قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)
لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: إن صلاتي, ونسكي, أي: ذبحي لله وحده, لا للأصنام,
ولا للأموات, ولا للجن, ولا لغير ذلك مما تذبحونه لغير الله, وعلى غير اسمه كما تفعلون,
وحياتي وموتي لله تعالى رب العالمين.
لا شريك له في ألوهيته ولا في ربوبيته ولا في صفاته وأسمائه, وبذلك التوحيد الخالص أمرني ربي
جل وعلا وأنا أول من أقر وانقاد لله من هذه الأمة
162- نُسُكِي ذبائحي. جمع نَسِيكةٍ. وأصل النُّسُك: ما تقربت به إلى الله.
آ:162 الجار "لله" متعلق بخبر إن. "رب" بدل مجرور.
أصل الحديث مُخَرَّجٌ في الصحيحين، والزيادة لها شواهد من طرق عدة، وقد استقصيت طرقها في شرح
البخاري، ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) يأمره تعالى أن يخبر المشركين
الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغير اسمه، أنه مخالف لهم في ذلك، فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده
لا شريك له، وهذا كقوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر : 2] أي: أخلص له صلاتك وذبيحتك، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله تعالى < 3-382 > بمخالفتهم والانحراف عما
هم فيه، والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى.
قال مجاهد في قوله: ( إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ) قال: النسك: الذبح في الحج والعمرة.
وقال الثوري، عن السُّدِّي عن سعيد بن جُبَيْر: ( وَنُسُكِي ) قال: ذبحي. وكذا قال السُّدِّي والضحاك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عَوْف، حدثنا أحمد بن خالد الوَهْبِي، حدثنا محمد بن إسحاق، عن زيد
بن أبي حبيب، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله قال: ضَحَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيدٍ بِكَبْشَيْنِ وقال حين ذبحهما : " وَجَّهْت وجهي للذي فَطَر السموات والأرض حنيفًا وَمَا أنا من المشرِكين ،
( إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) .
وهو كما قال، فإن جميع الأنبياء قبله كلهم كانت دعوتهم إلى الإسلام، وأصله عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء : 25] ، وقد أخبر تعالى عن نوح أنه قال لقومه: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس : 72] ، وقال تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة : 130 -132] ، وقال يوسف، عليه السلام: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف : 101] ، وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس : 84 -86] ، وقال تعالى: إِنَّا أَنـزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الآية[المائدة : 44] ، وقال تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [المائدة : 111] .
فأخبر [الله] تعالى أنه بعث رسله بالإسلام، ولكنهم متفاوتون فيه بحسب شرائعهم الخاصة التي ينسخ بعضها بعضًا، إلى أن نسخت بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي لا تنسخ أبد الآبدين، ولا تزال < 3-383 > قائمة منصورة، وأعلامها مشهورة إلى قيام الساعة؛ ولهذا قال عليه [الصلاة و السلام: "نحن مَعاشِر الأنبياء أولاد عَلات ديننا واحد" فإن أولاد العلات هم الأخوة من أب واحد وأمهات شَتَّى، فالدين واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن تنوعت الشرائع التي هي بمنـزلة الأمهات، كما أن إخوة الأخياف عكس هذا، بنو الأم الواحدة من آباء شتى، والأخوة الأعيان الأشقاء من أب واحد وأم واحدة، والله أعلم.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الماجشُون، حدثنا عبد الله ابن الفضل الهاشمي، عن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر استفتح، ثم قال: " وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام : 79] ، ( إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، لا يغفر الذنوب إلا أنت. واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت. واصرف عني
سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت. تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك".
ثم ذكر تمام الحديث فيما يقوله في الركوع والسجود والتشهد. وقد رواه مسلم في صحيحه .