
الحديث عن الشعر والشعراء له مذاق مميز وطعم خاص، لأنه يحمل كثيراً من الذكريات، باعتباره المصدر الرئيسي للمتعة الفكرية والذهنية والروحية والعاطفية، ليس في أدبنا العربي فقط، بل في كل آداب العالم المختلفة .. سواء كان هذا الشعر من الفصيح أو العامي، ولا شك أنه سوف يزداد مذاقه حلاوة حين نربطه بصوت “أم كلثوم” وبرحلتها الفنية الطويلة التي اقتربت من نصف قرن من الزمان، والتي يمر على رحيلها هذا العام ثلاثون عاماً، حيث توفيت في عام 1975م، إذ يرجع إليها الفضل الأكبر في ترديد الألسنة لأشعار كبار الشعراء سواء من القدامى أو من المحدثين، الأمر الذي ساهم في إنعاش حركة الشعر العربي، وجعل الناس حتى في الشوارع والطرقات وعلى المقاهي يحبونه ويحبون سماعه وترديده .. سواء بمناسبة أو بدون مناسبة! بل وجعل فريقاً يقبل على اقتناء دواوين هؤلاء الشعراء وقراءة أشعارهم سواء العاطفية أو الوطنية. بل وأكثر من ذلك، فقد ساهمت أم كلثوم في إنعاش ذاكرة الناس فيما يتعلق بهؤلاء الشعراء وسير حياتهم .. حتى من الشعراء القدامى الذين تزخر بهم كتب التراث، ودواوين الشعر!
لقد أخذت هذه الفنانة الكبيرة بيد أكثر من أربعين شاعراً مصرياً وعربياً ومن الدول الإسلامية، نحو الشهرة والمجد، خلال رحلتها الفنية التي امتدت لأكثر من 50 عاماً.
وبالرغم من وجود العشرات من هؤلاء الشعراء من المشاهير في حياتنا الأدبية، من الذين كتبوا قصائد وكلمات لأم كلثوم، أو من الذين اختارت لهم أم كلثوم كلمات وقصائد بعينها لنفس الغرض .. إلا أن هؤلاء الشعراء قد ازدادت شهرتهم حين تغنّت بكلماتهم سيدة الغناء العربي مصحوبة بالموسيقى والألحان .. ذلك من منطلق أن الشعر إذا ما خرج من الأوراق إلى الحناجر والأفواه يدوم أكثر، ويستمر في الوجدان والأفئدة، حتى ولو كان مكتوباً بماء الذهب ومصحوباً بالرسوم الملونة –كما يقول الناقد حنفي المحلاوي- فما بالنا لو انطلق هذا الشعر المكتوب من حنجرة وفم معجزة الغناء خلال القرن العشرين؟! ومصحوباً بأرق وأروع الألحان التي وضعها كبار الملحنين خلال فترات متباعدة من رحلة أم كلثوم الفنية؟!
مشاهير الشعراء.. من هم؟!

إننا لا ننكر وجود العشرات من هؤلاء الشعراء من الذين تغنت بكلماتهم سيدة الغناء العربي، وقد تبوأوأ مكانة عالية داخل الساحة الأدبية حتى من قبل أن تتغنى بكلماتهم أم كلثوم، من أمثال شوقي، وحافظ إبراهيم، وعلى الجارم، وآخرين .. ومع ذلك فقد كان لأم كلثوم ولصوتها ولألحان قصائدها فضل آخر على هؤلاء حين نقلت هذه الكلمات من الأوراق إلى الأفواه.
ومع كثرة ترديد الناس لهذه القصائد فى كل المناسبات سواء الدينية أو الوطنية أو غيرها، ازدادت مكانة هؤلاء الشعراء .. وظلت سيرة حياتهم نابضة وحيّة حتى بعد الرحيل.
والأمر فى هذا السياق لم يقتصر على شعراء العصر الحديث، بل شمل أيضاً شعراء من العصر العباسي وغيره من العصور المتقدمة، فما زلنا حتى يومنا هذا نردد كلمات شاعر كبير ظهر فى القرن الثالث الهجري وهو “أبو فراس الحمداني” الذي تغنت بكلماته أم كلثوم .. ورائعته قصيدة “أراك عصى الدمع”.
“شعراء العامية” عرفوا طريق الشهرة!

وأم كلثوم إلى جانب مساهمتها في الترويج للشعر الفصيح، لها دور آخر لا يقل أهمية عن دورها السابق خاصة في مجال شعر العامية، حيث لعبت دوراً أكبر مع طائفة من هؤلاء الذين أخذت بأيديهم نحو الشهرة والمجد، عندما روجت لأشعارهم .. حتى بات صوتها هو منتهى الطلب لكل شاعر أو زجال يريد الشهرة! ولولا صوتها الذهبي لظل معظم هؤلاء الشعراء، إما في دائرة النسيان أو في دائرة الظل! ولقد اكتفى هؤلاء الشعراء بما كتبوه لأم كلثوم، حتى إن معظمهم لم يفكر في إصدار ديوان واحد يسجل فيه ما كتبه سواء لأم كلثوم أو لغيرها.
سيدة القصيدة العربية!

إن سيدة الغناء العربي أم كلثوم تعتبر في طليعة الفنانين الذين ارتبطوا باللغة العربية الفصحى منذ صغرها - كما يقول الكاتب حنفي المحلاوي- هذا الارتباط بلا شك قواه وشد من أزره نشأتها الدينية الأولى في أحضان ريف مصر وطريقة تلقيها التعليم الديني في كُتاب القرية إلى جانب حضورها حلقات الذكر والإنشاد الديني وتلاوة القرآن الكريم الذي كان يجيده والدها الشيخ إبراهيم البلتاجى.
ليس هذا فقط .. بل ونستطيع أن نؤكد في السياق نفسه أن “أم كلثوم” في هذه الخصوصية تعتبر الفنانة غير المسبوقة –سواء في العصر الحديث أو في غيره من العصور– التي غنّت القصائد العربية بهذا الكم الكبير، مما جعلها مساهمة كبيرة في الترويج لهذا النوع من الأدب العربي الراقي. وكان اختيارها دائماً لقصائد كبار الشعراء العرب سواء من القدامى أو المعاصرين خير دليل على ذلك.
روائع الشعر العربى

وقد ظلت أم كلثوم على ولائها غير المسبوق للشعر الفصيح، إذ أخذت على عاتقها وبصوتها الترويج لتلك النوعية من القصائد العربية والأشعار المشهورة، ليس فقط داخل النطاق المحلي حيث يتواجد الشعراء المصريون، بل نجدها قد أفسحت مجالاً أوسع حين استعانت بالعشرات من شعراء الدول العربية .. بل والإسلامية كذلك.
“أبو فراس” و “الشريف الرضي” و“العباس بن الأحنف”

ولقد كان الشاعر العربي الكبير “أبو فراس الحمداني” من أوائل الشعراء العرب الذين تغنت بكلماتهم سيدة القصيدة العربية، حين قدمت له فى عام 1926م جزءاً من قصيدته المشهورة “أراك عصى الدمع”. ومن كثرة إعجاب أم كلثوم بهذه القصيدة، وبهذا الشاعر، فقد تغنّت بها أكثر من مرة وبأكثر من لحن!
كما كان لأم كلثوم في الوقت نفسه تجارب أخرى عديدة مع قصائد أخرى لكبار الشعراء الذين عاشوا خلال العصر العباسي، من أمثال “الشريف الرضي” الذي غنّت له أم كلثوم جزءاً من قصيدته “ أيها الرائح المجد”، وكذلك الشاعر العباسي المشهور “العباس بن الأحنف” الذي غنّت له جزءاً من قصيدته “يا بعيد الدار”.
“صفي الدين الحلّي” و”ابن النبيه”
كما غنّت أم كلثوم للشاعر “صفى الدين الحلي” قصيدة “مثل الغزال نظرة” عام 1931. وقصيدة “أفديه إن حفظ الهوى” للشاعر المصري “ابن النبيه” عام 1928م، كما غنت للشاعر نفسه قصيدة أخرى بعنوان “أمانا أيها القمر المطل”.
الشاعر الصعلوك “ابن النطاح”!
ويعتبر الشاعر الصعلوك “ابن النطاح” الذي كان مشهوراً بلقب “أبو وائل” من الشعراء العباسيين الذين غنت لهم سيدة القصيدة العربية أم كلثوم، إحدى قصائد ديوانه والمعروفة بعنوان “أكذب نفسي” وقد غنتها عام 1931م.
الشاعر الكبير “عمر الخيام”

ولم يكن الشاعر العربي الفارسي المشهور “عمر الخيام” ببعيد عن صوت أم كلثوم، إذْ غنّت له أشهر أشعاره على الإطلاق، والتي ترجمت إلى جميع اللغات العالمية، وهى المعروفة “بالرباعيات” من ترجمة وصياغة الشاعر أحمد رامي.
إنها مختارات من الشعر الباهر
وبإحصاء بسيط .. يتضح لنا أن أم كلثوم، قد غنّت لسبعة من فحول الشعراء العرب، خاصة شعراء العصر العباسي الذى تميز بالرقة والغزل سواء في أسلوبه أو موضوعاته. كما بلغ مجموع ما غنته هذه الفنانة الكبيرة لهؤلاء الشعراء حوالي تسع قصائد.
وتؤكد الدكتورة/ رتيبة الحفني أن أم كلثوم، قد غنّت هذه القصائد منذ بداية مشوارها الفني في طفولتها .. وقد تعلمتها عن طريق استماعها لفونوغراف العمدة ، كما حفظت بعض القصائد من والدها الذي كان يحرص على تقديم القصيدة ضمن أغاني حفلاته، وكان أستاذ أم كلثوم الأول في هذا الميدان المطرب والملحن “الشيخ أبو العلا محمد” الذى التقى بها في قريتها طماي الزهايرة قبل بدء حياتها الفنية بالقاهرة. وتؤكد الدكتورة/ رتيبة الحفني أن هذه القصائد لم تكن ملحنة لصوت أم كلثوم، ولكنها أخذتها عن الشيخ أبو العلا ومن تسجيلاته حيث كان قد غناها من قبل بصوته.
كما يؤكد الناقد الفني كمال النجمي في السياق نفسه أن سيدة الغناء العربي قد تعلمت فن غناء القصائد من هذا الملحن العبقري خلال السنوات الخمس التي صاحبته فيها من قبل رحيله .. وهذه القصائد لم يكن فيها لحن واحد صنعه أبو العلا لأم كلثوم بالذات، فهذه القصائد كلها غناها بصوته وسجلها على اسطوانات، ثم أعادت غنائها أم كلثوم.
“أم كلثوم” مع شعراء العصر الحديث!

وكما كان لأم كلثوم دور بارز مع الشعراء القدامى، إذ أخرجت أشعارهم من بطون الكتب إلى الهواء الطلق، كذلك كان لها دور رائد مع شعراء العصر الحديث، ولكن بتميز أكثر وبراعة غير مسبوقة، وقد وصل مفهومها القومي نحو هذه الغاية حداً لم يلتفت إليه فنان غيرها في عصرها، إذ لم تقصر جهودها في مجال الترويج للشعر العربي الحديث في صورة محلية فقط، بل اتسع نطاق اهتماماتها في هذا السياق ليشمل شعراء معاصرين من البلاد العربية والإسلامية.
وقد بلغ عدد الشعراء المعاصرين الذين تعاملت أم كلثوم مع قصائدهم وكلماتهم “ 21 شاعراً” .. منهم سبعة شعراء من البلاد العربية والإسلامية من أمثال: الأمير عبد الله الفيصل، ونزار قباني، وجورج جرداق من لبنان، والهادي آدم من السودان ... وكل من علي أحمد باكثير، ومحمد إقبال ... وقد غنّت أم كلثوم لهؤلاء الشعراء أكثر من عشر قصائد عاطفية ووطنية ودينية.
وأما الشعراء المصريين المعاصرين، فقد بلغوا أربعة عشر شاعراً، من أبرزهم: أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وعلى الجارم، وإبراهيم ناجى، وعزيز أباظة، وطاهر أبو فاشا، وآخرين. كما بلغ ما غنّته أم كلثوم لهؤلاء الشعراء حوالي مائة قصيدة أو أكثر.
“شعراء العامية” مع أم كلثوم
كان لأم كلثوم دور بارز في الترويج لشعر العامية، سواء بالنسبة للشعراء الهواة أو المحترفين، ولعل الموسيقار “كامل الخلعي” كان على رأس هؤلاء الشعراء الذين كتبوا أكثر من أغنية لأم كلثوم .. أيضاً، قدم الكاتب المسرحي “بديع خيري” أكثر من أغنية، إلى جانب ذلك هناك الشاعر مصطفى نجيب وغيره من شعراء وزجالي هذا العصر.
وأما على مستوى الاحتراف، فقد قدمت كوكب الشرق للساحة الأدبية والفنية العديد من الشعراء الذين كان لصوت أم كلثوم الفضل الأكبر في إظهار مواهبهم وبشكل غير مسبوق، ولعل وجود شاعرين كبيرين مثل “أحمد رامي” و”بيرم التونسي” على رأسي هؤلاء وضمن القائمة الطويلة .. يثبت ذلك جيداً.
وحين يتدخل مقياس الحساب لمعرفة عدد الذين غنت لهم أم كلثوم من شعراء العامية، نجد أن عدد الهواة من هؤلاء قد بلغ تسعة شعراء، وقد غنت لهم حوالي عشر أغنيات ما بين دور وموشح وطقطوقة.. أما الشعراء المحترفون فقد بلغ عددهم أيضاً تسعة شعراء من الذين قدموا لأم كلثوم الكم الأكبر من أغنياتها المشهورة على مدى مشوارها الفني الطويل، وبعيداً عن بيرم التونسي وأحمد رامي، كان من أشهر هؤلاء: صلاح جاهين، ومرسي جميل عزيز، وأحمد شفيق كامل، وعبد الوهاب محمد، وعبد الفتاح مصطفى، ومأمون الشناوي ... وغيرهم ممن يضيق المقام بذكرهم.

» أجمل بيوت الشعر العربي
» أجمل بيوت الشعر العربي
» الشاعر / نز ارقباني " قيثارة الشعر العربي "
» الدكتور حامد عبد الله يكتب: الشعر الجميل هو الشعر الصحى
» خلطات ونصائح لتقوية الشعر ومنع تساقط الشعر: