| مواقف نبويـــة | |
|
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:07 am | |
| مواقف نبويـــة
جمل جابر رضي الله عنـــه
في أثناء رجوع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غزوة ذات الرقاع ، دار حوار بينه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ ، ظهر من خلاله حب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه ، واهتمامه بهم ، ولطف حديثه معهم ، وتفقّده لشؤونهم ، ومواساته لهم بالمال والنصيحة .
قال جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ : ( خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة ذات الرقاع من نخل ، على جمل لي ضعيف ، فلما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعلت الرفاق تمضي ، وجعلت أتخلف ، حتى أدركني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: مالك يا جابر ؟ قال : قلت يا رسول الله أبطأني جملي هذا ، قال : أنخه ، فأنخته ، وأناخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : أعطني هذه العصا من يدك ـ أو اقطع لي عصاً من شجرة ـ ، قال : ففعلت ، قال : فأخذها رسول الله فنخسه بها نخسات ، ثم قال : اركب ، فركبت ، فخرج ـ والذي بعثه بالحق - يواهق ناقته مواهقة (يسابقها لسرعته) ، قال : وتحدثت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي : أتبيعني جملك هذا يا جابر ؟ ، قال : قلت يا رسول الله بل أهبه لك ، قال : لا ، ولكن بعنيه ، قال : قلت : فَسُمْنِيه يا رسول الله ، قال : قد أخذته بدرهم ، قال : قلت : لا ، إذن تغبنني يا رسول الله ، قال : فبدرهمين ، قال : قلت : لا ، قال : فلم يزل يرفع لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمنه ، حتى بلغ الأوقية ، قال : فقلت : أفقد رضيت يا رسول الله ؟ ، قال : نعم ، قلت : فهو لك ، قال : قد أخذته ، قال : ثم قال : يا جابر : هل تزوجت بعد ؟ قال : قلت : نعم يا رسول الله ، قال : أثيِّباً أم بكراً ؟ ، قال : قلت : لا ، بل ثيِّباً ، قال : أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك ؟ ، قال : قلت يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد ، وترك بنات له سبعاً ، فنكحت امرأة جامعة ، تجمع رؤوسهنَّ ، وتقوم عليهنَّ ، قال : أصبت - إن شاء الله ـ ) رواه أحمد .
ويمضي جابر ـ رضي الله عنه ـ وهو يعطينا صورة عن الساعات التي أمضاها بعد وصوله المدينة ، حيث ذهب ليأخذ الأوقية ثمرة صفقة بيعه جمله لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كما في رواية البخاري قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ادع لي جابراً، قلت : الآن يرد عليَّ الجمل ، ولم يكن شيء أبغض إليَّ منه ، قال : خذ جملك ولك ثمنه ) فرجع جابر ـ رضي الله عنه ـ بأوقية الذهب ، وبالجمل يقضي عليه حاجته على بغضه له .
لكن الجمل وقد مسته يد النبوة ، قد غدا جملاً آخر في قوته ولين عريكته ، وأثمر خيراً وبركة للبيت كله كما قال جابر ـ رضي الله عنه ـ .. وقد ترجم الحافظ البيهقي في كتابه " دلائل النبوة " على هذا الحديث في هذه الغزوة ـ غزوة ذات الرقاع ـ فقال : " باب ما ظهر في غزاته هذه من بركاته وآياته في جمل جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ .. وقال الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري : " آل أمر جمل جابر هذا لما تقدم له من بركة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى مآل حسن ، فرأيت في ترجمة جابر من تاريخ ابن عساكر بسنده إلى أبي الزبير عن جابر قال : فأقام الجمل عندي زمان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر وعمر فعجز ، فأتيت به عمر فعرف قصته فقال : اجعله في إبل الصدقة وفي أطيب المراعي ، ففعل به ذلك إلى أن مات .." .
أما صاحب الجمل جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ فيقول : ( لقد اسَتَغْفَرَ لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ البعير خمسا وعشرين مرة ) رواه الترمذي .. ليلة البعير : هي التي اشترى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جابر بن عبد الله جمله .. وعن أبي الزبير أنه سمع جابرا يقول : " غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع عشرة غزوة - قال جابر - لم أشهد بدرا ولا أحدا منعني أبى ، فلما قتل عبد الله يوم أحد لم أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة قط " رواه مسلم . ولئن فاز جابر ـ رضي الله عنه ـ بالغزو مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خمسا وعشرين غزوة ، فإن الفوز الأكبر الذي تحقق له هو دعوة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ له خمسا وعشرين مرة .
لقد غرست رحلة جابر ـ رضي الله عنه ـ مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبعاداً كبيرة في تفجر ينابيع الهدى والخير في نفسه ، ليكون بعد ذلك السادس في ترتيب الصحابة في روايتهم لأحاديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فهو بعد أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وأنس بن مالك وعائشة وعبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ . وقد ذكر الإمام النووي أن جابراً ـ رضي الله عنه ـ : " روى ألف حديث وخمسمائة حديث وأربعين حديثًا ، اتفق البخاري ومسلم منها على ستين حديثا ، وانفرد البخاري بستة وعشرين ، ومسلم بمائة وستة وعشرين ." . وأصبح جابر ـ رضي الله عنه ـ برفقته لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودعائه له ، أحد القادة الأعلام للأمة فيما بعد ، وخاصة في الجانب العلمي ينقل ويروي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحاديثه وسيرته للأمة .
وفي قصة جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ وجَمَلِه صورة جميلة ورفيعة لخُلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه من حيث لطف الحديث ، والتواضع الرفيع ، ورقة الحديث ، وفكاهة المحاورة ، والمحبة شديدة لأصحابه ، والوقوف على أحوالهم ، والمواساة في مشكلاتهم الاجتماعية ماديا ومعنويا . تلك من نماذج الأخلاق النبوية ، التي تحلى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتي حلاه بها ربه الذي بعثه ليتم به مكارم الأخلاق ، وبهذا الأسلوب الرفيق الرقيق ، يتعلم الدعاة والمربون حسن الصحبة وصدق الأخوة .
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:07 am | |
| مواقف تربوية من السيرة النبوية
تعتبر السيرة النبوية بأحداثها وتفاصيلها مدرسة نبويّة متكاملة ، لما تحمله بين ثناياها من المواقف التربوية العظيمة والفوائد الجليلة ، التي تضع للدعاة والمعلمين والمربين منهج التربية وحسن التعامل مع مواقف الحياة ومجرياتها ، وهذه بعض من المواقف التربوية من حياة وسيرة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - : الشورى والمساواة من غزوة بدر والأحزاب : غزوة بدر هي إحدى الغزوات المليئة بالمواقف التربوية ، ولعل من أبرزها موقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تأكيده لمبدأ الشورى ، باعتباره مبدأً من مباديء الشريعة ، وصورة من صور التعاون على الخير ، يحفظ توازن المجتمع ، ويجسّد حقيقة المشاركة في الفكر والرأي ، بما يخدم مصلحة الجميع .. فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو المؤيَّد بالوحي - استشار أصاحبه في تلك الغزوة أربع مرات : حين الخروج لملاحقة العير ، وعندما علم بخروج قريشٍ للدفاع عن أموالها ، واستشارهم عن أفضل المنازل في بدر ، واستشارهم في موضوع الأسرى ، وكل ذلك لِيُعَُّلم الأمة أن تداول أي فكرة وطرحها للنقاش يسهم في إثرائها وتوسيع أفقها ، ويساعد كذلك على إعطاء حلول جديدة للنوازل الواقعة . وهذا الموقف التربوي في ترسيخ مبدأ الشورى ظهر كذلك جليا في غزوة الأحزاب ، إذ لما سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بزحف الأحزاب إلى المدينة ، وعزمها على حرب المسلمين ، استشار أصحابه ، وقرروا بعد الشورى التحصن في المدينة والدفاع عنها ، وأشار سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ اعتمادا علي خبرته في حرب الفرس ، بحفر خندق حول المدينة ، وقال : " يا رسول الله ، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا " .. فوافقه وأقره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمر بحفر الخندق حول المدينة ، وتمّ تقسيم المسؤولية بين الصحابة .. لقد أنزل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشورى منزلتها ورسخَّها في حياة الأمة ، إذ الحاجة إليها في الشدائد والقرارات المصيرية على غاية من الأهمية ، فالشورى استفادة من كل الخبرات والتجارب ، واجتماع للعقول في عقل ، وبناء يساهم الجميع في إقامته ، ولذا قال الله تعالى : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ }(الشورى: من الآية38) .. كما أقرّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة بدر والأحزاب ـ وغيرهما من غزوات ـ بمبدأ آخر لا يقلّ أهمية عن سابقه ، وهو تطبيق المساواة بين الجندي والقائد ، ومشاركته لهم في الظروف المختلفة ، يتضح ذلك في موقفه وإصراره ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة بدر على مشاركة أبي لبابة وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ في المشي وعدم الاستئثار بالراحلة .. وفي الأحزاب تولى المسلمون وعلى رأسهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المهمة الشاقة في حفر الخندق ، وكان لمشاركته ـ صلى الله عليه وسلم ـ الفعلية في الحفر الأثر الكبير في الروح العالية التي سيطرت على المسلمين .. لقد أعطى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بدر والأحزاب ـ وغيرهما من الغزوات ـ موقفا تربويا عمليا في الشورى وأهميتها ، وفي مشاركته لأصحابه التعب والعمل ، والآلام والآمال .. لا .. للعصبية والفرقة في غزوة بني المصطلق : عند ماء المريسيع كشف المنافقون عن حقدهم الذي يضمرونه للإسلام والمسلمين ، فسعوا ـ كعادتهم دائما إلى يومنا هذا ـ إلى محاولة التفريق بين المسلمين ، فبعد انتهاء الغزوة ـ كما يقول جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ : ضرب رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري : يا للأنصار، وقال المهاجري : يا للمهاجرين .. فاستثمر المنافقون ـ وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول ـ هذا الموقف ، وحرضوا الأنصار على المهاجرين ، فسمع ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال : ( ما بال دعوى الجاهلية ؟! ، قالوا يا رسول الله : كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : دعوها فإنها منتنة ) رواه البخاري . فمع أن اسم المهاجرين والأنصار من الأسماء الشريفة التي تدل على شرف أصحابها ، وقد سماهم الله بها على سبيل المدح لهم ، فقال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ }(التوبة: من الآية100) ، إلا أن هذه الأسماء لما استُعْمِلت الاستعمال الخاطئ لتفريق المسلمين وإحياء للعصبية الجاهلية ، أنكر ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنكارا شديدا ، وقال قولته الشديدة : ( دعوها فإنها منتنة ) ، وذلك حفاظا على وحدة الصف للمسلمين ، والتحذير من العصبية بجميع ألوانها ، سواء كانت عصبية تقوم على القبلية ، أو الجنس ، أو اللون أو غير ذلك .. وهذا موقف تربوي عظيم من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأمة الإسلامية على مر العصور ..
إقالة ذوي العثرات :
عندما أكمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - استعداده للسير إلى فتح مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة ـ رضي الله عنه ـ إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليهم ، ثم أعطاه امرأة ، وجعل لها أجراً على أن تبلغه إلى قريش ، فجعلته في ضفائر شعرها ، ثم خرجت به إلى مكة ، ولكن الله ـ تعالى ـ أطلع نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما صنع حاطب ، فقضى ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذه المحاولة ، ولم يصل قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وسيرهم لفتح مكة .. والخطأ الذي اقترفه هذا الصحابي الجليل ليس بالخطأ اليسير ، إنه كشف أسرار الدولة المسلمة لأعدائها ، ثم هذا الصحابي ليس من عوام الصحابة ، بل هو مِن أولي الفضل منهم ، إنه من أهل بدر، ويكفيه هذا شرفا ، والصحابة بمجموعهم خير القرون بقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومع كل هذا زلت به القدم في لحظة من اللحظات ، وكَمْ للنفس البشرية من زلات ، وهذا من سمات الضعف البشري والعجز الإنساني ، ليعلم الله عباده المؤمنين بأن البشر ما داموا ليسوا رسلاً ولا ملائكة فهم غير معصومين من الخطأ ، وهذا الذي عناه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله: ( كل بني آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون ) رواه أحمد . وقد عامل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حاطبا ـ رضي الله عنه ـ معاملة رحيمة تدل على إقالة عثرات ذوي السوابق الحسنة ، فجعل - صلى الله عليه وسلم - من ماضي حاطب سبباً في العفو عنه ، وهو منهج تربوي حكيم .. فلم ينظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حاطب من زاوية مخالفته تلك فحسب ـ وإن كانت كبيرة ـ ، وإنما راجع رصيده الماضي في الجهاد في سبيل الله وإعزاز دينه ، فوجد أنه قد شهد بدراً ، وفي هذا توجيه للمسلمين إلى أن ينظروا إلى أصحاب الأخطاء نظرة متكاملة ، وأن يأخذوا بالاعتبار ما قدموه من خيرات وأعمال صالحة في حياتهم ، في مجال الدعوة والخير ، والعلم والتربية ، والجهاد ونصرة دين الله .. قال ابن القيم : " من قواعد الشرع والحكمة أن من كثرت حسناته وعظمت ، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر ، فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل لغيره ، ويُعْفَى عنه ما لا يعفى عن غيره ، فإن المعصية خبث ، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث ، بخلاف الماء القليل ، فإنه لا يحتمل أدنى خبث." . وإلى ذلك أشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله لعمر ـ رضي الله عنه ـ : ( وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) رواه البخاري .
إن إقالة العثرة ، والعفو عن صاحب الخطأ والزلة ، ليس إقرارا لخطئه ، ولا تهوينا من زلته ، ولكنها ـ مع الإنكار عليه ومناصحته ـ إنقاذ له ، بأخذ يده ليستمر في سيره إلى الله ، وعطائه لدين الله .. ومن ثم فإقالة إقالة ذوي العثرات موقف تربوي عظيم من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأمة طبقه مع حاطب بن أبي بلتعة ـ رضي الله عنه ـ ..
اذهبوا فأنتم الطلقاء : في السنة الثامنة من الهجرة نصر الله عبده ونبيه محمدا- صلى الله عليه وسلم - على كفار قريش ، ودخل مكة فاتحًا منتصرًا ، وأمام الكعبة المشرفة وقف جميع أهل مكة ، وقد امتلأت قلوبهم رعبا وهلعًا ، وهم يفكرون فيما سيفعله معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن تمكن منهم ، ونصره الله عليهم ، وهم الذين آذوه ، وأهالوا التراب على رأسه ، وحاصروه في شعب أبي طالب ثلاث سنين ، حتى أكل هو ومن معه ورق الشجر ، بل وتآمروا عليه بالقتل - صلى الله عليه وسلم - ، وعذبوا أصحابه أشد العذاب ، وسلبوا أموالهم وديارهم ، وأجلوهم عن بلادهم ، لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قابل كل تلك الإساءات بموقف تربوي كريم في العفو ـ يليق بمن أرسله الله رحمة للعالمين ـ ، فقال لهم : ( ما ترون أني فاعل بكم ؟! ، قالوا : أخ كريم ، وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء )رواه البيهقي .
لا رجعة للوثنية : خرج مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة حنين بعض حديثي العهد بالجاهلية ، وكانت لبعض القبائل ـ قبل الإسلام ـ شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط يأتونها كل سنة ، فيعلقون أسلحتهم عليها للتبرك بها ، ويذبحون عندها ، ويعكفون عليها ، وبينما هم يسيرون مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ وقع بصرهم على الشجرة .. يقول أبو واقد الليثي - رضي الله عنه - : ( إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى حنين مَرَّ بشجرة للمشركين يقال لها : ذات أنواط ، يعلقون عليها أسلحتهم ، فقالوا : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : سبحان الله ! هذا كما قال قوم موسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم ) رواه الترمذي . وهذا يعبر عن عدم وضوح تصورهم للتوحيد الخالص لحداثة إسلامهم ، ولكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع رفقه بمن أخطأ لم يسكت على هذا الخطأ ، بل حذر من آثاره ونتائجه ، وأوضح لهم خطورة ما في طلبهم من معاني الشرك ..
وهكذا كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يربي أصحابه ، ويصحح ما يظهر من انحراف في القول أو السلوك أو الاعتقاد ، حتى في أشد الظروف والمواجهة مع الأعداء .. فالمخطئ والجاهل له حق على مجتمعه ، يتمثل في نصحه وتقويم اعوجاجه برفق ، وبأفضل الطرق وأقومها ، فلو أن المسلمين ـ وخاصة الدعاة والمربين ـ اقتدوا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبمواقفه التربوية مع أصحابه ، وما فيها من حلم ورفق ، ونصح وحكمة ، لأثروا فيمن يعلمونهم تأثيراً يجعلهم يستجيبوا لتنفيذ أمر الله وهدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
لن نُغلب اليوم من قلة : الغرور يمنع النصر، وإذا كانت غزوة بدر قررت للمسلمين أن القلة لا تضرهم شيئا بجانب كثرة أعدائهم ، فإن غزوة حُنين أكدت أن كثرة المسلمين لا تفيدهم ولا تنفعهم إذا لم يكونوا مؤمنين صادقين ، إذ كان المسلمون في حنين أكثر عددا منهم في أي معركة أخرى خاضوها من قبل ، ومع ذلك لم تنفعهم الكثرة شيئا لما دخل إلى قلوبهم العجب والغرور ، فقد حجب الغرورُ النصرَ عن المسلمين في بداية المعركة ، حينما قال رجل من المسلمين : " لن نُغْلب اليوم من قلة " ، فشق ذلك على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكانت الهزيمة .. وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ }(التوبة:25) .. ومن ثم نبه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أهمية الاستعانة بالله في الحروب وغيرها ، ونِسْبة النصر والتوفيق إلى الله في كل شيء ، فكان دائما في غزواته وحروبه إذا لقي العدو يقول : ( اللهم بك أحول ، وبك أصول ، وبك أقاتل ) رواه أحمد . بك أحول : أتحرك ، وبك أصول : أحمل على العدو ..
ولعلَّ هذا الموقف من أبلغ المواقف التربوية في غزوة حنين ، وقد انتفع به الصحابة بعد ذلك في حروب كثيرة دارت مع الفرس والروم وغيرهما من أجناس الأرض ، وما فَرَّ المسلمون الذين شهدوا حُنَيْنًا بعد ذلك ، فكلهم أيقنوا أن النصر ليس بالعدد ولا بالعدة ، وأن الكثرة لا تغني شيئا ، ولا تجدي نفعاً في ساحات المعارك ، إذا لم تكن قد تسلحت بسلاح العقيدة والإيمان ، وأخذت بأسباب النصر وقوانينه .. فالنصر والهزيمة ونتائج المعارك لا يحسمها الكثرة والقلة والعدة فقط ، وإنما ثمة أمور أُخَر لا تقل شأنا عنها ، إن لم تكن تفوقها أهمية واعتبارا ، قال الله تعالى : { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }(آل عمران: من الآية126) ، وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }(محمد : 7)..
إن المتأمل في حياة وسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليعجب من فقهه في معاملة النفوس ، وحكمته في تربيتها وإصلاح أخطائها ، وعلاج ما بها من خلل ، يظهر ذلك في مواقفه التربوية الكثيرة والجديرة بالوقوف معها لتأملها والاستفادة منها في واقعنا ومناهجنا التربوية.. ومن ثم تمر السنون والأعوام ، وتظل سيرة وغزوات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبراسا وهاديا ، يضيء لنا الطريق في التربية والإصلاح ، والعزة والتمكين ..
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:08 am | |
| مواقف نبويـــة
مواقف نبوية مع الأطفال
شاء الله تبارك وتعالى بحكمته وفضله أن يختار نبيه محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بين البشر، ويصطفيه ويخصه بما لم يخص به أحداً من العالمين، حتى كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ قدوةً للناس في كل شيء، قال الله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }(الأحزاب:21) .. فإن نظرت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبياً ورسولاً، وجدته أفضلهم وخاتمهم، وإن نظرت إليه معلماً وجدته أحسن الناس تعليماً وأفصحهم بيانا، وإذا نظرت إليه زوجاً وجدته خير الأزواج لأهله، وأحسنهم معاشرة ومعاملة .. وإن نظرت إليه مقاتلاً، وجدته المقاتل الشجاع ، الذي لا يقوم له شيء، ويتقي به أصحابه في الحروب .. وإن نظرت إليه في مواقفه مع الأطفال، وجدته أحسن الناس تربية، وأكثرهم عطفاً وحناناً .. وهذه عدة مواقف من سيرته العطرة - صلى الله عليه وسلم - مع الأطفال، تبين مدى حبه ورحمته بالأطفال : مع ابنه إبراهيم : عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: ( دخلنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، على أبي سيف القَيْن، وكان ظِئْراً لإبراهيم ـ عليه السلام ـ، فأخذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إبراهيم فقبله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ : وأنت يا رسول الله ؟!، فقال : يا ابن عوف إنها رحمة ثم أتبعها بأخرى، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون )( البخاري ) .. القيْن : الحداد، والظئر: المرضعة، وكانت زوجته ـ أم سيف ـ ترضع إبراهيم .. وفي رواية مسلم يقول أنس : ( والله ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ) .. مع ـ حفيديه ـ الحسن والحسين : عن عبد الله بن شداد عن أبيه قال : ( خرج علينا رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ في إحدى صلاتي العشي، الظهر أو العصر، وهو حامل الحسن أو الحسين ، فتقدم النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ فوضعه ثم كبر للصلاة، فصلى فسجد بين ظهري صلاته سجدة أطالها، قال: إني رفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ وهو ساجد فرجعت في سجودي، فلما قضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصلاة، قال الناس يا رسول الله: إنك سجدت بين ظهري الصلاة سجدة أطلتها، حتى ظننا انه قد حدث أمر أوانه يوحى إليك، قال: كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني (ركب على ظهري) فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته )( أحمد ) .. وعن أبى هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن الأقرع بن حابس أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل الحسن ، فقال : ( إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنه من لا يَرحم لا يُرْحم )( مسلم ).. وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : ( خرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في طائفة النهار لا يكلمني ولا أكلمه، حتى أتى سوق بني قينقاع، فجلس بفناء بيت فاطمة ، فقال : أثم لكع أثم لكع (أين الحسن )؟! .. فحبسته شيئا(أخرته) فظننت أنها تلبسه سخابا(قلادة) أو تغسله، فجاء يشتد حتى عانقه وقبله، وقال : اللهم أحبه وأحب من يحبه )( البخاري ) .. وهكذا كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأخذ من وقته لحفيده، يذهب إليه ويتعهده ويقبله، ويضعه في حجره ويدعو له .. موقفه مع ابنأبي موسى الأشعري : عن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ قال : ( وُلِد لي غلام فأتيت به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسماه إبراهيم ، فحنكه بتمرة ودعا له بالبركة ودفعه إليَّ .. )( البخاري ).. وكان هذا الولد أكبر أولاد أبي موسى الأشعري ، فكان من عادة أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا وُلِد لأحد منهم ولد أن يأتي به إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيأخذه النبي ويقبله، ويضمه إليه، ويدعو له بالبركة .. معأبي عمير : عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كان لي أخ يقال له أبو عمير ، كان إذا جاءنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: يا أبا عمير ، ما فعل النُغير(طائر صغير) )( البخاري ) .. ومع اشتغال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأمور الجهاد والدعوة والعبادة وأمور الناس إلا أنه كان يلاطف أطفال الصحابة، ويدخل السرور عليهم ـ ، ويسأل الطفل عن طائره .. وهو مَنْ هو ـ صلى الله عليه وسلم ـ في علو منزلته وعِظم مسؤولياته ..
تقديم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للطفل في حقه: عن سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ : ( .. أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أُتِيَ بشراب فشرب منه، وعن يمينه غلام، وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟، فقال الغلام: لا، والله لا أوثر بنصيبي منك أحدا، قال: فتلَّه (وضعه في يده) رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )( البخاري ).. وفي ذلك إشارة من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالاهتمام بالطفل، والتأكيد على إعطائه حقه، وإشعاره بقيمته، وتعويده الشجاعة وإبداء رأيه في أدب، وتأهيله لمعرفة حقه والمطالبة به .. موقفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الغلام اليهودي: عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : ( كان غلام يهودي يخدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمرض، فأتاه يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له : أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال : أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يقول الحمد لله الذي أنقذه من النار )( البخاري ).. وفي ذلك دلالة على حرص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الطفل، ورحمته وشفقته به ولو كان كافرا .. مع حفيدتهأمامة بنت أبي العاص : لما ماتت أمها زينب أشفق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليها وحنَّ لها، فكان يخرج بها أحياناً إلى المسجد فيحملها وهو في الصلاة، فإذا سجد وضعها على الأرض، وإذا قام حملها على كتفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. عن أبي قتادة الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، و لأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس ، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها )( البخاري ).. موقفه معأم خالد : عن أم خالد بنت خالد ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( أُتِيَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بثياب فيها خميصة سوداء صغيرة، فقال : من ترون أن نكسو هذه ؟، فسكت القوم، فقال: ائتوني بأم خالد ، فأتي بها تُحْمل، فأخذ الخميصة بيده فألبسها، وقال : أبلي وأخلقي .. وكان فيها علم أخضر أو أصفر، فقال : يا أم خالد هذا سناه(حسن) )( البخاري ) .. وكان العرب في الجاهلية يترقبون الأولاد، للوقوف إلى جانبهم ومساندتهم، أما البنت فكان التخوف من عارها يحملهم على كراهتها، حتى بعث الله نبينا ـ صلى الله عليه وسلم - ، فحفظ للبنت حقوقها وأكرمها، ووعد من يرعاها ويحسن إليها بالأجر الجزيل، وجعل حسن تربيتها ورعايتها والنفقة عليها سبب من الأسباب الموصلة إلى رضوان الله وجنته، حتى قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم -: ( من عال جارتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه )( مسلم ) .. وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( من عال ابنتين أو ثلاث بنات، أو أختين أو ثلاث أخوات، حتى يمتن أو يموت عنهن، كنت أنا وهو كهاتين، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى )( أحمد ) .. إن الناظر في سيرة وأحاديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجد أنه أعطى الطفل نصيبا من وقته، وجانبا كبيرا من اهتمامه، فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الأطفال أباً حنونا، ومربياً حكيما، يداعب ويلاعب، وينصح ويربي .. فمرحلة الطفولة هي أخصب وأهم فترة يمكن للمربي أن يغرس فيها المبادئ والقيم .. وفي حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم- مواقف كثيرة ـ تعليمية وتربوية ـ، تحتاج إلى وقفات من المعنيين بشأن التربية والإصلاح، لاستخراج فوائدها، وقطف ثمارها، والاقتداء بها، والتعامل من خلالها مع أطفال اليوم ورجال الغد والمستقبل ..
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:08 am | |
| مواقف نبويـــة
من غشنا فليس منا
عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرّ على صُبْرَة طعام، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال: ( ما هذا يا صاحب الطعام؟ ) ، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: ( أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشّ فليس مني) رواه مسلم . وفي رواية أخرى للحديث عند مسلم : (من غشنا فليس منا) . معاني المفردات السماء : المطر الصُبْرة : الكومة المجموعة بلا كيل ولا وزن. تفاصيل الموقف الغشّ ظاهرةٌ اجتماعيّة خطيرة، يقوم فيها الكذب مكان الصدق، والخيانة مكان الأمانة، والهوى مقام الرّشد، نظراً لحرص صاحبها على إخفاء الحقيقة، وتزيين الباطل، ومثل هذا السلوك لا يصدر إلا من قلبٍ غلب عليه الهوى، والانحراف عن المنهج الرّباني. ومظاهر الغش والخداع كثيرةٌ، جاء أحدها في موقفٍ سجّله لنا التاريخ، وفيه أنه النبي –صلى الله عليه وسلم- كانت له زيارةٌ إلى السوق ليشتري ما يحتاجه، فاستوقفه منظر كومة من طعام –جاء في المستدرك أنها من الحنطة- وقد عرضها صاحبها للبيع. ومن النظرة الأولى أُعجب النبي –صلى الله عليه وسلم- بالطعام فهو يبدو فائق الجودة والنضارة، لكن الفحص الدقيق يُظهر ما كان خافياً، فقد أدخل النبي عليه الصلاة والسلام يده الشريفة إلى تلك الكومة فإذا بها مبتلّةٌ على نحوٍ يوحي بقرب فسادها. استدار النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى الرجل، وألقى إليه بنظرةِ لائمٍ وأتبعها بسؤال المعاتب: ( ما هذا يا صاحب الطعام؟ ) ، فأطرق الرجل رأسه في خجل وقال: ": أصابته السماء يا رسول الله"، وكأنه يريد أن يعتذر عن فعلته ولكن بما لا يُعتذر به، وأن يُبرّر موقفه ولو بأقبح التبريرات، كل ذلك محاولةً منه في تخفيف غضب النبي عليه الصلاة والسلام وعتابه. لكنّه رسول الله، ومعلّم البشريّة، ومتمّم الأخلاق، ما كان له أن يتغاضى عن موقفٍ كهذا، وليس الموقف موقف مجاملات أو صفحٍ عن خطأ فردي، ولكنّه أوان ترسيخ مبدأ عظيم يحفظ حقوق الناس ويصونها من العبث والتدليس: ( أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني) إضاءات على الموقف حقيقة الغش هو تقديم الباطل في ثوب الحق، الأمر الذي ينُافي الصدق المأمور به والنصح المندوب إليه، وقد صحّ الحديث عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) متفق عليه، ومن هذا المنطلق جاء تحريم الغشّ حتى يُعامل كل فردٍ من أفراد المجتمع غيره بما يُحبّ أن يُعاملوه به، فكما لا يرضى الخديعة والاحتيال على نفسه فكيف يرضاه على الآخرين؟ ومن العار على الشرفاء أن يرضوا على أنفسهم بمثل هذه الدناءة الخُلُقيّة، فعلاوةً على كونها معصيةً صريحة لله ورسوله، وأكلاً لأموال الناس بغير حق، فهي كذلك سببٌ في ضياع الذمم وانعدام الثقة وإشاعة البغضاء، وقد أوضح النبي –صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: ( بيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحقت بركة بيعهما ) متفق عليه. وإذا جئنا إلى صور الغشّ في البيع فهي كثيرة جداً، ومن ذلك: التطفيف في المكيال وعدم إيفاء الوزن حقه بما يتنافى مع قوله تعالى: {وزنوا بالقسطاس المستقيم} ( الإسراء: 35)، ومن ذلك بيع التصرية: وهو ترك حلب الناقة مدّة قبل بيعها لإيهام المشتري بكثرة لبنها، ومن صورها: إطعام النحل للسكّر حتى تُكثر نتاجها، وخلط الماء باللبن حتى يكثر، وبيع البضائع المقلّدة على أنها أصليّة، ومنع المشتري من فحص السلعة أو تجريبها قبل شرائها، وقريحة من لا خلاق لهم لا تنضب من ابتكار صورٍ جديدة له في كلّ عصرٍ وبلد، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. على أن مفهوم الحديث أوسع من دلالته على تحريم الغش في مجال المعاملات المالية فحسب، فقد خرج مخرج القاعدة الشموليّة التي تخاطب جميع أنواع الحياة، فيكون الغشّ في الزواج بإخفاء عيوب الزوجة، أو منافاة الأمانة في عدم بيان حال من تقدّم للخطوبة وأخلاقه ودينه، ويكون الغشّ في النطاق الوظيفيّ في العمل بما يحقّق المصالح الشخصيّة ولو كان على حساب الآخرين، ويكون الغش مع العلماء في كتم النصيحة عنهم، فضلاً عن أشهر أنواع الغشّ وأكثرها خطورة: غش الطلاّب في الامتحانات. ولن يكون علاج مثل هذا الداء العضال إلا بإيقاظ الضمائر وإحياء جانب المراقبة عند الأفراد، فيعلم كل فردٍ أن الله مطّلع على أعماله وسوف يحاسبه، ويتزامن ذلك مع إيجاد عقوبات رادعة تُعاقب كل من سوّلت له نفسه خيانة الأمانة، وبذلك يتحقّق الأمن وتنتشر الأمانة، ويسود الإخاء في أرجاء الأمّة.
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:09 am | |
| مواقف نبويـــة
لا تعينوا عليه الشيطان
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أُتي النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل قد شرب، قال: ( اضربوه ) ، فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: ( لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان) ". رواه البخاري . وفي رواية أخرى: " ثم أمرهم فبكَّتوه فقالوا: ألا تستحي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصنع هذا؟ ثم أرسله، فلما أدبر وقع القوم يدعون عليه ويسبونه، يقول القائل: اللهم أخزه اللهم العنه، فقال رسول الله -صلى الله عليه و سلم-: (لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا: اللهم اغفر له اللهم ارحمه) " رواه أبو داوود والبيهقي . معاني المفردات قد شرب: أي شرب الخمر التي حرّمها الله. أخزاك: دعاء بالخزي، وهو الذل والهوان. لا تعينوا عليه الشيطان: أي بدعائكم عليه بالخزي فيتوهم أنه مستحق لذلك، فيغتنم الشيطان هذا ليوقع في نفسه الوساوس. فبكَّتوه: التَّبكيت : التَّقْرِيع والتَّوبيخ. تفاصيل الموقف "حرمت الخمر، ولم يكن للعرب عيش أعجب منها، وما حُرم عليهم شيء أشد من الخمر" هكذا يصف أنس بن مالك رضي الله عنه ولع العرب بشرب الخمر أيّام الجاهليّة وشدّة تعلّقهم بها، فقد كان تعاطيها أكثر من مجرّد عادةٍ فرديّة، بل كانت ظاهرةً اجتماعيّة تربّى عليها الصغير قبل الكبير، والفقير قبل صاحب المال الوفير، وعُقدت لها المجالس، وصُرفت عليها النفقات، وأُنشدت فيها الأشعار، ويوضّح حقيقة ذلك التعلّق المذموم قول أحدهم في جاهليّته: إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفنــني بالفــلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها ثم جاء الإسلام بمنهجه العملي والواقعي لعلاج هذا الواقع المعقّد، فاستطاع وبكلّ جدارة أن يقتلع جذور هذه الآفة من نفوس العرب، فلما أُعلن في المدينة تحريم الخمر والتحذير من مقاربته –فضلاً عن مقارفته-، رأينا الامتثال الفوري من الصحابة رضوان الله عليهم، وتروي كتب السيرة في هذا الصدد كيف سالت أزقّة المدينة من الخمور التي أُريقت وتم التخلّص منها. ثم بقي بعد ذلك تفاوت الصحابة رضوان الله عليهم في قدرتهم على امتثال الأوامر الإلهيّة، فأما عامّة الناس فقد امتنعوا عن شراب المسكرات وتجاوزوا هذه المرحلة، وبقي منهم أفرادٌ قلائل لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة –فيما نعلم من مرويّات السيرة- لم يقدروا على كسر دائرة الإدمان، فكانت تعتريهم لحظات ضعفٍ بين الفينة والأخرى، كان منهم صاحب القصّة التي بين أيدينا. وما نحسب هذا الصحابي رضي الله عنه إلا رجلاً قد طرق من أبواب الخير ما نرجو أن تكون شفيعاً له عند ربّه، إلا أن صراعه مع شهوة الخمر كان مريراً، فينجح مرَّاتٍ في الابتعاد عنها، وأحياناً تغلبه نفسه وتضعف مقاومته، حتى إذا انتهى من المعصية ساوره الندم وخالجته المرارة وعزم على عدم العودة، وأحدث من الصالحات ما عسى أن يمحو سيّئاته. وفي إحدى "هفواته" ظهر للعيان كونه شارباً للخمر، واقعاً في الذنب، فاقتاده الصحابة الكرام إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- مُتلبّساً بفعلته، فأصدر النبي عليه الصلاة والسلام الأمر بمعاقبته وقال: (اضربوه) . ولكن هل هو ضربٌ ينكأ جرحاً أو يكسر عظماً أو يُدمي جسداً؟ كلا، ذلك لأنه تعبيرٌ عن الاستياء والاستنكار، ويُراد منه العلاجُ والتأديب والزجر لا غير؛ ولذلك كان الضرب مرّة باليد، وأخرى بالنعال، وثالثة بالثوب، وما عسى الثوب أن يضرّ؟ كان المقصود إذن هو العقوبة التأديبيّة، سواءٌ منه ما كان بالضرب أو بالعتاب و"التبكيت"، لكن بعض الصحابة رضوان الله عليهم تجاوز تلك اللفتة التربويّة وزاد على المطلوب، وتعدّى بالسبّ والشتم المجرّد، بل والدعاء عليه بالخزي والطرد من رحمة الله!! كان لابد من الحزم مع هذا التصرّف الذي دعت إليه الغيرة على حرمات الله مع عدم إدراك عواقب الأمور ونتائجها، فنهى النبي –صلى الله عليه وسلم- عن الدعاء على أخيهم المذنب بقوله: ( لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان) . إضاءات حول الموقف صدق الله القائل في كتابه: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء7)، فقد تجلّت في هذا الموقف النبوي الكريم مدى الشفقة البالغة التي طُبع عليها خير الأنام عليه الصلاة والسلام تجاه فئة المذنبين، ومدى حرصه على هدايتهم ورغبته في تطهيرهم من دنس الآثام والمعاصي، ثم محاولته إصلاحهم وتنقية نفوسهم وتغيير دواخلهم لينالوا الجنّة التي وُعد المتقون، فصلوات الله وسلامه عليه. وفي معنى قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: ( لا تعينوا عليه الشيطان) ذكر العلماء عدّة معانٍ: منها أن الدعاء على العاصي بالخزي يوافق مقصود الشيطان؛ فإنه بتزيينه للمعصية يريد أن يوقعه فيما يُخزيه في دنياه وآخرته، وقالوا: إن الدعاء على المذنب بالخزي يعين استحواذ الشيطان عليه، لأنه إذا سمع إخوانه يدعون عليه بمثل ذلك ازداد في عتوّه ونفوره، وأخذته العزّة بالإثم، ولربما أيس من رحمة الله فانهمك في المعاصي والموبقات، ولذلك جاء التوجيه النبوي بأن يقولوا: (اللهم اغفر له، اللهم ارحمه) . ويقيم الموقف النبوي منهجاً متوازناً في التعامل مع الأشخاص، فليس ثمّة حبٌّ كاملٌ أو بغضٌ كامل، ولسنا أمام بياضٍ كامل أو سوادٍ حالكٍ لا يتخلّلهما درجات، ولكن قد نُحبّ رجلاً من وجهٍ ونُبغضه من وجهٍ آخر، وحتى هذا البغض لا يمنعنا من بخس الناس حقوقهم أو إهدار مكانتهم، من هنا نجد أن النبي –صلى الله عليه وسلم وصف الرجل بأنه "أخٌ لهم على الرغم من شربه للخمر.
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:09 am | |
| مواقف نبويـــة
المزاد العجيب
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرّ بالسوق داخلاً من بعض العالية، والناس كنفته، فمرّ بجدي أسك ميت فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: ( أيكم يحب أن هذا له بدرهم ) ، فقالوا: "ما نحب أنه لنا بشىء، وما نصنع به؟" قال: ( أتحبون أنه لكم ) ، قالوا: "والله لو كان حيا كان عيبا فيه لأنه أسكّ فكيف وهو ميت؟" فقال: ( فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ) رواه مسلم . معاني المفردات داخلا من بعض العالية: ناحية من نواحي المدينة. والناس كنفته: أي أحاطت به. بجدي أسك: (الجَدْي) : ولد الماعز، و(الأسكّ) : الذي ذهبَ أذنه سواء من أصل الخلقة أو مقطوعها. تفاصيل الموقف لا يكاد سوق يخلو من ( مزاد ) تُباع فيه السِلَع التجاريّة، وصورته لا تكاد تختلف من واحد لآخر، عناصره : رجلٌ يقف وسط جموع الناس يسوّق السلعة من خلال ذكر خصائصها وميّزاتها، وسلعةٌ بين يديه تنتظر مشترياً لها، وتجّار يحيطون به يتبارون في الحصول على تلك السلعة من خلال المزايدة في سعرها، ليستقرّ الأمر أخيراً على صاحب الرّقم الأعلى. هذا هو ما نعرفه عن هذا النشاط التجاري الذي بدأ منذ فجر التاريخ، لكنّ ما بين أيدينا (مزاد ) لا كغيره من المزادات، فالاختلاف يبدأ بالماثل بين يدي السلعة المعروضة، وهو سيد العالمين وأفضل الخلق أجمعين، ويمرّ بالجموع الذين يقفون من حوله، وهم صحابته رضوان الله عليهم، وينتهي بالسلعة التي كانت (وياللغرابة!) جدي ميّت ناقص الخلقة، لا يُرتجى نفعه ولا يُنتظر خيره، في مشهدٍ تلفّه الدهشة وتكتنفه الحيرة، فما هي قصّة هذا المزاد وما حقيقته؟ سيزول العجب وتنقضي الغرابة عندما نعود إلى الحديث الشريف الذي تناول هذا الموقف، والذي يبيّن أن النبي – صلى الله عليه وسلم – دخل السوق كعادته بين الحين والآخر، ليقضي الوقت في مقابلة الناس ومخالطتهم، والوقوف على أحوالهم المختلفة، يتخلّل ذلك تصحيح معاملاتهم وإرشادهم، وضبط سلوكهم التجاري. ولا تخلو زيارات النبي – صلى الله عليه وسلم – تلك من صحابة يلزمونه كظلّه، ويطوفون معه أينما دار، ليقتبسوا منه علماً جديداً، ورُشداً قويماً، وخلقاً كريما. وبينما كانت هذه الكوكبة المباركة تسير وسط أحياء المدينة، إذ رأى النبي – صلى الله عليه وسلم – على قارعة الطريق "جدْياً" ميتاً ، نتن الرائحة، معيباً في أذنيه ، فتهيّأ الصحابة رضي الله عنهم لمجاوزة هذه الجيفة، لكنّهم تفاجؤوا بوقوف النبي عليه الصلاة والسلام أمامها. وسرعان ما تحلّق الصحابة حول نبيّهم متسائلين في قرارة نفوسهم عن السرّ في الوقوف أمام هذا الجسد الخاوي من الروح، والذي تشمئزّ النفوس من منظره والأنوف من رائحته، ولم يَطُل تساؤلهم كثيراً، فقد رأوا النبي – صلى الله عليه وسلم – يأخذ بأذن هذا الجَدْي ثم يقول: ( أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ ) . نظر الصحابة رضوان الله عليهم إلى بعضهم ثم قالوا : "ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟"، ويكرّر النبي – صلى الله عليه وسلم – عرضه الغريب بألفاظ اختلفت قليلاً : ( أتحبون أنه لكم؟ ) ، فذكروا له من عيوب هذا الجدي ما لو رأوه حيّاً لزهدوا فيه، فكيف وهو ميت؟! وهنا يكشف النبي – صلى الله عليه وسلّم – عن الغموض في لفتةٍ تربويّة عظيمة، تجسّد المعاني، وتُبرز الحقائق، وتعمّق في النفس معاني الزهد والتقليل من شأن الدنيا : ( فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ) . إضاءات حول الموقف يبيّن هذا الموقف العظيم مدى حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – على تحذير أصحابه من خطر الدنيا والافتتان بها، وهو – فوق ذلك – يُغذّي عقول الناس أن الحياة الصحيحة المستحقّة لألوان البذل والتضحيّة إنما هي وراء هذه الحياة لا فيها، وأما ما كان قبل ذلك فهو غرور ووهم كما وصفها الله تعالى في محكم كتابه :{ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } (الحديد:20). ولقد تنوّعت أساليب النبي – صلى الله عليه وسلّم – في تصوير حقيقة الدنيا والتحذير من زخرفها، فتارةً نراه يطرق حال الفقراء والأغنياء في عرصات القيامة وما بعدها، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( إن الأكثرين هم الأقلّون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا –يقصد من تصدق عن يمينه وشماله ومن خلفه -، وقليلٌ ما هم) رواه البخاري ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء ) متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام : (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام ) رواه الترمذي ، وصحّ عنه – صلى الله عليه وسلم - قوله: (قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجدّ - أي الموسرون - محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار) متفق عليه. وتارة يمثّل النبي – صلى الله عليه وسلم – الدنيا لأصحابه بالأمثلة المعنويّة والحسّيّة التي ترسّخ في نفوسهم حقارة الدنيا ودنوّها، وأنّها لا تساوي شيئا عند الله تعالى ، ومن قبيل المعنوي: تشبيه النبي عليه الصلاة والسلام للدنيا بالزهرة التي سرعان ما تذبل، وبالأرض اليانعة التي لا تلبث أن تفقد جمالها وألوانها، ومن جملة الشواهد على ذلك قوله تعالى : { زهرة الحياة الدنيا } (طه:131)، وقوله تعالى : {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا} (الكهف:45)، وما صحّ عن النبي عليه الصلاة والسلام من قوله : ( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء ) رواه الترمذي ، ومن التمثيل الحسّي لحقيقة الدنيا الموقف الذي بين يدينا. ومن نسمات عبير هذا الموقف النبوي، أن نلحظ كيف كان النبي – صلى الله عليه وسلّم – ينوّع في أساليبه الوعظيّة والتربويّة فلا يقف فيها عند نمطٍ واحد، بل هو تجديد يُراد به إشعار النفس بالفكرة المطلوبة بطريقة عمليّة واضحة، وهو الأمر الذي يحتاجه الدعاة والمصلحون لإيصال رسالتهم وتحقيق أهدافهم.
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:10 am | |
| مواقف نبويـــة
أفتان يا معاذ؟
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، فتجوّز رجل فصلى صلاة خفيفة فبلغ ذلك معاذاً فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحنا، وإن معاذاً صلّى بنا البارحة فقرأ البقرة، فتجوّزت فزعم أني منافق، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( يا معاذ أفتّان أنت؟ - قالها ثلاثاً -، اقرأ {والشمس وضحاها} و { سبّح اسم ربك الأعلى } . ونحوها) متفق عليه واللفظ للبخاري . وفي رواية أخرى: ( فلولا صليت بسبح اسم ربك والشمس وضحاها والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة) . وفي رواية مسلم : " فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف". معاني المفردات فتجوّز: أي خفف صلاته. بنواضحنا: جمع ناضح وهو البعير الذي يستعمل في سقي الزروع. فانحرف رجل: أي انفرد في صلاته. تفاصيل الموقف الصلاة بالمسلمين، وقراءة سورة البقرة، والوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى، أمورٌ ثلاثةٌ تبوّأت مكانة عظيمة في قلوب أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم-، فالإمامة مسؤوليّة عظيمة دعا النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابها، وسورة البقرة من أكبر سور القرآن وتتضمّن أعظم آية فيه، والوقوف بين يدي الله والاستغراق في ذكره وإطالة الوقوف بين يديه عبادة لا يضاهيها عمل. وهذه الشعب الإيمانية اجتمعت في شخص أفقه الصحابة وأعلمهم بالحلال والحرام، ومحبوب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كما صَرّح له، وأحد النفر الستّة الذين جمعوا القرآن الكريم في العهد النبوي، ومن القلّة القليلة التي امتازت بحدّة الذكاء وسعة الدراية وقوّة الفطنة، ذلكم هو معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه. من هنا نستطيع أن نفهم سرّ العادة التي اكتسبها معاذ رضي الله عنه، وهي أنه كان يصلّي مع النبي –صلى الله عليه وسلم- صلاة الفريضة، ثم ينطلق مسرعاً إلى مسجدٍ في نواحي المدينة ليصلّي بهم تلك الصلاة إماماً، غير مبالٍ بمشقّة الذهاب والإياب كلّ يوم. ويبدو أن الدعاء الذي علّمه النبي –صلى الله عليه وسلّم- لمعاذ أن يقوله دبر كلّ صلاة: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) قد ترك فيه أثراً ظاهراً، فكانت صلاته بالناس طويلة وكثيرة القراءة، وما ذاك إلا إحساناً لعبادته وإتقاناً لعمله. لكن حدثاً بعينه غيّر وتيرة النمط الذي كان ينتهجه معاذ بن جبل رضي الله عنه ويسير عليه في إمامته، ففي إحدى الليالي وبعد أن فرغ رضي الله عنه من صلاته مع النبي –صلى الله عليه وسلم-، انطلق إلى المسجد الآخر كعادته ليؤم المسلمين، وشرع في قراءة سورة البقرة، واستطرد في قراءتها، وفي القوم رجلٌ من عوام المسلمين الذين يكدّون طوال اليوم بالأعمال الحِرَفيّة الشاقة، والتي تتطلّب منهم جهداً ووقتاً؛ ولذلك استثقل الرجل طول الصلاة ورأى أنها ستؤخّره عن أعماله وستُربِك جدول مهامّه، فانفرد الرجل فأتمّ الصلاة لوحده ثم انصرف. ويصل الخبر إلى إمام القوم معاذ بن جبل رضي الله عنه أن أحد المصلّين ترك الصلاة خلفه فأنكر فعله؛ إذ أن صلاة الجماعة تصهر المؤمنين جميعاً فتجعلهم كالجسد الواحد، وهذا الصنيع قد يُفسّر بالمعارضة والرغبة في إثارة الفتن وإشاعتها بين المسلمين، ومثل هذه التصرّفات مشهورةٌ عن جماعة المنافقين الحريصين على كسر وحدة الصفّ الإسلامي والتاريخ يشهد؛ ولذلك لم يتردّد معاذ رضي الله عنه في الحكم على الرجل بأنه من المنافقين. ويُصدم الرجل بمقولة معاذ رضي الله عنه، ويحاول أن يدفع التهمة عن نفسه، لكن دفاعه لم يجد له صدىً، وهنا: اشدّ عليه الكرب، وحلّ به الهمّ، فانطلق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُخبره بما دار، ويعتذر مما صنع، محتجّاً بما يتطلّبه العمل في الزراعة من أوقات كثيرة لا يمكن معها الاسترسال في الصلاة والتطويل فيها، فلماذا إذن يصدر عليه معاذ ذلك الحكم الجائر بالنفاق؟!. ولا تسل عن غضب النبي –صلى الله عليه وسلم- واستيائه من موقف معاذ ، والذي يُنبئ عن التسرّع في الحكم، وعدم تقدير ظروف الآخرين، فيُعاتبه لذلك أشدّ عتاب: ( يا معاذ أفتّان أنت؟ - قالها ثلاثاً -) ثم يوجّهه إلى قراءة السور القصار كالشمس والليل والأعلى ونحوها مما يتناسب مع كبار السنّ والضعفة من المسلمين وأصحاب الحاجات، وكان الجواب العمليّ لمعاذ رضي الله عنه السمع والطاعة، وسرعة الرجوع إلى الحق والتزامه، وهذا هو شأن النفوس الكريمة، فرضي الله عن ذلك الجيل العظيم. إضاءات على الموقف . تكلّم العلماء في هذا الحديث النبويّ من الناحية السلوكيّة والناحية الفقهيّة، أما الناحية السلوكيّة: فهو التأكيد على ضرورة أن يعلم الإمام أحوال المأمومين خلفه وأن يراعيها؛ فالناس ليسوا على شاكلة واحدة، والمجتمعات تختلف، والظروف تتباين، فقد يقع المسجد في وسط السوق أو قرب المصانع أو بجانب المزارع والحقول فيتوجّه حينها قصر الصلاة وعدم تطويلها، وقد يكون في موطن يغلب فيه طلّاب العلم وأصحاب العبادة فيمكن حينها للإمام أن يزيد من مقدار صلاته. فالحاصل أن الإمام يوازن بين مقدار قراءته وبين طبيعة المصلّين خلفه ونشاطهم، وبإدراك هذه القضيّة نستطيع أن نفهم التفاوت المذكور في مقدار قراءات النبي –صلى الله عليه وسلم- في صلاته الواردة في كتب السنة، فلربما قرأ في المغرب بالطور، ولربما قرأ فيها بالمعوذتين، وكم بين الطور وبين المعوذتين من تفاوت. ومما ينبغي للأئمة التنبّه له: أن كثرة المصلين مظنّة وجود ذوي الأعذار، ومتى ما تبيّن له وجود ذوي الأعذار خلفه –ولو بعد الشروع في الصلاة- فعليه أن يُخفّف من صلاته، ولقد كان من هدي نبيّنا –صلى الله عليه وسلّم- أنه كان يدخل الصلاة وينوي الإطالة، فيسمع بكاء الأطفال من بين الصفوف فيخفّف لأجل ذلك من صلاته رحمةً بأمّهاتهم. وفي قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: ( يا معاذ أفتّان أنت؟ ) نهيٌ عن كل ما يُنفّر عن الدين ويصد عن سبيله أو يوقع الناس في الفتنة سواءٌ أكان بالقول أم بالفعل، وقلّ ما يتنبّه الدعاة لهذه اللفتة النبويّة خصوصاً عند التعامل مع المهتدين الجدد. وبخصوص الناحية الفقهيّة من القصّة، فقد استدلّ العلماء به على جواز اختلاف نيّة المأموم والإمام كأن يُصلّي الإمام بنيّة النفل والمأموم بنيّة الفرض أو عكسه، والحديث الذي بين يدينا عمدةٌ في هذا الباب، كما استدلّوا به على أن المأموم إذا شقّت عليه متابعة الصلاة في الجماعة، بإجهادٍ أو غلبة نعاسٍ أو خشية أن يعدو الذئب على غنمه أو هروب دابّته ونحو ذلك، فله أن يفارق الجماعة ويتمّ الصلاة لوحده.
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:10 am | |
| مواقف نبويـــة
أتعجبون من دقة ساقيه!!
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مم تضحكون؟) ، قالوا: يا نبي الله من دقة ساقيه، فقال: (والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحُد) ، رواه أحمد . وفي رواية أخرى: " فنظر أصحابه إلى حموشة ساقيه فضحكوا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : (ما يُضحككم ؟ لَرِجْل عبد الله في الميزان أثقل من أُحُد) رواه الطبراني . معاني المفردات يجتني سواكاً: يقطف السواك الأراك: من شجر البوادي ويُصنع منها السواك تكفؤه: أي تحرّكه يميناً وشمالاً حموشة ساقيه: دقّة الساقين تفاصيل الموقف كان معدوم المال ولكن غني النفس، وضئيل الجسد ولكن ذائع الصيت، ومستور المكانة ومغمور الجاه، فأبدله الله بذلك كلّه شرفاً وعزّاً، وعلماً وعملاً، ومحبة في قلوب الناس،ومنزلة في نفوس المتقين. إنه الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه، صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حلّه وترحاله، وأوّل من صدح بالقرآن الكريم على رؤوس الملأ بمكّة وناله من ذلك أذىً كثيراً، وهو الذي قام بالإجهاز على أبي جهل يوم بدر وحمل رأسه إلى المسلمين ليُبشّرهم بمقتل عدوّهم. وفضائل هذا الصحابي الجليل وخصاله أكثر من أن تُعدّ وتُحصى، بيد أنها انضوت كلّها داخل جسدٍ صغير ذي قامةٍ نحيلة لم تزل موضع عجبٍ وتساؤل، واستغراب وتندّر، وكانت له في ذلك قصّة!. تروي لنا كتب السير أن ابن أم عبد -كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقّبه- اشتهى عوداً من أراك ليُطهّر به فمه، فيجتمع له نقاء الظاهر وصفاء الباطن، خصوصاً أثناء قراءته لكتاب ربّه آناء الليل وأطراف النهار. والحصول على الأراك كان يتطلّب بطبيعة الحال صعوداً فوق الشجرة حتى يتخيّر الأنسب والأفضل، فكان أن ارتقى رضي الله عنه الشجرة مستعيناً بساقيه الدقيقتين ويديه الضعيفتين، وبينما هو كذلك إذ هاجت الريح واشتدّ هبوبها حتى كادت أن تسقطه من العلو، وظلّ الجو العاصف يلعب به يمنةً ويسرة. وشاهد من كان حاضراً من الصحابة ابن مسعود رضي الله عنه وهو على تلك الحال، فتضاحك بعض القوم من منظره، ولم يستحسن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ضحكهم على أخيهم، فسألهم: (مم تضحكون؟) ، فذكروا له دقّة ساقيه رضي الله عنه. ولكن هل يُقاس الناس بأشكالهم وألوانهم؟! وهل يضرّ عبدالله رضي الله عنه ضعفه ونحوله؟!! لا والله؛ فإن لصاحب تلك الساقين فضائل تُثقل الميزان، وأعمالاً تُقرّ العين، ومزايا تُبهر الألباب، جامعاً في ذلك بين جمال السيرة ونقاء السريرة. ويشهد لتلك المنزلة العالية خير الخلق –صلى الله عليه وسلم- ويُسطّرها في سجلاّت الخالدين: (والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحُد) . إضاءات حول الموقف يُذكر العلماء هذا الحديث ضمن فضائل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، والتي تُجمع إلى مناقبه الأخرى، كقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : (خذوا القرآن من أربعة:...وذكر منهم من عبد الله بن مسعود) متفق عليه، وقوله عليه الصلاة والسلام : (من أحب أن يقرأ القرآن غضّاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) رواه ابن ماجة و أحمد في مسنده، وطلب النبي عليه الصلاة والسلام منه أن يقرأ عليه القرآن ليسمعه منه، بل أذن له أن يدخل عليه بيته في أي وقت شاء، وأن يستمع إلى أسراره حتى ينهاه عن ذلك، كما جاء في سنن ابن ماجة . وفيما يتعلّق بالقصّة، فإن فحواها هو التنبيه على أن الميزان الحقيقي عند الله لا يكون بالصور ولا المناظر، ولكن بالجوهر والعمل، يقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم) متفق عليه، وقبل ذلك يقول الله في كتابه: { والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون} ( الأعراف-9) وهذا هو الوزن الحق والعدل. وفي القصّة بعدٌ عقدي، نصّ عليه كثيرٌ من علماء أهل السنة والجماعة، وهو إثبات أن الميزان كما يكون للأعمال يوم القيامة، فإنه يكون كذلك لصاحب العمل، استدلالاً بهذه القصّة، وبحديث النبي –صلى الله عليه وسلم- : ( إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة قال واقرءوا إن شتم: { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } ( الكهف : 105) ) متفق عليه.
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:12 am | |
| مواقف نبويـــة
سبقك بها عكاشة!!
عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (عُرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننتُ أنهم أمتي، فقيل لي هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرتُ فإذا سواد عظيم، فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سوادٌ عظيم، فقيل: لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله )، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال بعضهم: فلعلهم الذين وُلدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (ما الذي تخوضون فيه؟) فأخبروه فقال: (هم الذي لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكّلون) ، فقام عكاشة بن محصن رضي الله عنه فقال: ادع الله لي أن يجعلني منهم، فقال: (أنت منهم) ، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: (سبقك بها عكاشة) متفق عليه واللفظ للبخاري . معاني المفردات الرهيط: تصغير رهط وهم دون عشرة أنفس. سواد عظيم: وصفٌ يُطلق على الجماعة من الناس. تخوضون فيه: تتناقشون حوله وتتجادلون فيه. يسترقون: يطلبون الرقيا. يتطيرون: الطِيَرة هي التشاؤم. تفاصيل الموقف ( يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) ، كلماتٌ قليلة ألقاها النبي –صلى الله عليه وسلم- على مسامع أصحابه وفي مجلسٍ من مجالس وعظه، فكانت قبساً من ضياءٍ أنار أفقاً رحباً من المعاني التي تفيض بدلالاتها على النفوس فتحرّك المشاعر وتستجيش الخواطر ، وترسم في مخيّلتهم مشهداً من مشاهد يوم القيامة التي طالما سمعوا عنها على وجه البيان والتفصيل. كان ذلك حينما قام النبي –صلى الله عليه وسلم- بإخبار أصحابه عمّا رآه وسمعه، حينما عُرضت عليه الأمم يوم القيامة، كلّ أمّة تُدعى إلى كتابها ورسولها، فكان مما رآه: أنبياء لم يتبعهم سوى النفر القليل من الناس بالرغم من كلّ ما بذلوه من الجهد في سبيل كلمة التوحيد ونبذ الشرك، بل –وياللعجب- كان منهم أنبياء لم يستجب له أحدٌ من قومه. وفي ذلك المشهد: أبصر النبي –صلى الله عليه وسلم- سواداً عظيماً من الناس قد سدّ الأفق، فظنّ عليه الصلاة والسلام أنها أمته التي وصفها الله تعالى بأنها خير أمةٍ أُخرجت للناس، ومن مقتضيات تلك الخيريّة إذعانها للحق أكثر من غيرها. إذن، فقد كان ما وقع في نفسه –صلى الله عليه وسلم- له ما يُبرّره، غير أن ظنّه لم يكن في محلّه، إذ كان ذلك السواد الذي رآه هي أمة بني إسرائيل من أتباع موسى عليه السلام والمؤمنين به. ولم يحرم الله تعالى نبيه – صلى الله عليه وسلم- من رؤية أمتّه، فقد ناداه منادٍ أن ينظر إلى ناحيةٍ أخرى، فرأى سواداً أعظم مما رآه من قبل، فقيل له: " هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب!!". وبتلك الكلمات تداعت إلى الأذهان أخبار يوم "الصاخّة" و"القارعة" و"الغاشية" بكل أهواله وأحواله، ومشاقّه وعذاباته، وحرّه وطوله، وكأنّ جلساء النبي –صلى الله عليه وسلم- في موعظته تتجلّى أمامهم حقائق الألفاظ فيرونها بأعينهم، فينظروا كيف يُحشر الناس على صعيدٍ واحد، وكيف تدنو الشمس من رؤوس الخلائق، والعرق يغمرهم ويُلجمهم إلجاماً، حفاةً عراة كيوم ولدتهم أمهاتهم، قد أذهلهم ما يرونه من مشاهد الانقلاب الكوني الشامل للشمس وتكويرها، والنجوم وانكدارها وانتثارها، والبحار حين تُسجر، والقبور حين تُبعثر، وغير ذلك مما يعجز اللسان عن وصفه. ولئن كان انتظار بدء الحساب في ذلك اليوم سيطول ، ناهيك عما سيُسفر عنه ذلك الحساب من ثقل الموازين أو خفّتها، فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- قدّم في هذا المجلس بشارة عظيمة حول ثُلّة من أمّته، اصطفاها الله تعالى من دون الخلائق، فلا انتظار للحساب ولا توجّس من النتيجة: ( سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب) . وتعظم المنّة لتلك الفئة المباركة، وذلك بأن يدخلوا جنان عدنٍ دون أن تكون لهم سابقة عذابٍ، إيذاناً بتجاوز الله تعالى عنهم، وتمام نعمته عليهم. إن هذا لهو الشرف العظيم والفوز المبين، فمن الذي سيناله؟ وكيف السبيل إليه؟ وما هي صفات أهله؟، أسئلةٌ لم تُكنّها صدور أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذ الجميع راغبٌ أن يستحقّ ذلك الفضل وتلك المنقبة. قال قائل منهم: "فلعلهم الذين صحبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" وكانوا يعلمون أن صحبته عليه الصلاة والسلام مزيّة عُظمى لا يُشاركها فيهم غيرهم، فظنّوا أنها السبب في النجاة من الحساب والتخلّص من العذاب، وقال آخرون: "فلعلهم الذين وُلدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله" وليس من أبقى على فطرته نقيّة بيضاء منذ مولده كمن خالطها كفرٌ ولو تاب منه. واستمرّ تخمين الجلساء - وقتاً طويلاً دون أن يتفقوا على شيء، حتى عاد عليه الصلاة والسلام إلى مجلسه ورأى انشغالهم وجدالهم، فبيّن لهم ما كان خافياً عنهم: (هم الذي لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكّلون) . وما أن انتهى النبي –صلى الله عليه وسلم- من حديثه حتى انبرى عكاشة بن محصن رضي الله عنه قائلاً: "ادع الله لي أن يجعلني منهم"، قالها وهو يعلم أن دعاء الأنبياء عليهم السلام أرجى من دعاء غيرهم، ويتنزّل الوحي على رسول الله عليه الصلاة والسلام مبشّراً عكاشة رضي الله عنه بالتحاقه بتلك الزمرة الناجية: (أنت منهم) ، عند ذلك قام رجل آخر يريد أن يصنع كصنيع أخيه لعلّه أن يشاركه الفضل، فقال: "ادع الله أن يجعلني منهم"، لكن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يُرد أن يفتح هذا الباب، فردّ على الرجل ردّاً لطيفاً لا يجرح المشاعر: (سبقك بها عكاشة) .
إضاءات على الموقف يُعتبر هذا الحديث من أحاديث العقيدة العظام، وقد تناوله الشرّاح قديماً وحديثاً وأولوه اهتماماً خاصّاً، وقضيّة هذا الحديث حول تحقيق التوحيد وتخليصه من أية شوائب قد تُنافي كماله، وذلك من خلال إتمام التوكّل على الله سبحانه وتعالى والاعتماد عليه، مع بيان فضل من حقّق ذلك. ومدار الصفات التي ذكرها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- للناجين من الحساب والعذاب على قضيّة التوكّل، فترك طلب الرقيا من الناس دليلٌ على التعلّق الكامل بالله عزّ وجلّ، كذلك الأمر في ترك الاكتواء وترك التطيّر والتشاؤم.
ومن دلالات الحديث: أن الحق لا يُعرف بعدد أتباعه، وأن كثرة الأتباع لا تُعدّ مقياساً صحيحاً على سلامة المنهج، فكم رأينا من الدعوات الهدّامة والأديان الأرضيّة الباطلة يتبعها ما لا يحصيه أحد، في حين أن من الأنبياء –كما هو نصّ الحديث- من يأتي ومعه الرجل والرجلان، ومنهم من ليس معه أحد على الإطلاق، ولذلك قالوا قديماً : " لا تعرف الحق بالرجال، ولكن اعرف الرجال بالحق".
ويدل الحديث على فضيلة هذه الأمة من ناحيتين: ناحية عدد الأتباع، فهم الأكثرون يوم القيامة، وكذلك من ناحية الكيفيّة، فإن منهم سبعين ألفاً يدخلون الجنّة بغير سابقة حسابٍ أو عذاب. كما أن الحديث احتوى على جملةٍ أخرى من الفوائد، منها: بيان فضيلة أصحاب موسى عليه السلام وكثرتهم، وظهور فضيلة عكاشة بن محصن رضي الله .
وفي الحديث كذلك: إظهار منازل المؤمنين في تحقيق التوحيد، وظهور فقه الصحابة الكرام حيث علموا أن التجاوز الإلهي عن بعض المؤمنين إنما نالوه لأجل ما كان منهم من العمل، وأنّ كثرة أتباع النبي –صلى الله عليه وسلم- دليلٌ على فضيلته عليه الصلاة والسلام وشرفه، وأن عرض الأمم على النبي –صلى الله عليه وسلم- فيه تسليةٌ لفؤاده وتطييب لخاطره حتى يزول ما يُلاقيه من صدود قومه عن دعوته، وفي الحديث دلالة على أن كلّ أمة تُحشر مع نبيّها، مصداقاً لقوله تعالى: { وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون} (الجاثية:28).
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:12 am | |
| مواقف نبويـــة
صدقك وهو كذوب!!
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : "وكلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنّك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: إني محتاج وعليّ عيال ولي حاجة شديدة، فخلّيتُ عنه فأصبحتُ فقال النبي -صلى الله عليه و سلم-: ( يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ ) ، قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال: ( أما إنه قد كذبك وسيعود ) ، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله -صلى الله عليه و سلم- إنه سيعود، فرصدتُه فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: دعني فإني محتاج وعليّ عيال لا أعود. فرحمته فخلّيت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( يا أباهريرة ما فعل أسيرك؟ ) . قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال: ( أما إنه كذبك وسيعود ) . فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنّك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات تزعم لا تعود ثم تعود، قال: دعني أعلّمك كلماتٍ ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم} (البقرة:255) حتى تختم الآية؛ فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح؛ فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( ما فعل أسيرك البارحة؟ ) ، قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلماتٍ ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: ( ما هي؟ ) ، قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير -، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ ) . قال: لا، قال: ( ذاك شيطان ) رواه البخاري . معاني المفردات يحثو:يأخذ بكفّيه. عليّ عيال: عليّ نفقة العيال والمقصود بهم الزوجة والأولاد ونحوهم . فرصدته: راقبته . تفاصيل الموقف أوشكت ليالي رمضان على الانتهاء، وشارفت على الأفول، شاهدةً على صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واجتهادهم في العبادة والذكر، والصلاة والدعاء، وأعمال البرّ وأوجه الخير، وهذا الظنّ بطلاّب الجنّة ومتطلّبي الهداية، وهو المتصوّر ممن ربّاهم أعظم المعلّمين وسيّد الخلق أجمعين عليه الصلاة والسلام. وقبيل العيد بعدّة ليالٍ، استدعى النبي –صلى الله عليه وسلم- أبا هريرة رضي الله عنه وأمره أن يحفظ أموال زكاة الفطر؛ حتى لا تطالها أيدي ذوي النفوس المريضة والقلوب الضعيفة، فتلقّى أبو هريرة رضي الله عنه الأمر النبوي بصدرٍ رحب ونشاطٍ كبير، بل كانت هذه المهمّة الموكلة إليه مصدر فخرٍ وتباهٍ، فقد اختاره عليه الصلاة والسلام واجتباه دون غيره من الصحابة . وبدأت صدقات الفطر تتوافد على أبي هريرة رضي الله عنه من أنحاء المدينة وأقاصيها، وهو يُشرف على خزانتها وحفظها، تمهيداً لتوزيعها يوم العيد القادم بعد أيّامٍ ثلاث، حتى إذا جاء الليل وسكنت الحركة واشتدّت الظلمة رصد أبو هريرة رضي الله عنه حراكاً مشبوهاً يدلّ على محاولة جادّة لسرقة أموال المسلمين، وكان مصدر تلك المحاولة رجلٌ تستّر بجنح الليل لينهب الطعام المكوّم لديه بكلتا يديه، فقفز أبو هريرة رضي الله عنه مهتماً الهصور وانقضّ عليه ممسكاً به، وقائلاً له: " لأرفعنك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ". ارتعدت فرائص ذلك الشخص المجهول وزاغت عيناه، وبدت ملامح الخوف والهلع على محيّاه، فقال بصوت يقطر ألماً ومسكنة: " إني محتاج، وعليّ عيال، ولي حاجة شديدة". رقّت نفس أبي هريرة رضي الله عنه وهو يسمع كلماته التي تصف فقره ومسغبته، وهل صدقة الفطر إلا لأمثاله من المعوزين والمحتاجين؟ وهل ثمة خيرٌ من إسعاد نفسٍ وإدخال السرور عليها؟ وهنا قرر أبو هريرة رضي الله عنه أن يطلق سراحه ويتركه في سبيله. وجاء الصباح، وانطلق أبو هريرة رضي الله عنه، وصدى الحوار الذي دار بينه وبين أسيره لا يزال يرن في أذنه ويذكي في نفسه مشاعر الرحمة والشفقة، ورآه النبي -صلى الله عليه وسلم- مقبلاً، فإذا به يسأله : ( يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ ) . دُهِشَ أبو هريرة رضي الله عنه بهذا السؤال! ؛ إذْ كانت أحداث الأمس بمعزلٍ عن الناس فلم يسمعه أحد، لكن هذه الدهشة زالت سريعاً؛ فهو رسول الله المتصل بوحي السماء، فأخبره بتفاصيل ما حدث له بالأمس ، واستمع له النبي عليه الصلاة والسلام باهتمام، ثم أعلن له الخبر المفاجيء : ( أما إنه قد كذبك وسيعود ) . كذبني؟ واستغل طيبتي وحلمي؟ وفوق ذلك: سيعود للسرقة ويكرر الخطيئة؟! يا لوقاحة الرجل، واستحالت مشاعر الرأفة في نفس أبي هريرة رضي الله عنه إلى غضبٍ عارم، وما دام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر أنه سيعود فسيعود حتماً ، ولن يفلت الليلة بفعلته. وهكذا ظل أبو هريرة رضي الله عنه يترقّب طيلة يومه ونهاره، وفي الليل ألقى القبض على الرجل المتلبس بفعلته الشنعاء، لكن لصّ الصدقة هذا جمع إلى خفة يده براعةَ التظاهر والقدرة على الإقناع، فشرع يتصنّع المسكنة والذلّة حتى استطاع أن ينتزع من أبي هريرة رضي الله عنه كل عزمه وتصميمه على تسليمه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وانتهى الأمر بإطلاق سراحه. وفي اليوم التالي دار بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين أبي هريرة رضي الله عنه الحديث ذاته الذي دار بالأمس، وتكرر التحذير الموجه إلى أبي هريرة بعودة الرجل، وبالفعل راقب أبو هريرة رضي الله عنه الرجل مراقبة دقيقة ، فلما شرع في السرقة قبض عليه قبضاً شديداً ، وأفقده الأمل في أن يتركه يهرب بفعلته كما فعل في الليلتين الماضيتين، فقد استنفذ وسائل النجاة وصفح عنه المرة تلو المرة فما رعى الأمر حق رعايته، وما حفظ الجميل لأصحابه، وهنا لجأ الرّجل إلى أسلوبٍ جديد، وعرضٍ بديع، وذلك بقوله: " دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها". وهنا استيقظت في نفس أبي هريرة رضي الله عنه كوامن الخير ودوافع الرغبة في الاستزادة من العلم والمعرفة، ورأى أنها صفقةٌ عادلة، أن يتجاوز عن أسيره مقابل فائدةٍ جليلةٍ مضمونها أن قراءة آية الكرسيّ تحفظ المؤمن من كيد الشيطان بل تمنعه من الاقتراب منه حتى يصبح. وعند الصباح أخبر أبو هريرة رضي الله عنه النبي –صلى الله عليه وسلم- الخبر مستفسراً عن صحّة المقولة وقيمتها في ميزان الشرع، فأقرّ عليه الصلاة والسلام بصحّتها وقال: ( أما إنه قد صدقك وهو كذوب) ، ثم أراد أن يبيّن له الجانب الخفيّ لشخصيّة زائر الليل الذي كان من أمره عجباً: ( ذاك شيطان ) . إضاءات حول الموقف اتّجهت أنظار الشرّاح عند تناول هذا الموقف إلى قول النبي –صلى الله عليه وسلّم-: (صدقك وهو كذوب) ؛ فإنها تُلفت النظر إلى ركيزةٍ أساسيّة في خلق المسلم، والتي تتمثّل في العدل والقسط مع الآخرين، فأسير أبي هريرة شيطان، والشيطان هو أصل الشرور ومنبعها، ومع ذلك لم يمتنع رسول الله عليه الصلاة والسلام من إقرار مقولة الشيطان وبيان صدقه في هذا الموقف بالرغم من المعدن الخبيث للشيطان وتأصّل جانب الكذب والزور والافتراء عنده، ولذلك تحدّث العلماء بأن قول المصطفى عليه الصلاة والسلام (وهو كذوب) هو إتمامٌ بليغ لوصف الشيطان؛ حيث أثبت الصدق له على نحوٍ لا يوهم المدح المطلق، وهذا هو مقتضى القسط المأمور به شرعاً. وثمّة فائدةٌ أخرى تُستنبط من قول النبي –صلى الله عليه وسلم- المذكور سابقاً، وهي أن الحكمة ضالّة المؤمن أينما وجدها أخذ بها، فالفاجر قد يعلم الحق فلا يتّبعه ولا ينتفع به، فيتلقّاه المؤمن منه فيجد فيه الخير الكثير. ويدلّ الموقف على فضل آية الكرسي، فهي أعظم آية بنصّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم-، وفي قراءتها حفظٌ ووقاية من الشيطان، ومن قرأها بعد كل صلاة مكتوبةلم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت. ونشير أخيراً إلى جملةٍ من الفوائد المستنبطة، ومن ذلك: إمكان رؤية الإنس للجنّ ولكن في غير صورتهم الحقيقيّة، وبيان حرص الصحابة على الخير وإقبالهم عليه، وظهور حلم النبي –صلى الله عليه وسلم- حينما لم يُعنّف أبا هريرة رضي الله عنه على تركه لأسيره، وخوف الجن والشياطين من المؤمنين الصالحين، وأن للشياطين أزواجاً وذريّة، وأن شياطين الجن تعرف الحقّ وتجحده كشياطين الإنس، وأن التريّث على مفسدةٍ خفيفةٍ جائزٌ إذا كانت نهايتها مصلحةً مؤكّدة وهي هنا علمٌ صالح، وبيان جواز جمع صدقة الفطر قبيل العيد بيومٍ أو يومين.
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:13 am | |
| مواقف نبويـــة
لست من أهل النار
عن أنس بن مالك رضي الله عنهأن النبي -صلى الله عليه وسلم- افتقد ثابت بن قيس رضي الله عنه، فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه. فأتاه فوجده جالساً في بيته منكساً رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال: شر. كان يرفع صوته فوق صوت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد حبط عمله وهو من أهل النار، فأتى الرجل فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال كذا وكذا، فرجع الرجل المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال: ( اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة ) متفق عليه واللفظ للبخاري . وفي رواية مسلم أنه لما نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى} (الحجرات:2) إلى آخر الآية جلس ثابت بن قيس رضي الله عنه في بيته وقال: أنا من أهل النار. واحتبس عن النبى -صلى الله عليه وسلم-، فسأل النبي عليه الصلاة والسلام سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال: ( يا أبا عمرو ما شأن ثابت أشتكى؟) . قال سعد : إنه لجاري وما علمت له بشكوى، فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال ثابت : أُنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبى -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( بل هو من أهل الجنة ) . معاني المفردات افتقد: أي لم يجده في القوم . منكسا رأسه: ناظراً إلى الأرض دلالة على الحزن. حبط: ذهب أجره وبطل عمله.
تفاصيل الموقف هناك من الصحابة الكرام من إذا ذُكر اسمه ذُكر معه لقبه الذي اشتُهر به وعُرف عنه، فإذا قيل: أبو بكر فهو الصدّيق، وإذا قيل: أبو عبيدة فهو أمين هذه الأمة، وقل مثل ذلك عن الفاروق عمر وشاعر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حسان بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين، ولكن قد يخفى على البعض معرفة من لُقّب بـ(خطيب) النبي عليه الصلاة والسلام! إنه أبو محمد ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، الخزرجي نسباً والمدني وطناً، ذو القلب النديّ والصوت الجَهْوَرِي الشجيّ، آسر الناس بقوّة كلماته وروعة بيانه، وبلاغة ألفاظه وجمال أسلوبه. ولقد ذاع صيت ثابت بن قيس رضي الله عنه واشتهر خبره حتى علمه القاصي والداني، ويوم أن لحق بركب المؤمنين اصطفاه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خطيباً كما اصطفى حسان بن ثابت رضي الله عنه ليكون شاعر الإسلام.
وكثيراً ما كانت الوفود تقدم على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في المدينة، فتتفاخر أمامه بخطبائها وشعرائها، فلا يقوون على المبارزة الأدبيّة مع ثابت وحسان رضي الله عنهما. وشاء الله سبحانه وتعالى أن يتنزّل الوحي بالآية الكريمة: { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} (الحجرات:2)، فيضطرب لها فؤاد خطيب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؛ فقد كان يعلم من نفسه علوّ نبرة الصوت الذي مكّنه من الوقوف في المحافل والمجامع، لكنّ الآية تنهى بوضوح أن تعلو أصواتهم صوته، وكلامهم كلامه، تأدّباً معه وإجلالاً له، وإذا كان الأمر كذلك فهو هالكٌ لا محالة، ومهدّد بفساد عمله، وحبوط أجره. وهكذا أَسقَط ثابت بن قيس رضي الله عنه الآية على نفسه وتعامل معها وكأنّها تخاطبه مباشرةً، ولم يجد مخرجاً من هذه المعضلة إلا بأن يُقلّل لقاءاته برسول الله – صلى الله عليه وسلم- قدر ما يستطيع، ولا يكون ذلك إلا بلزوم البيت وعدم الخروج منه إلا لضرورة أو صلاة مكتوبة. وتمرّ الأيّام، وتزداد العزلة، ويفتقده رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ويسأل عنه أصحابه، فينبرى سعد بن معاذ رضي الله عنه سيّد الأوس لمهمّة التقصّي، فقد كان جاره وأقرب الناس إليه. وما أن يدخل سعد بن معاذ رضي الله عنه على ثابت حتى يبصر جسداً أنهكه التفكير، وعيناً غشاها الدمع، ووجهاً شاحباً فقد نضارته وتألّقه، وعلت فيه سحابة من الحزن والكآبة، وقد نكس رأسه تحت وطأة همٍّ كبيرٍ الله أعلم بحقيقته، فجزع سعد رضي الله عنه وقال فزعاً: " ما شأنك؟" فأجابه ثابتٌ بكلمة واحدةٍ جمعت كلّ مخاوفه: " شرٌّ" ثم لم يُطق كتمان ما يجول بخاطره ويؤرّق باله، فانطلق يشكو إلى جاره ما كان منه تجاه المصطفى –صلى الله عليه وسلم- وختم شكواه بقوله: " فأنا من أهل النار". وبعدما وقف سعد رضي الله عنه على حقيقة الخبر، انطلق إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقصّ عليه ما دار بينه وبين ثابت رضي الله عنهما، وتبسّم المصطفى عليه الصلاة والسلام، فهو يعلم أن ثابتاً ما كان ليرفع صوته عن سوء أدبٍ، ولكنّها جبلّة وطبيعة لا يملك منها فكاكاً، ولذلك جاء جوابه عليه الصلاة والسلام سريعاً وحاسماً يستمدّ يقينه من وحي السماء: ( اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكن من أهل الجنة ) .
وتأتي الأيّام لتصدّق نبوّة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فإن ثابتاً رضي الله عنه شارك في معركة اليمامة ضدّ مسيلمة الكذّاب وأبلى فيها بلاءً حسناً يُقرّ به كل من كان في المعركة حتى سقط شهيداً، فرضي الله عنه وأرضاه.
إضاءات حول الموقف يتعجّب المرء حين يقرأ أمثال هذه المواقف النبويّة، وذلك حين يلمس الحسّ المرهف والإجلال الكبير من الصحابة تجاه رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فثابت رضي الله عنه لم يكن منه سوى ارتفاع صوتٍ غير مقصود، ولا يحمل دلالة استنقاصٍ أو استخفاف، لكنّه الخوف من الذنب، والتعظيم لمقام النبوّة، وحفظ جناب المصطفى عليه الصلاة والسلام من أن يناله ما يؤذيه من قول أو فعل. ولقد بلغ الحياء عند ثابت رضي الله عنه مبلغاً عظيماً بحيث لم يجرؤ على مصارحة الرسول –صلى الله عليه وسلم- بما يجول في نفسه من المشاعر والهواجس، وهذا يؤكّد أن حواريّي النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه كانوا يمثّلون أكمل جيل وأعظم رعيل، وبمثل هذه الأخلاق الفاضلة استحقّوا مكانتهم عند الله وعند الناس.
ومن اللافت للنظر هنا، أن النبي – صلى الله عليه وسلم- كان يتفقّد أصحابه ويلحظ غيابهم، وذلك بالرغم من كثرة مشاغله وتعدّد مسؤوليّاته من جهة، وكثرة أصحابه ومحبّيه من جهة أخرى، وهذا القدر من الالتفات إلى الإخوة في الدين لهو مَعْلمٌ من معالم الخلق النبوي بعظمته وسموّه.
وأخيراً: فإن شرّاح السنّة اعتبروا هذه الحادثة آية على نبوّته –صلى الله عليه وسلم- ونموذجاً من نماذج الدلائل على صدقه فيما يتعلّق بالجانب الغيبيّ؛ فقد بشّر عليه الصلاة والسلام ثابتاً بالثبات على الدين والموت على الملّة ثم دخول الجنّة، فكان الأمر كما قال، وصدق الله تعالى إذ يقول: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلاَّ وحي يوحى} (النجم: 3-4).
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:14 am | |
| مواقف نبويـــة
الراغبون عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء ثلاثة رَهْطٍ إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا كأنهم تقالّوها فقالوا: أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- ؟، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) " متفق عليه واللفظ للبخاري . وفي رواية مسلم : "فحمد الله وأثنى عليه، فقال: ( ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) ". معاني المفردات تقالّوها: اعتبروها قليلة . أبداً: دائماً من غير انقطاع . الدهر: أي أواصل الصيام من دون توقّف . أرقد: أنام . رغب عن سنتي: أي أعرض عنها . تفاصيل الموقف بزغ من الأفق البعيد ركبٌ أقبلوا على المدينة والسعادة تملأ قلوبهم، والشوق يُذكي عزائمهم، غير مبالين بفيح الصحراء أو حرّ الرمضاء، ولا شاعرين ببعد المسافة أو طول الرحلة، وحُقّ لهم ذلك فقد أوشكوا على الوصول إلى مقصدهم وتحقيق هدفهم. إنهم ثلاثة، جمعهم الإيمان وألّف بين قلوبهم، ووصلتهم أنوار الرسالة، وتوالت عليهم الأخبار الصادقة عن ذلك النبي العظيم، كم حدّثوهم عن تواضعه وحلمه ووفائه، وكم أخبروهم عن إخلاصه ورحمته ووفائه، وكم أفاضوا في ذكر فضائله وأفضاله، وخصائصه وأخلاقه، وشمائله وصفاته. كم أرهفوا السمع وأعملوا الفكر وأطلقوا عنان الخيال، ولكن من بعيد!، وآن الأوان كي يقتربوا من منبع ذلك النهر المتدفق، ليرتووا من أصله، ويرتشفوا من هديه، بل حان الوقت ليروا رأي العين سموّ الأنبياء وعظمة الأتقياء، فيرصدوا حركاتها وسكناتها، وخطاها وأفعالها، وسيرتها وسريرتها. ها هي المدينة بشوارعها وحواريها، وأسواقها وتجمّعاتها، وبيوتها وبساتينها، يمشون على ثراها بأرجلهم في الوقت الذي تكاد أن تطير قلوبهم غبطةً وسروراً باللقاء المرتقب مع أسمى ما عرفت البشريّة من العظمة والبهاء، والجلال والجمال. وما بين سؤالٍ واستفسار، وانتقال من موضعٍ إلى آخر، إذْ وصلوا أمام حجرات بيت النبي –صلى الله عليه وسلم-، فطرقوا الباب على أمل أن يفتح لهم النبي عليه الصلاة والسلام فيُكحّلوا أعينهم بوجهٍ طالما حلموا به، ويُطربوا أسماعهم بصوتٍ لم يزالوا يشتاقون إليه، فإذا بالخبر يأتيهم من أحدى زوجات النبي عليه الصلاة والسلام أنه غير موجود، وأنه عائدٌ ولابد. لحظات الانتظار مزعجة، والشوق إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- يتنامى، والرغبة في معرفة أحواله تتعاظم، فلم يستطع أولئك الركب أن يكتموا أسئلتهم عن أمهم وأم المؤمنين جميعاً، ليعرفوا الحقيقة عن كَثَب، ويقفوا على حال النبي عليه الصلاة والسلام مع ربّه في خلوته ومحرابه، ومن يعلم ذلك إن لم تعلمه زوجته وألصق الناس به؟ وهكذا توالت الأسئلة تتلوها الإجابات، في حوارٍ تفصيلي دار من وراء حجاب، لكن ما سمعوه لم يشفِ غليلهم، ولم يكن بالقدر الذي تخيّلوه، فلقد ظنّوا أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قائمٌ طيلة الليل ساردٌ للصوم جميع أيّامه، وأن هذا المستوى من العبادة لهو الخليق بمن كان أحبّ الخلق للخالق! لقد قالوا: " أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- ؟، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" وكأنهم يريدون القول أن النبي –صلى الله عليه وسلم- ليس بحاجة إلى إجهاد النفس بالعبادة حيث ضمن المغفرة من الله، أما هم: فينبغي عليهم أن يجتهدوا أكثر من ذلك؛ لذا قرّر الأوّل أن يصلي الليل أبداً، والثاني أن يصوم أيّامه كلّها ولا يفطر، وأما الثالث فاختار أن يعتزل النساء فلا يتزوّج! ويصل الخبر إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- من أهل بيته بما قالوا، فينطلق إليهم مسرعاً، ويتأكّد مما قالوا، ثم يحدّثهم بالمنطق السديد والعقل الرشيد: ( أما والله أني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) ؛ وحتى يعمّم التوجيه وقف في الناس واعظاً وأبلغهم ذات الرسالة المطلوبة من التوسّط المطلوب في العبادة، بعيداً عن الغلو والإجحاف. إضاءات حول الموقف أعظم ما نستشرفه من هذا الموقف العظيم: التحذير من الغلو في الدين، والتنطّع في تطبيقه، والتشدّد في فهمه؛ وذلك لمجافاته التامة لحقيقة الإسلام وجوهره القائم على اليُسر والسماحة، والتوسّط والاعتدال، فكان النهي عن هذا المسلك لئلا نهلك كما هلك من كان قبلنا من الأمم السابقة، قال الله عزّ وجل: { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} (المائدة:77)، وصحّ عن النبي –صلى الله عليه وسلّم قوله: ( يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين؛ فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ) رواه ابن ماجة . وقد خشي النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يكون مثل هذا الإفراط والتنطّع سبباً في تشديد الله على عباده، فقد جاء عنه قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تُشدّدوا على أنفسكم فيُشدّد عليكم؛ فإن قوماً شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم، فتلك بقاياهم فى الصوامع والديار {رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم} (الحديد:27) ) رواه أبو داوود . ومن مضارّ هذه المغالاة أن صاحبها غالباً ما يصيبه استثقال العبادة والملل من المداومة عليها، ثم يؤول به الأمر إلى الانقطاع عن العبادة تماماً، فيكون حاله كحال المسافر الذي أجهد راحلته بالسفر ولم يُعطه فرصةً للراحة، حتى خارت قواه ولم يعد يستطيع المواصلة، فلا هو بالذي أبقى على راحلته، ولا هو بالذي بلغ مراده، يقول الحافظ ابن حجر : " لا يتعمق أحد في الأعمال الدينيه ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيُغلب". والمطلوب تحقيق الموازنة بين العبادة وبين حاجات النفس، بحيث يقبل المؤمن على الدين برفقٍ وتمهّل، فيعطي نفسه فرصة اعتياد هذه التكاليف وتحمّلها دون سآمة أو ملل، ويستغلّ فترات الإقبال بالطاعة، والفتور بالراحة، ويكون كالشجرة التي تنمو صاعدةً في ثقة وطمأنينة، فيبلغ مراده ويحقق مطلوبه. لكن يجدر التنبيه هنا إلى ما يقع به بعض العوام من خلطٍ في المفاهيم، وذلك حينما يُدخلون في التنطّع المذموم كل من كان متمسّكاً بآداب الإسلام وتعاليمه، وأوامره ونواهيه، ومعلومٌ أن الغلو هو التجاوز في الحدّ في القول والفعل، بينما حال أهل الاستقامة هو لزوم الحدّ المطلوب، وبينهما فرق. ونختم بجملة من الفوائد، منها: بيان حبّ الصحابة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم-، وحرصهم على تتبّع مواطن الخير والسعي في تحقيقها، وأدب النبي –صلى الله عليه وسلم- حينما لم يذكر أسماء القوم في خطبته واكتفى بقوله: ( ما بال أقوام) ، والترغيب بالنكاح وأفضليّته خصوصاً للقادرين عليه.
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:15 am | |
| مواقف نبويـــة
أدركوا المرأة
عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : "لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى، حتى إذا كادت أن تُشرف على القتلى، فكره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تراهم، فقال: (المرأة المرأة) ، فتوسمت أنها أمي صفية ، فخرجت أسعى إليها فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى، فلدمت في صدري وكانت امرأة جَلْدَة، قالت: إليك لا أرض لك، فقلت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عزم عليك، فوَقَفَت وأخرجت ثوبين معها فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة ، فقد بلغني مقتله فكفّنوه فيهما، فجئنا بالثوبين لنكفّن فيهما حمزة فإذا إلى جنبه رجلٌ من الأنصار قتيل قد فُعل به كما فعل بحمزة ، فوجدنا غضاضة وحياءً أن نكفّن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له، فقلنا: لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب، فقدرناهما فكان أحدهما أكبر من الآخر، فأقرعنا بينهما فكفّنّا كل واحد منهما في الثوب الذي صار له" رواه أحمد . معاني المفردات فتوسّمت: تبيّن له أنها صفيّة بالفراسة والنظر. فلدمت في صدري: أي دفعته بيدها في صدره. امرأة جلدة: أي امرأة صلبة وقويّة النفس. غضاضة: الذلة والمنقصة والعيب. تفاصيل الموقف انجلت معركة أحد، وفي القلوب انزعاج لا يُحتمل، وفي النفوس جراحٌ لا تندمل، فها هي الدائرة تدور على المسلمين الذين لم يحقّقوا أسباب النصر بمخالفتهم لأوامر رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فاستحقّوا ما حصل لهم، لكن وَقْع الهزيمة عليهم أذهلهم عن جراحات أجسادهم، فقد خالط الأرواح شعورٌ بمرارة الهزيمة، وهجم على الناس داء الحزن والقهر فأضناهم وأثقل كاهلهم. وتشتدّ النكبة وتعظم المصيبة بمقتل ثُلّة من خيرة أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وغرّة فرسانه، أولئك النجوم اللوامع التي صاغها الإيمان ورباها نبي الإسلام طيلة سنوات القهر المكّيّة، من مثل مصعب بن عُمير، وسعد بن الربيع، وعبدالله بن جحش، وحنظلة بن أبي عامر، وعبدالله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح، وسيد الشهداء: حمزة بن عبدالمطلب ، رضي الله عنهم أجمعين. ويحمل المشهد صورة القتلى وقد تناثروا في ساحة المعركة، والمسلمون وقد تحاملوا على أنفسهم ليُواروا جثامين الشهداء تحت الثرى، وبينما هم كذلك إذ أقبلت امرأة تحثّ الخطى من بعيد، حتى كادت من سرعتها أن تصل إلى ساحة المعركة وتُبصر ما بها من أهوال. ويلمح النبي –صلى الله عليه وسلم- تلك المرأة وهي مقبلة نحوهم، فيخشى عليه الصلاة والسلام أن تُصدم بتلك المناظر البشعة التي رسمها القتال بلون الدم وأعبق أجواءها برائحة الموت، والنبي عليه الصلاة والسلام يعلم ما خُلقت عليه النساء من رقةٍ في الإحساس وإرهافٍ في الشعور، فلن تحتمل تلك المرأة مشاهدة ما قام به المشركون من تنكيل بالمسلمين وتمثيلٍ بجثثهم على نحوٍ يُعبّر عن بربريتهم وهمجيّتهم. وهنا تنطلق الصيحة النبويّة: ( المرأة المرأة) وتتلقّفها أُذُنا الزبير بن العوام رضي الله عنه الذي كان أقرب الناس إليها، فانطلق كالسهم نحوها وأدركها قبل أن تصل إلى القتلى، فإذا بها أمّه صفيّة بنت عبدالمطلب رضي الله عنها، فوقف أمامها ليقطع عنها الطريق ويمنعها من المواصلة. لكن صفيّة رضي الله عنها كانت بطبيعتها امرأة رابطة الجأش قويّة النفس، فدفعت ولدها في صدره لتنحّيه جانباً، واستمات الزبير رضي الله عنه في منع والدته وقال لها: " إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عزم عليك" فلما علمت أنه أمرٌ نبوي رضخت للأمر، وأخرجت ثوبين كانا بحوزتها، ثم طلبت من الزبير أن يجعلهما كفناً لأخيها حمزة رضي الله عنه. أخذ الزبير الثوبين وانطلق بهما إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وعندما أشرفوا على حمزة رضي الله عنه وجدوا بجانبه أحد الأنصار وقد مثّل المشركون بجثّته كما مُثّل بأخيه حمزة ، فاستحيوا أن يُكفّنوا حمزة ويتركوا الأنصاري من غير كفن، فقالوا: " لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب"، فدُفن كلٌّ منهما بثوبه الذي صار له، والذي سيُبعث عليه يوم القيامة. إضاءات حول الموقف في الموقف النبوي بعدٌ تربوي عميق المعنى، شديد الأهميّة، ألا وهو الحديث عن أثر المشاهد الدمويّة التي تُخلّفها الحروب على نفوس مشاهديها من النساء والأطفال، خصوصاً إذا احتوت تلك المشاهد والصور على الأطراف المبتورة والأشلاء الممزقة والمجازر الرهيبة والإبادة الجماعيّة. ويكمن الخطر في أن تلك المناظر تعرّض المشاهد لها إلى صدمة نفسيّة شديدة، يشتدّ أثرها إن كان من الأطفال، وتظهر عليهم في صورة اضطرابات عصبيّة، بحيث تكثر فيهم الرؤى المخيفة ويتكرّس لديهم الشعور بالخوف والقلق والاكتئاب، فضلاً عما قد يكتسبه المشاهد من سلوكٍ عدواني في المستقبل. لذا نجد من الحكمة النبويّة، أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- للزبير بن العوام رضي الله عنه أن يمنع والدته من مشاهدة قتلى أحد، خوفاً عليها من الأثر السلبي الذي قد يحدث لها جرّاء المناظر البشعة. وهذا يقودنا إلى الحديث عن أمرٍ آخر تُخطئ فيه الجهات الإعلاميّة التي تبثّ تلك الفواجع والكوارث مما لا يصلح للعرض، فبعيداً عن الأثر السلبي الذي ذكرناه، فإن في سياسة النشر المتّبعة انتهاكاً واضحاً لحرمة الأموات والجرحى خصوصاً من المسلمين، إذ الواجب ستر العورات لا انتهاك الخصوصيّات مهما كانت المبررات، والمطلوب ستر الميت لا نشر صور أشلائه!، حتى لو كان المقصود من تلك الصور والمشاهدات فضح أفعال المجرمين والقتلة؛ فإن القائم على أمر الإعلام يمكنه الاختيار والانتقاء، فيُحقق الرسالة الإعلامية المطلوبة من جهة، ويتجنب الوقوع في المحذور من جهة أخرى. ويبقى في الموقف دروسٌ أخرى، منها: بيان صبر صفيّة رضي الله عنها وتجلّدها بالرغم من قتل أخيها، ثم ظهور سرعة استجابتها عندما علمت عزم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عليها بعدم التقدّم إلى ساحة المعركة، ومن الدروس كذلك: ظهور مبدأ المساواة في أبهى صوره حينما أخذ الصحابة بمبدأ القرعة بين عمّ الرسول عليه الصلاة والسلام وبين أخيه الأنصاري، فلم يؤثروا حمزة لمكانه من سيد الأوّلين والآخرين، وتلك ثمرةٌ من ثمار التربية النبويّة .
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:16 am | |
| مواقف نبويـــة
ألا هل بركت!!
عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: "مرّ عامر بن ربيعة بسهل بن حنيف رضي الله عنهما وهو يغتسل، فقال: لم أر كاليوم ولا جِلدَ مُخبّأة، فما لبث أن لُبِطَ به، فأتي به النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقيل له: أدرك سهلاً صريعاً، قال : ( من تتهمون به؟) ، قالوا: عامر بن ربيعة ، فقال: ( علام يقتل أحدكم أخاه؟ إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة ) ، ثم دعا بماء، فأمر عامراً أن يتوضأ، فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، وركبتيه وداخلة إزاره، وأمره أن يصب عليه" رواه ابن ماجة . وفي رواية للطبراني وغيره: "فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس". معاني المفردات جِلدَ مُخبّأة: المخبّأة هي الجارية التي في خدرها لم تتزوج بعد. لُبِطَ به: صُرِع بسببه وسقط على الأرض. فليدع له بالبركة: فليقل له بارك الله فيك. وداخِلَة إزاره: طرفه وحاشيته من الداخل. تفاصيل الموقف بين مهاجري وأنصاري استحكمت عُرى المحبّة وتشابكت أغصان الأخوة حتى غدت جنّة وارفة الظلال، أما المهاجري: فهو عامر بن ربيعة أحد السابقين الأوّلين والقلائل المعدودين الذين هاجروا الهجرتين وشهدوا مع رسول الله -صلى الله عليه و سلم- غزوة بدر، وأما الأنصاري: فهو سهل بن حنيف أحد الأبطال الذين شهدت لهم ساحات القتال بشجاعتهم وثباتهم، لا سيّما يوم أحد حين انكشف الناس عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فبايعه يومئذٍ على الموت وقام ينافح عنه بالنَبل، حتى انكشفت الغمّة وانتهت المعركة. ولقد قامت دلائل المحبّة بين الصحابييّن الجليلين واضحةً لكل من كان يعرفهما ويراهما، ومن بين تلك الدلائل ما كان بينهما من التزاور والتلاقي بين الحين والآخر، خصوصاً إذا استبطأ أحدهما رؤية أخيه أو افتقده. ويوماً عزم عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن يزور أخاه سهلاً كعادته، فدخل عليه فإذا به يغتسل، وعندها توقّف عامر رضي الله عنه مشدوهاً، وهاله ما رآه من جمال أخيه الأنصاري الذي فاقت محاسنه كلّ تصوّر، فلم يُر قط بياضٌ كبياض جلده، ولا زهرة كزهرة لونه، فانفلت لسان عامر المعجب قائلاً: " لم أر كاليوم ولا جِلدَ مُخبّأة!". وما أن خرجت تلك الكلمات من فم عامر رضي الله عنه حتى انطلقت سهماً صائباً في أخيه، فتهاوى جسده وتخاذلت قدماه، وخرّ صريعاً من لحظته. تفاجأ عامر رضي الله عنه بما حدث، فلم يكن يتصوّر أن تُحدث كلماته في أخيه كلّ هذا الأثر، وندم على تسرّعه وتلقائيّته، وفي الوقت ذاته: ألجمته المصيبة التي حلّت فلم يدرِ ما يصنع. وسرعان ما حُمل سهل رضي الله عنه إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- والناس ينظرون إليه فزعين، وكلماتهم تستنجد برسول الله –صلى الله عليه وسلم- ليُرشدهم في إنقاذه قائلين: " أدرك سهلاً صريعاً". نظر النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى سهل رضي الله عنه وهو في حالةٍ يُرثى لها من الإعياء والإجهاد، وأدرك من النظرة الأولى أنه مصابٌ بالعين، فاستفسر عن الفاعل، فأُخبر أنه عامر رضي الله عنه، فغضب لذلك ووجه كلامه لعامّة من كان حوله: ( علام يقتل أحدكم أخاه؟) ، وحتى لا تتكرّر المأساة بيّن لهم ما يجب فعله على من رأى ما يُعجبه: (إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة ) . وبعد التحصين جاء دور العلاج، فدعا بماء وأمر عامراً أن يتوضأ منه ، فيغسل الوجه واليدين، ثم الركبتين وطرف الإزار، ثم أمر أن يُجمع ذلك الماء فيُصبّ على سهل رضي الله عنه، وسرعان ما انجلت الغُمّة وانكشف البلاء، وزالت العين، لتكون تلك الحادثة شاهدة على أثر العين، ودرساً مهماً في كيفية التعامل معها.
إضاءات حول الموقف تُبرز الحادثة التي وقفنا معها مدى خطورة العين وقوّة تأثيرها وبالغ ضررها؛ فهي ذلك السهم الذي لا يُرى بالعيون المجرّدة ولكن يُدرك أثرها من خلال نتائجها الوخيمة، فتجعل السليم سقيماً، والقوي ضعيفاً، والكثير قليلاً، والخصيب قاحلاً، بل هي القادرة على إنزال الفارس عن مركبه، وإيراد الرجل القبر، وإدخال الجمل القدر، كما صحّ بذلك الحديث. ولأن العين حق، وأثرها نافذ وشرّها واقع، جاءت الأوامر الشرعيّة والنصوص النبويّة لتحذّر الناس من خطرها، وتدعوهم إلى التحصّن منها، وتبيّن لهم سبل الوقاية، وكيفيّة رفع بلائها. فقد جاءت الوصيّة من النبي –صلى الله عليه وسلم- بالتزام الأذكار والأوراد الشرعيّة في كل يوم وليلة، كقراءة آية الكرسي، والدعاء بقول: " أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة"، وقول: " أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق"، والمداومة على قراءة سورتي "الفلق والناس" التي قال عنهما النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما تعوذ متعوذ بمثلهما) رواه أبو داوود . كما جاء التشديد على ضرورة ذكر الله تعالى والدعاء بالبركة عند رؤية المستحسن من الأمور، فقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: ( إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة؛ فإن العين حق) رواه الحاكم . فإذا وقعت العين، شُرعت الرقية لدفعها، وقد كان جبريل عليه السلام يرقي النبي –صلى الله عليه وسلم- بقوله: " بسم الله أرقيك من كل شىء يؤذيك ، من شر كل نفس أو عينِ حاسد ، الله يشفيك، باسم الله أرقيك" رواه مسلم ، ورخّص النبي عليه الصلاة والسلام-كما صحّ عنه- بالرقى ما لم تكن شركاً. ومن وسائل الاستشفاء من العين، الاغتسال من الماء الذي توضّأ منه العائن واغتسل به على نحو ما مرّ بنا في الموقف الذي تناولناه، ولا ينبغي للمسلم أن يمتنع من الاغتسال إذا اتُّهم بالعين، لأن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا استُغسلتم فاغتسلوا) رواه مسلم . ومما يعين على درء العين والوقاية منها، ستر المحاسن عن أعين الناس حتى يُؤمن جانبهم، خصوصاً إذا كان الستر عند من لا يُؤمن شرّه، وقد رأى عثمان بن عفان رضي الله عنه غلاماً جميلاً ، فأمر أهله أن يخفوا جماله حتى لا تصيبه العين. وخير ما نختم به قول الإمام ابن القيم في هذا الباب، حيث قال: " ومن جرّب هذه الدعوات والتعوّذات عرف مقدار منفعتها وشدة الحاجة إليها ، وهي تمنع وصول أثر العائن ، وتدفعه بعد وصوله ، بحسب قوة إيمان قائلها ، وقوة نفسه واستعداده ، وقوة توكله وثبات قلبه ، فإنها سلاح ، والسلاح بضاربه لا بحدّه" .
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:16 am | |
| مواقف نبويـــة
فيك جاهلية
عن المعرور بن سويد قال: "رأيت أبا ذر رضي الله عنه وعليه بُردٌ وعلى غلامه بُرد، فقلت: لو أخذتَ هذا فلبسته كانت حلّة، وأعطيته ثوباً آخر، فقال: كان بيني وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية فنلت منها، فذكرني إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لي: ( أساببت فلاناً؟ ) ، قلت: نعم قال: ( أفنلت من أمه؟ ) ، قلت: نعم، قال: ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) ، قلت: على حين ساعتي هذه من كبر السن ؟، قال: ( نعم، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليُطعمه مما يأكل، وليُلبسه مما يلبس، ولا يكلّفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليُعِنْه عليه ) "متفق عليه واللفظ للبخاري . وفي رواية مسلم : "فشكاني إلى النبى -صلى الله عليه وسلم- فلقيت النبى -صلى الله عليه وسلم- فقال: (يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية) ، قلت: يا رسول الله، من سبّ الرجال سبّوا أباه وأمه، قال: (يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية) ". وفي رواية أبي داوود : (إنهم إخوانكم فضّلكم الله عليهم، فمن لم يلائمكم فبيعوه ولا تعذّبوا خلق الله) .
معاني المفردات بُرد: هو كساء مربع مخطط حلّة: الحلة هي ثوبان من جنس واحد يلبسان معاّ. أعجمية: حبشية من غير العرب. نلت منها: أي ذمّها. فعيّرته بأمّه: عاب عليه بسبب أمه لكونها سوداء. فيك جاهلية: أي خصلة من خصال الجاهلية وهي التفاخر بالآباء. على حين ساعتي هذه من كبر السن: يعني بعد هذا العمر الطويل الذي قضاه في الإسلام؟ خَوَلكم : الخول : أتباع الرجل، وهو اسم يقع على العبد . تحت أيديكم: أي تحت سلطتكم. ما يغلبهم: ما يعجزون عن القيام به يلائمكم : يناسبكم؟ تفاصيل الموقف في بادية من البوادي التي تحيط بالمدينة، عاش شيخٌ وقور كانت له قدم صدقٍ عند ربّه، وقد كان من أوائل الذين التحقوا بقوافل المؤمنين والرسالة المحمّدية، ومن النوادر الذين بدؤوا صفحات حياتهم بالمواجهة والتحدّي والمصادمة مع أعداء الملّة وطواغيت الكفر، فأصابه لأجل ذلك أذىً كثيراً، وما زاده البلاء إلا استمساكاً بدين الله وإقبالاً على تعاليمه، كما أن إسلامه كان فاتحة خيرٍ على عشيرته الذين تابعوه على دينه. ذلك هو الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، شريفٌ من أشراف قومه، وصاحب القلب الحيّ والنفس الأبيّة والشعور المرهف، والذي كان يرى في نفسه رابع أربعةٍ دخلوا الإسلام، وإن كان قد ثبت إسلامُ نفرٍ قبله ومنهم آل النبي – صلى الله عليه وسلم- إلا أن ذلك يعني أنّه من الرعيل الأوّل في الإسلام.
وعندما تُوفّي النبي – صلى الله عليه وسلم- قرّر ابو ذر رضي الله عنه أن يستقرّ في موضعٍ يُقال له:"الربذة"، فرآه يوماً المعرور بن سويد وعليه حلّة جميلة، إلا أنّه اقتسمها مع غلامه الذي يرافقه بحيث ائتزر أحدهما بالنصف الأوّل وارتدى الآخر نصفها الثاني، فاحتار المعرور من هذه القسمة الغريبة، وتعجّب كيف لم يقم أبو ذر رضي الله عنه بارتداء كلا القطعتين لتصبحا حلّةً كاملة عليه، ثم يُعطي الغلام ثوباً آخر!!، ونقل تساؤله إلى صحابيّ رسول الله ليقف على الحقيقة ويطّلع على الحكمة من هذا التصرّف. لكنّ كلام المعرور أثار ذكرياتٍ قديمة ما كان لأبي ذر رضي الله عنه أن ينساها، وأنّى له ذلك وقد نال من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عتاباً بلغ من نفسه مبلغاً كبيراً، وأحدث في حياته نقطة تحوّل في منهج التعامل مع الضعفاء، فمضى أبو ذرّ يشرح لصاحبه وقائع تلك الذكريات. كان ذلك فيما مضى، إذ كان لأبي ذر رضي الله عنه عبدٌ مملوك، وحصل أن دار بينهما خلافٌ حول مسألةٍ ما، وتطوّر الخلاف إلى تلاسن بالقول وتراشقٍ بالألفاظ، فعيّر أبو ذر رضي الله عنه الرجل بأمّه الأعجمية فقال: "يا ابن السوداء"، فغضب العبد من هذه المقولة لما انطوت عليه من استنقاصٍ وتعريضٍ به، فانطلق إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يشكو إليه قول أبي ذر رضي الله عنه.
وعندما استمع النبي –صلى الله عليه وسلم- شكاية العبد تمعّر وجهه غضباً، وقال لأبي ذر رضي الله عنه: ( أساببت فلاناً؟، أفنلت من أمه؟) ، فاعتذر قائلاً: "يا رسول الله، من سبّ الرجال سبّوا أباه وأمه"، لكنّ اعتذاراً كهذا لا يمكن القبول به في ميزان الشرع، بل هو ضربٌ من ضروب العصبيّات الجاهليّة التي جاء الإسلام لاجتثاثها، فقال له عليه الصلاة والسلام: (يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية) ". استعظم أبو ذر رضي الله عنه أن يتبقّى فيه من رواسب الجاهليّة شيء، وهو الذي ظلّ يُفاخر الناس بإسلامه مبكّراً، واستاء أن يتسلّل إليه ذلك الخلق دون انتباهه، فقال رضي الله عنه: "على حين ساعتي هذه من كبر السن ؟"، فجاءه الجواب: (نعم) ثم تطرّق النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى قيمٍ أخلاقيّة ومُثُلٍ عالية لم يحظ بمثلها الضعفاء على مرّ العصور: ( إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليُطعمه مما يأكل، وليُلبسه مما يلبس، ولا يكلّفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليُعِنْه عليه ) . وبعد أن انتهى أبو ذر رضي الله عنه من سرد الموقف أدرك المعرور سبب اقتسامه للحلّة بينه وبين غلامه، إنه الإحسان إلى من جعله الله تحت يديه وسخّره لخدمته وتحقيق رغباته، ومنذ ذلك اليوم والألسنة تتناقل هذه القصّة لتبقى شاهداً على عظمة الإسلام وأهله.
إضاءات حول الموقف لم يحذّر النبي –صلى الله عليه وسلم- من شيء تحذيره من الجاهليّة وأخلاقها، وقيمها ومبادئها، حتى إنه عليه الصلاة والسلام جعل لهذه القضيّة نصيباً من خطبته يوم عرفة حيث قال: ( ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع) رواه مسلم . ومن صور الجاهليّة التي يقع فيها الناس بين الحين والآخر: التنقيص بالآباء والأمهات؛ ذلك أن مثل هذه المعايير المبنيّة على المفاخرة الكاذبة والنظرة الدونيّة للآخرين تتنافى مع الإيمان بوحدة الناس من جهة النسب بأبينا آدم وأمّنا حوّاء عليهما السلام، قال سبحانه وتعالى: { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء} (النساء:1)، والشرف كلّ الشرف إنما هو في تقوى الله عز وجل والالتزام بشريعته الغرّاء بعيداً عن القيم الأرضيّة والفوارق التي يذكرها الناس من النسب أو اللون أو الجاه ونحو ذلك، بل الكل يُقيّم بحسب الميزان الإلهيّ الأوحد، قال تعالى: { إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات:13).
وفي الموقف النبويّ الوصيّة بالضعفاء والتنبيه على حقوقهم، فهم "إخوة" قبل أن يكونوا خدماً، وقد سخّرهم الله لأسيادهم، فكان لهم الحق في المطعم الذي يُناسبهم والملبس الذي يلائم حالهم، مع عدم تكليفهم بالأعمال الشاقة التي تفوق قدراتهم وملكاتهم فيعجزون عن القيام بها، وإن كان لابد من تكليفهم بمثل هذه الأعمال فلابد من إعانتهم عليها، وإن لم يحصل التوافق والانسجام بين السيّد والعبد ولم تصل كفاءة العمل إلى المستوى المطلوب فالحلّ يكون في بيع العبد والبحث عن غيره، لا أن يُعذّب بأعمالٍ لا يطيقها. والعجب من موقف أبي ذرٍّ رضي الله عنه من هذه الوصيّة، فعلى الرغم من أنها كانت تدعو إلى مجرّد المواساة لا المساواة، إلا أن أبا ذرّ أصرّ على أن يُعامل مماليكه وخدمه بالأكمل والأفضل، فالتزم المساواة بينه وبينهم، ولم ذلك في موقفٍ عابرٍ أو حالةٍ استثنائيّة، ولكن سلوكاً راسخاً ظلّ يطبّقه طيلة حياته.
وفي الحديث جملة أخرى من الفوائد، منها: تحريم أذيّة المسلم بالقول أوالفعل، والنهي عن التنابز بالألقاب كما جاء في الآية الكريمة، وبيان قرب النبي –صلى الله عليه وسلم- من جميع طبقات المجتمع، بحيث يستطيع الجميع أن يحادثه ويشتكي إليه ويُناجيه، وحرصه عليه الصلاة والسلام على وحدة الصفّ الإسلامي، ووضوح سرعة استجابة الصحابة للأوامر الشرعيّة.
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:17 am | |
| مواقف نبويـــة
كتبت عليك كذبة
عن عبد الله بن عامر رضي الله عنه أنه قال: "دعتني أمي يوما ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعدٌ فى بيتنا، فقالت: ها تعال أعطيك، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( وما أردت أن تعطيه؟ ) ،قالت: أعطيه تمرا!!، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( أما إنك لو لم تعطه شيئاً كُتبت عليك كذبة) رواه أبو داود .
معاني المفردات ها: أداة نداء، فهي بمعنى: يا فلان.
تفاصيل الموقف على الرغم من كثرة المشاغل وتعدّد المسؤوليّات التي أُلقيت على عاتق النبي –صلى الله عليه وسلم- في أواخر حياته بعد أن وضعت المعركة مع الباطل أوزارها وتحقّق النصر على قريش ومن تبعها، إلا أنّه لم تغب عن باله لحظةً كوكبة المؤمنين الذين هاجروا من مكّة، وشاركوه المصاعب التي أحاطت بالدعوة عند بداية ظهورها، وقاسوا معه الآلام العديدة والابتلاءات المتنوّعة التي حفرت في جبين الذاكرة أخاديد عميقة لا يمحوها الزمن، ومن بين الأسر الكريمة التي حظيت بالرعاية النبويّة أسرة عامر بن ربيعة رضي الله عنه.
إنها أسرةٌ فاضلة "مهاجريّة" من الطراز الأوّل، فعامر بن ربيعة رضي الله عنه الذي أسلم قديماً بمكّة، كان قد هاجر مع امرأته إلى الحبشة ثم عاد منها بعد ذلك، وزوجه: ليلى بنت أبي حثمة رضي الله عنها تُعدّ أوّل من هاجر إلى المدينة من النساء على قول جمعٍ من المؤرّخين، ومع توالي الأيام وتلاحق الأحداث لم تزدد هذه الأسرة المباركة إلا اكتمالاً، ودفاعاً عن النبي –صلى الله عليه وسلم- ومساندةً له، حتى في أحلك الظروف.
لهذه الأسباب حظيت هذه الأسرة الكريمة باهتمام رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فكان يتعاهدهم بالزيارة بين الحين والآخر، ليقف على أخبارهم، ويُلبّي احتياجاتهم، ويتفقّد شؤونهم، ويشاطرهم الحديث.
ونتناول اليوم موقفاً نبويّاً دارت أحداثه في إحدى تلك الزيارات التي كان النبي –صلى الله عليه وسلم- فيها عندهم، ويرويه لنا صغيرهم عبدالله بن عامر رضي الله عنه؛ فقد سجّل لنا ما دار ذلك اليوم وما شاهده بنفسه وما سمعه بأذنه بالرغم من أنه لم يتجاوز في ذلك الحين الخمس سنوات من العمر.
يذكر عبدالله بن عامر رضي الله عنه، دخول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وجلوسه عندهم، وكعادة الأطفال لا يقرّون في موضع واحد، بل يذرعون البيت وينطلقون في أرجائه لعباً ولهواً.
ولعلّ والدته رضي الله عنها أرادت تقديمه للنبي –صلى الله عليه وسلم- كي يُبارك عليه ويلاطفه، فأغْرتْه بالقدوم مقابل أن تعطيه هديّة صغيرة كانت عبارة عن شيءٍ من التمر، فنادته قائلة: " ها، تعال أعطيك"، أو أنها أرادت منه أن يتناول التمر ليتغذّى به.
المهم هنا هو أن النبي –صلى الله عليه وسلم- استوقفه هذا الكلام من أم عبدالله ، وأراد الاستفصال أكثر فقال لها: ( وما أردت أن تعطيه؟ ) ، فأجابته قائلةً : أعطيه تمراً!.
فألقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جواهر الحكمة عبارةً علقت في ذهن الغلام الصغير، فكانت من أعظم الدروس التي ظلّ يذكرها طيلة حياته: ( أما إنك لو لم تعطه شيئاً كُتبت عليك كذبة) .
إضاءات حول الموقف من السهل على المرء أن يتكلّم كثيراً عن أصول التربية ومنهاجها وضروراتها، ومن الممكن جدّاً تحديد القيم الفاضلة والمباديء السامية التي ينبغي غرسها في نفوس الناشئة، لكن في المقابل يصعب جدّاً الارتقاء بالدور التربوي ليكون قدوةً قبل أن يكون إرشاداً، وعملاً قبل أن يكون قولاً، وواقعاً قبل أن يكون مُثُلاً نظريّة.
هذا هو المعنى العميق الذي انطوى تحت مظلّة الموقف النبوي سالف الذكر؛ فإنّ المربّي -سواءٌ أكان والداً في البيت، أو معلّماً في المدرسة، أو ناشطاً في حقلٍ دعوي، أو شيخاً في الحلقة- تحت المجهر دائماً من قِبَل المتربّين خصوصاً عندما يكونون في المراحل العمريّة المبكّرة.
وما دام الأمر كذلك، فإن أي فعلٍ يصدر من المربّين إنما هو بمثابة التوجيه الفعلي للمتلّقي، الذي لو تعارض عنده قول المربّي وفعله فلعلّه أن يُقدّم الفعل لاشعوريّاً، لذلك كان على المربّين استشعار خطورة الأمر والتنبّه لقول الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف:2-3).
ولربما ظنّ البعض أن المسألة أهون من ذلك، وأن الأمر ليس سوى كذبة صغيرة، لكنّ الطرف الآخر لا ينظر إليها كذلك، خصوصاً وأن الأطفال يحبون المحاكاه من تلقاء أنفسهم، فينشأون على هذا الخلق الذميم.
ويظهر الأثر المدمّر للكذب على الأطفال في صورة فقدان الطفل للثقة بأبويه جرّاء عدم التزامهما بالوعد المقطوع، الأمر الذي يجعله يشكّك في أي وعدٍ مستقبلي صادرٍ منهما، وحبل الثقة بين الوالد والولد إذا انقطع فإنه يصعب وصله.
ومن اللطائف التي ينبغي التوجيه إليها -غير ما تقدّم-، عدم استخدام المعاريض والتورية أثناء التعامل مع الأطفال إلا على أضيق نطاق؛ والتورية هي النطق بالكلمة أو الجملة يكون لها معنى قريب يرتسم في ذهن المتلقّي ومعنى بعيد يقصده القائل، والسبب في المنع هو أن الأطفال لا ينظرون إليها إلا كحيلة أو كذبة، ولا يفهمون حقيقتها.
والمقصود من مثل هذه التوجيهات أن تُغرس فضيلة الصدق فى نفوس الأطفال وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدى إلى البر، وإن البر يهدى إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدى إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ) متفق عليه واللفظ لمسلم .
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:17 am | |
| مقــالات
مواقف نبويـــة
الصبر عند الصدمة الأولى
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى على امرأة تبكي على صبي لها، فقال لها: ( اتقى الله واصبري )، فقالت: وما تبالى بمصيبتي؟، فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخذها مثل الموت، فأتت بابه فلم تجد على بابه بوّابين، فقالت: يا رسول الله لم أعرفك، فقال لها: ( إنما الصبر عند أوّل صدمة ). أو قال :( عند أول الصدمة ) متفق عليه واللفظ لمسلم . وفي رواية البخاري أنها قالت : "إليك عني فإنك خِلْو من مصيبتي" معاني المفردات : أخذها مثل الموت: أي من شدة الكرب الذي أصابها. بوّابين: جمع بوّاب وهو الحارس. خِلْو من مصيبتي: بكسر الخاء وسكون اللام، والخلو هو فارغ البال من الهموم.
تفاصيل الموقف : "مات ولدي" عبارةٌ لا تتجاوز في رسمها حروفاً سبعة، لكن وقعها على الأم المكلومة كان بمثابة صاعقةٍ زلزلت كيانها، وهدّت أركانها، وأضرمت الأسى في أحشائها، لقد مات فلذة كبدها، وريحانة فؤادها، وسلوة أيّامها. ها هي تنظر إليه وقد توقّفت أنفاسه، وشخص بصره، وبرد جسمه، وانسلّت روحه صاعدةً إلى باريها، تنظر إليه وقد تحلّق من حوله أهله وذووه يبكونه ويذرفون الدموع عليه، تنظر إليه والماء المسكوب يتساقط على جسده الطاهر ليزيده نقاءً فوق نقاء، تنظر إليه والكفن الأبيض يغطّيه –وتودّ لو كانت ذلك الكفن-، تنظر إليه والصحابة الكرام يأخذونه على الأكتاف ويقدّمونه للصلاة عليه. والآن تقف على شفير القبر، وترى أكوام التراب تعلو جثّة حبيبها، لتُعلن ذرّاتها أن اللقاء ما عاد ممكناً، وأن الفراق قد صار حتماً، وتحتشد هذه المشاعر المأساويّة لتخرج دمعاتٍ تحمل أثر الحزن ومعناه وسرّه، وسرعان ما استحالت تلك القطرات إلى سيلٍ من الدموع والنشيج، والنواح والعويل.
ويُقدّر الله أن يمرّ النبي – صلى الله عليه وسلم - على القبر فيرى امرأة قد أخذ منها الأسى كلّ مأخذ، حتى جاوزت بذلك الحدّ المقبول من الجزع والانزعاج، مع التقصير في مغالبة الحزن ومدافعته، فكان لابدّ من واجب النصيحة والتذكير حتى لا تجمع بين عظم المصيبة وتضييع الأجر، فقال لها: ( اتقى الله واصبري ). ويبدو أن المصاب كان قد شغل بصر المرأة وسمعها وقلبها جميعاً، فلم ترَ إلا صورة ولدها، ولم تسمع إلا صوته الدافيء، ولم تشعر إلا بالحنان إليه، فعاود النبي – صلى الله عليه وسلم - قوله إشفاقاً عليها أكثر من مرّة – كما ورد في إحدى الروايات - . فالتفتت المرأة غاضبةً وقالت: "إليك عنّي، فإنك خِلْو من مصيبتي" وهنا أدرك النبي – صلى الله عليه وسلم - أن غشاوةً سميكةً أحاطت بعقل المرأة حتى لم تعد تدرك ما تقول، وأن هول المصيبة أفقدها اتزانها، فتركها وانصرف.
وعدما ذهبت السَّكْرة، وحلّت الفكرة، تذكّرت أن "شخصاً ما!" كان يُحادثها قبلُ ويُصبّرها، وتساءلت في نفسها عن شخصيّته، وإذا بالجواب يأتيها من ألسنة الناس: "إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، وكأنما لُدغت المسكينة بعقرب فاكفهرّ وجهها وطاش عقلها، وانطلقت مسرعةً إلى بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام نادمةً على ما كان منها، ساعيةً إلى تصحيح خطئها.
ولم يكن على باب بيت النبي – صلى الله عليه وسلم- حرسٌ يمنعون الناس من الدخول عليه، فدخلت عليه وهي محرجة لا تدري ماذا تقول وكيف تصنع، ثم قالت أخيراً: " يا رسول الله لم أعرفك!". وهنا تتجلّى عظمة النبي – صلى الله عليه وسلم - حيث تجاوز هذه النقطة سريعاً، ولم يحمل في قلبه أي ضغينة عليها، إنما ركّز اهتمامه على تأديب هذه المرأة وتنبيهها على ما فاتها من الثواب العظيم الذي ضاع من بين أيديها، نتيجةً للضعف الذي اعتراها في اللحظات الأولى من الحدث، فقال لها: ( إنما الصبر عند أوّل صدمة ).
إضاءات حول الموقف : لا مفرّ في هذه الدنيا من مواجهة صنوف البلايا، فتلك سنّة الله في خلقه ما داموا في دار الامتحان، قال سبحانه وتعالى : {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون} (الأنبياء:35)، إنما الشأن كلّ الشأن في مواجهة عواصف البلاء وكوارثه بثبات جنانٍ ورباطة جأش. ودور الإيمان هنا هو سياسة الروح لتحتمل هول المصيبة وشدّتها، وإشاعة مشاعر الرضا بقضاء الله وقدره حتى تنزل السكينة في قلب صاحبها، ويتحوّل الجزع والسخط إلى ثقةٍ بالخالق سبحانه، وطمعٍ فيما أعدّه من الثواب الجزيل والخير العميم للصابرين، قال تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}(الزمر).
وقول النبي- صلى الله عليه وسلم -: ( إنما الصبر عند أوّل صدمة ) يشير إلى مرتبة الكمال في الصبر، فإن المصيبة بطبعها لها أثرٌ مروّع تزلزل النفس وتزعج القلب، فإذا ثبت المبتلى في لحظاته الأولى سَهُلَ عليه الأمر وهان عليه الخطب، فتراه مع الأيام يسلو ويستديم الصبر بعد الاعتياد على الواقع الجديد، من هنا جاء التفاوت في الأجر واستحقاق المدح بين الصابرين عند الصدمة الأولى والصابرين بعدها.
وفي الموقف جملةٌ أخرى من الفوائد التربويّة، منها: بيان حسن خلق النبي – صلى الله عليه وسلم - حيث لم يغضب لنفسه، ولزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاعتذار لأهل الفضل والاعتراف بالخطأ، وأن كثرة البكاء على القبر يُنافي الصبر، كما يدلّ الموقف على عذر الإنسان بالجهل سواء أكان جهلاً بالحكم الشرعي أم جهلاً بالحال.
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:18 am | |
| مواقف نبويـــة
سر رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أتى عليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا ألعب مع الغلمان، فسلّم علينا فبعثني إلى حاجة فأبطأت على أمي، فلما جئتُ قالت: ما حبسك؟، قلت: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحاجة، قالت: ما حاجته؟، قلت: إنها سر!!، قالت: لا تخبرنّ بسر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدا، قال أنس : والله لو حدثتُ به أحداً لحدثتك به يا ثابت " متفق عليه واللفظ لمسلم . وفي رواية البخاري : " أسرّ إليّ النبي -صلى الله عليه و سلم- سِرّاً، فما أخبرت به أحدا بعده، ولقد سألتني أم سليم رضي الله عنها -أمّه- فما أخبرتها به". معاني المفردات فبعثني إلى حاجةٍ: أرسلني لتنفيذ أمرٍ من الأمور. أبطأت على أمّي: تأخّرت عنها طويلاً. ما حبسك: ما الذي أخّرك. تفاصيل الموقف ها هي ذي أيّام الغلام الصغير أنس بن مالك تنساب كالماء الرقراق في الأودية الخصيبة، وكالنسمة الباردة التي تهبّ تحت ظلال الأشجار، منذ أن تغيّرت حياته بقدوم النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، فقد عهدت به والدته الغميصاء بنت ملحان رضي الله عنها إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام قائلة: "يا رسول الله هذا أنيس ابني، أتيتك به يخدمك". ومنذ ذلك اليوم بدأت مسؤوليّة أنس رضي الله عنه في خدمة النبي –صلى الله عليه وسلم- ومرافقته في حلّه وترحاله، فكان رضي الله عنه لا يألو جُهداً في تلبية رغباته وتنفيذ أوامره، فنال ما لم ينلْهُ غيره من أقرانه في تلقّي الهدي النبوي والعيش في كنف رسول الله وتحت رعايته. ويروي لنا أنيس -كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يناديه تدليلاً- يوماً من أيّام سعده وهنائه، حيث فرغ من أداء واجباته ذلك اليوم، فانسلّ من بيت النبوّة ليلعب مع الغلمان في أزقّة المدينة ونواحيها، فهو وإن كان خادماً للنبي –صلى الله عليه وسلم- إلا أنه يظلّ في سنّ الصبا وريعانه، وما يعنيه ذلك من الحاجة إلى اللهو البرئ. وبينما هو منهمكٌ في اللعب إذ قدم عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- فألقى عليهم التحيّة، ثم أشار إليه إشارةً خفيّةً ليتنحّى به جانباً، ويُسرّ إليه بمهمّةٍ خاصّة. ولا ريب أن النبي –صلى الله عليه وسلم- ما اصطفى أنساً لهذه المهمّة الخاصّة دون غيره من أقرانه، إلا لما رآه فيه من المؤهّلات والصفات التي تؤهّله لهذه المهمّة. ولم يكد الأمر النبوي يطرق سمع أنس رضي الله عنه حتى هبّ واقفاً وانطلق من فوره يستقصي حاجة النبي -صلى الله عليه وسلم- ويسعى في تنفيذها، فأخذت منه وقتاً ليس باليسير حتى أنجزها على أتمّ وجه. على أن أمّه رضي الله عنها أحسّت بتأخّر وليدها أنس إذ لم تعهد ذلك منه، وما إن رأته يدخل عليها حتى بادرته سائلةً: "ما حبسك؟"، فنظر إليها أنس وقال لها: "بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحاجة"، ولم يزد على ذلك حرفاً!. أرادت الأم أن تستفصل أكثر، فعاودت السؤال: "ما حاجته؟"، فردّ عليها أنس بأدبٍ خالجه شيءٌ من الاعتذار: "إنها سر!!"، كلماتٌ قليلةٌ تدلّ على نضج شخصيّة هذا الغلام النبيه، فلقد أدرك على صغر سنّه أنّه ما كان له أن يكشف عن سرّ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولو كان لأقرب الناس إليه. أكبرتْ الأم هذا الموقف السامي من غلامها، فأرادت أن تعزّزه في نفسه وتوطّده في مسيرته، ليظلّ وفاؤه مبدأً راسخاً لا يمكن أن يتنازل عنه مهما كانت المغريات، فقالت مؤكّدة: "لا تخبرنّ بسر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحداً". وبهذا ينتهي الموقف، ويمضي الزمن، ويتنقّل أنس رضي الله عنه من مرحلة عمريّة إلى ما فوقها، حتى جاوز المائة عام، ولم يزلّ سرّ النبي –صلى الله عليه وسلم – محفوظاً، ولم يزل هذا الموقف أحد مفاخره رضي الله عنه التي عبّر عنها بقوله: "والله لو حدثتُ به أحداً لحدثتك به يا ثابت " . إضاءات حول الموقف لو وضعنا هذا الموقف تحت مجهر التأمّل والاعتبار، لخرجنا منه بفوائد عديدة تصلح كلّ واحدة منها لبحثٍ مستقلّ، وحسبنا أن نشير إليها إشارةً عابرة كي يستفيد منها القارئ، فنقول: من فوائد الموقف، التنبيه على حاجة الأطفال إلى اللعب والترفيه، لتحقيق التنشئة الاجتماعيّة المتوازنة، والقيام بارتقاء النفس واكتساب المهارات الشخصيّة والقدرة على التواصل مع الآخرين ، ولذلك نجد علماء النفس والاجتماع يؤكّدون على أهمّية اللعب للناشئة ودوره في التربية، بل قاموا بإدخاله في المخطّطات والبرامج التعليمية. ورسول الله –صلى الله عليه وسلّم قد سبقهم في ذلك كلّه فأقرّ لعب الأطفال في أكثر من موضع من سيرته. ومن فوائد الموقف: حرص النبي –صلى الله عليه وسلم- على معاملة الأطفال بمنطق المسؤوليّة والتوجيه ليصنع منهم رجالاً، ويجعلهم ذخيرةً للأمّة في مستقبلها، نلمح ذلك من خلال قيامه عليه الصلاة والسلام بإلقاء السلام على الصغار، وهذا السلام وإن كان الهدف منه نشر قيمة السلام في المجتمع، إلا أنّه يحمل في طيّاته الرغبة في تعويد الصغار على الاستماع إليه ليعتادوه، ثم يطبّقوه مع غيرهم، كما يهدف إلى إزالة الحواجز الخفيّة التي تمنعهم من التعامل الإيجابي مع الأكبر منهم سنّاً، ليكونوا أقوياء على الحق، وتنشأ لديهم القوة النفسية التي تحمل صاحبها على معالي الأمور والبعد عن سفاسفها، وهذا هو عين السبب الذي جعل النبي –صلى الله عليه وسلم- يستحفظ سرّه عند غلامه أنس رضي الله عنه وهو بمثل هذه السنّ. وفي سؤال الأم لابنها حول أسباب تأخّره، لفتةٌ مهمّة إلى دور الأسرة في تفقّد أولادها ومتابعتهم الدقيقة، بحيث يلحظون ما يطرأ عليهم من تغيّر في السلوك خصوصاً مع كثرة المؤثّرات خارج النطاق الأسري، ومثل هذه الرقابة الدقيقة وغير المباشرة تسهم في اجتثاث أي انحراف طارئ، ومن ثمّ تداركه قبل أن يستفحل خطره ويعظم أمره. ويعظم موقف الأمّ عندما لم تلحّ على ابنها في السؤال، في حين أن كثيراً من نساء المسلمين ُيكثرن من سؤال أولادهنّ في الأمور التي تتعلّق بالآخرين وخصوصيّاتهم، ما يعود بالأثر السيئ على الطفل وسلوكه، فينشأ فضوليّاً غير قادرٍ على كتمان الأسرار. ومما يستوقفنا من الحوار بين أنس رضي الله عنه وأمه، قوله عنها : " فأبطأت على أمي"، إنّه تأنيب الضمير على تأخّره وما يعكسه من اهتمامه بأمرها، بحيث كان قلقه نابعاً من داخله وبقناعة تامّة منه. ثم تبقى الإشارة إلى بيان أهمّية كتمان السرّ وحرمة إفشائه وتضييعه، وقد جاءت بذلك جملةٌ من النصوص الشرعيّة، كقول الله تعالى في محكم التنزيل: { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا } (الإسراء:34)، وقول النبي –صلى الله عليه وسلم – : ( إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها) رواه مسلم ، وقوله: (إذا حدث رجل رجلا بحديث ثم التفت فهو أمانة) رواه الترمذي ، وقوله: ( لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له) رواه أحمد .
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:19 am | |
| مواقف نبويـــة
سر رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أتى عليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا ألعب مع الغلمان، فسلّم علينا فبعثني إلى حاجة فأبطأت على أمي، فلما جئتُ قالت: ما حبسك؟، قلت: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحاجة، قالت: ما حاجته؟، قلت: إنها سر!!، قالت: لا تخبرنّ بسر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدا، قال أنس : والله لو حدثتُ به أحداً لحدثتك به يا ثابت " متفق عليه واللفظ لمسلم . وفي رواية البخاري : " أسرّ إليّ النبي -صلى الله عليه و سلم- سِرّاً، فما أخبرت به أحدا بعده، ولقد سألتني أم سليم رضي الله عنها -أمّه- فما أخبرتها به". معاني المفردات فبعثني إلى حاجةٍ: أرسلني لتنفيذ أمرٍ من الأمور. أبطأت على أمّي: تأخّرت عنها طويلاً. ما حبسك: ما الذي أخّرك. تفاصيل الموقف ها هي ذي أيّام الغلام الصغير أنس بن مالك تنساب كالماء الرقراق في الأودية الخصيبة، وكالنسمة الباردة التي تهبّ تحت ظلال الأشجار، منذ أن تغيّرت حياته بقدوم النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، فقد عهدت به والدته الغميصاء بنت ملحان رضي الله عنها إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام قائلة: "يا رسول الله هذا أنيس ابني، أتيتك به يخدمك". ومنذ ذلك اليوم بدأت مسؤوليّة أنس رضي الله عنه في خدمة النبي –صلى الله عليه وسلم- ومرافقته في حلّه وترحاله، فكان رضي الله عنه لا يألو جُهداً في تلبية رغباته وتنفيذ أوامره، فنال ما لم ينلْهُ غيره من أقرانه في تلقّي الهدي النبوي والعيش في كنف رسول الله وتحت رعايته. ويروي لنا أنيس -كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يناديه تدليلاً- يوماً من أيّام سعده وهنائه، حيث فرغ من أداء واجباته ذلك اليوم، فانسلّ من بيت النبوّة ليلعب مع الغلمان في أزقّة المدينة ونواحيها، فهو وإن كان خادماً للنبي –صلى الله عليه وسلم- إلا أنه يظلّ في سنّ الصبا وريعانه، وما يعنيه ذلك من الحاجة إلى اللهو البرئ. وبينما هو منهمكٌ في اللعب إذ قدم عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- فألقى عليهم التحيّة، ثم أشار إليه إشارةً خفيّةً ليتنحّى به جانباً، ويُسرّ إليه بمهمّةٍ خاصّة. ولا ريب أن النبي –صلى الله عليه وسلم- ما اصطفى أنساً لهذه المهمّة الخاصّة دون غيره من أقرانه، إلا لما رآه فيه من المؤهّلات والصفات التي تؤهّله لهذه المهمّة. ولم يكد الأمر النبوي يطرق سمع أنس رضي الله عنه حتى هبّ واقفاً وانطلق من فوره يستقصي حاجة النبي -صلى الله عليه وسلم- ويسعى في تنفيذها، فأخذت منه وقتاً ليس باليسير حتى أنجزها على أتمّ وجه. على أن أمّه رضي الله عنها أحسّت بتأخّر وليدها أنس إذ لم تعهد ذلك منه، وما إن رأته يدخل عليها حتى بادرته سائلةً: "ما حبسك؟"، فنظر إليها أنس وقال لها: "بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحاجة"، ولم يزد على ذلك حرفاً!. أرادت الأم أن تستفصل أكثر، فعاودت السؤال: "ما حاجته؟"، فردّ عليها أنس بأدبٍ خالجه شيءٌ من الاعتذار: "إنها سر!!"، كلماتٌ قليلةٌ تدلّ على نضج شخصيّة هذا الغلام النبيه، فلقد أدرك على صغر سنّه أنّه ما كان له أن يكشف عن سرّ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولو كان لأقرب الناس إليه. أكبرتْ الأم هذا الموقف السامي من غلامها، فأرادت أن تعزّزه في نفسه وتوطّده في مسيرته، ليظلّ وفاؤه مبدأً راسخاً لا يمكن أن يتنازل عنه مهما كانت المغريات، فقالت مؤكّدة: "لا تخبرنّ بسر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحداً". وبهذا ينتهي الموقف، ويمضي الزمن، ويتنقّل أنس رضي الله عنه من مرحلة عمريّة إلى ما فوقها، حتى جاوز المائة عام، ولم يزلّ سرّ النبي –صلى الله عليه وسلم – محفوظاً، ولم يزل هذا الموقف أحد مفاخره رضي الله عنه التي عبّر عنها بقوله: "والله لو حدثتُ به أحداً لحدثتك به يا ثابت " . إضاءات حول الموقف لو وضعنا هذا الموقف تحت مجهر التأمّل والاعتبار، لخرجنا منه بفوائد عديدة تصلح كلّ واحدة منها لبحثٍ مستقلّ، وحسبنا أن نشير إليها إشارةً عابرة كي يستفيد منها القارئ، فنقول: من فوائد الموقف، التنبيه على حاجة الأطفال إلى اللعب والترفيه، لتحقيق التنشئة الاجتماعيّة المتوازنة، والقيام بارتقاء النفس واكتساب المهارات الشخصيّة والقدرة على التواصل مع الآخرين ، ولذلك نجد علماء النفس والاجتماع يؤكّدون على أهمّية اللعب للناشئة ودوره في التربية، بل قاموا بإدخاله في المخطّطات والبرامج التعليمية. ورسول الله –صلى الله عليه وسلّم قد سبقهم في ذلك كلّه فأقرّ لعب الأطفال في أكثر من موضع من سيرته. ومن فوائد الموقف: حرص النبي –صلى الله عليه وسلم- على معاملة الأطفال بمنطق المسؤوليّة والتوجيه ليصنع منهم رجالاً، ويجعلهم ذخيرةً للأمّة في مستقبلها، نلمح ذلك من خلال قيامه عليه الصلاة والسلام بإلقاء السلام على الصغار، وهذا السلام وإن كان الهدف منه نشر قيمة السلام في المجتمع، إلا أنّه يحمل في طيّاته الرغبة في تعويد الصغار على الاستماع إليه ليعتادوه، ثم يطبّقوه مع غيرهم، كما يهدف إلى إزالة الحواجز الخفيّة التي تمنعهم من التعامل الإيجابي مع الأكبر منهم سنّاً، ليكونوا أقوياء على الحق، وتنشأ لديهم القوة النفسية التي تحمل صاحبها على معالي الأمور والبعد عن سفاسفها، وهذا هو عين السبب الذي جعل النبي –صلى الله عليه وسلم- يستحفظ سرّه عند غلامه أنس رضي الله عنه وهو بمثل هذه السنّ. وفي سؤال الأم لابنها حول أسباب تأخّره، لفتةٌ مهمّة إلى دور الأسرة في تفقّد أولادها ومتابعتهم الدقيقة، بحيث يلحظون ما يطرأ عليهم من تغيّر في السلوك خصوصاً مع كثرة المؤثّرات خارج النطاق الأسري، ومثل هذه الرقابة الدقيقة وغير المباشرة تسهم في اجتثاث أي انحراف طارئ، ومن ثمّ تداركه قبل أن يستفحل خطره ويعظم أمره. ويعظم موقف الأمّ عندما لم تلحّ على ابنها في السؤال، في حين أن كثيراً من نساء المسلمين ُيكثرن من سؤال أولادهنّ في الأمور التي تتعلّق بالآخرين وخصوصيّاتهم، ما يعود بالأثر السيئ على الطفل وسلوكه، فينشأ فضوليّاً غير قادرٍ على كتمان الأسرار. ومما يستوقفنا من الحوار بين أنس رضي الله عنه وأمه، قوله عنها : " فأبطأت على أمي"، إنّه تأنيب الضمير على تأخّره وما يعكسه من اهتمامه بأمرها، بحيث كان قلقه نابعاً من داخله وبقناعة تامّة منه. ثم تبقى الإشارة إلى بيان أهمّية كتمان السرّ وحرمة إفشائه وتضييعه، وقد جاءت بذلك جملةٌ من النصوص الشرعيّة، كقول الله تعالى في محكم التنزيل: { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا } (الإسراء:34)، وقول النبي –صلى الله عليه وسلم – : ( إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها) رواه مسلم ، وقوله: (إذا حدث رجل رجلا بحديث ثم التفت فهو أمانة) رواه الترمذي ، وقوله: ( لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له) رواه أحمد .
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:19 am | |
| مواقف نبويـــة
لئلا يتكلوا
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:" كنا قعودا حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معنا أبو بكر وعمر في نفر، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بين أظهرنا فأبطأ علينا، وخشينا أن يُقْتَطَع دوننا، وفزعنا فقمنا، فكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أتيت حائطا للأنصار لبني النجار، فدرت به هل أجد له بابا فلم أجد، فإذا ربيعٌ يدخل في جوف حائط من بئر خارجة - والربيع الجدول -، فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، فدخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ( أبو هريرة ؟) ، فقلت: نعم يا رسول الله، قال: (ما شأنك؟) ، قلت: كنتَ بين أظهرنا، فقمت فأبطأت علينا، فخشينا أن تقتطع دوننا، ففزعنا فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي، فقال: (يا أبا هريرة -وأعطاني نعليه-، اذهب بنعليّ هاتين، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشّره بالجنة) ، فكان أول من لقيتُ عمر ، فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة ؟، فقلت: هاتان نعلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثني بهما، من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه بشّرته بالجنة، فضرب عمر بيده بين ثدييّ فخررت لاستي، فقال: ارجع يا أبا هريرة ، فرجعت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأجهشت بكاءً، وركبني عمر فإذا هو على أثري، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( ما لك يا أبا هريرة ؟) ، قلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به، فضرب بين ثدييّ ضربةً خررتُ لاستي، وقال: ارجع، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا عمر!، ما حملك على ما فعلت؟) ، قال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه، بشّره بالجنة؟ قال: (نعم ) ، قال: فلا تفعل؛ فإني أخشى أن يتّكل الناس عليها فخلّهم يعملون، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فخلّهم ) رواه مسلم .
معاني المفردات يقتطع دوننا: يصيبه المشركون بأذى مستغلّين بعده عنهم. احتفز : تضامّ وقارب بين أعضائه ليسعه المدخل. الحائط : البستان. فخررت لاستي: سقط على مقعدته. الربيع : النهر الصغير. أجهش : هم بالبكاء. وركبني عمر : لحقني عمر .
تفاصيل الموقف تنافسٌ قويّ وسباقٌ على أشدّه ترى ملامحه واضحةً عند من يتتبّع حياة الصحابة رضوان الله عليهم، وقِوام هذه المسابقة هي ملازمة النبي –صلى الله عليه وسلم- ومرافقته، للأخذ من هديه، وحفظ كَلِمِه، والاقتباس من نوره، واستجلاء منهجه. ومن بين المتصدّرين في هذا المضمار ثلاثة من خيرة أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم-: أبو بكر وعمر وأبو هريرة رضي الله عنهم، ولقد كان النصيب الأكبر والحظ الأوفر من هذه الملازمة من نصيب أبي هريرة رضي الله عنه القادم من اليمن، والذي كان يعيش على لقيماتٍ يُقمن صلبه –كحال أهل الصفّة- ليجعل ما دون ذلك من الوقت خالصاً لمصاحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يشغله الصفق في الأسواق ولا السعي في الأرزاق كشأن صاحبيْه. وعلى هذا الأساس نجد أن ذكر هؤلاء الثلاثة في معرض الحديث عن مجالس النبي –صلى الله عليه وسلم- أمرٌ مألوف، كما هو الحال في الموقف الذي نتناوله، حيث تحلّقوا حول النبي –صلى الله عليه وسلم- مع غيرهم من الصحابة يستمعون إليه، وينهلون من معينه، ثم قام عنهم النبي عليه الصلاة والسلام لأمرٍ يعمله وحاجةٍ يقضيها.
واستمرّت هذه الجلسة الإيمانيّة يصدح فيها عذب الأحاديث وشهد الأقوال ومسك العبارات، حتى استطاع هاجسٌ خفيّ أن يتسلّل إليها، وأن يُلقي بظلاله على الحاضرين، إنه شعورٌ مبهم يتعلّق باستبطائهم عودة النبي –صلى الله عليه وسلم- وهو الذي كان قيامه يوحي بعودته سريعاً.
ويعبّر أبو هريرة رضي الله عنه عن مشاعر الفزع التي طوّقت نفسه، والخواطر الموحشة التي استولت على تفكيره: لعلّ مكروهاً أصاب النبي –صلى الله عليه وسلم- ونحن لا نعلم شيئاً عن ذلك، أم لعلّها محاولة دنيئةٌ لاغتياله والقضاء عليه على حين غِرّة؟. وكان هذا الخاطر بمثابة السهم الذي اخترق قلب أبي هريرة رضي الله عنه لينزف مخاوفه، فانطلق هو ومن معه يحثّون الخطى بحثاً عن النبي –صلى الله عليه وسلم-، وكلّهم أملٌ أن يجدوا ما يبدّد هواجسهم ويقرّ عيونهم. وأثناء البحث المضني توقّف أبو هريرة رضي الله عنه أمام بستان من بساتين الأنصار، فأُلقي في روعه أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- داخل هذا البستان، فدار حوله يبحث عن بابه فلم يجده، ومن الواضح أن الحائط كان عالياً، فما العمل؟.
وبينما هو يفكّر في السبيل إلى الدخول إذ أبصر نهراً صغيراً يعبر البستان من خلال تجويفٍ صغيرٍ في الحائط، فنظر أبو هريرة رضي الله عنه إلى الفجوة فوجدها ضيّقة نسبيّاً، لكن مع قليل من الجهد يمكنه أن يمرّ خلالها، وهكذا نجح رضي الله عنه في الدخول، وانطلق مسرعاً يجوب أنحاء البستان بحثاً عن نبيّ الأمة، حتى وجده في ناحيةٍ من نواحيها آمناً معافى، فهدأت نفسه وتنفّس الصعداء. فوجئ النبي – صلى الله عليه وسلم- بقدوم أبي هريرة رضي الله عنه عليه، فسأله قائلاً : (ما شأنك؟) ، فقصّ عليه القصّة، وأخبره بأن الناس قلقون عليه، ويقطعون شوارع المدينة وأزقتها بحثاً عنه، فُسرّ النبي عليه الصلاة والسلام بهذه العواطف النبيلة والمشاعر الصادقة، التي ما كانت لتبلغ هذا القدر لولا عظيم محبّتهم له، فأراد أن يُكافئهم على جميل موقفهم وعظيم اهتمامهم ببشرى يزفّها إليهم. لقد أمر أبا هريرة رضي الله عنه أن يخرج إلى أصحابه ويُعلم من يلقاه بأن من شهد أن لا إله إلا الله عن يقينٍ جازمٍ فمأواه الجنّة، وأمره كذلك أن يأخذ النعلين النبويّتين علامة صدقٍ على هذه البشارة. وكان أوّل من لقيه أبو هريرة رضي الله عنه بعد خروجه هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي استغرب وجود نعلي النبي –صلى الله عليه وسلم- بحوزته، فأخبره أبو هريرة بالمهمّة التي كُلّف بالقيام بها. لكن عمر رضي الله عنه خشي أن يُساء فهم البشارة النبويّة بحيث تؤدّي إلى التهاون في الفرائض، والرغبة عن النوافل، والاتّكال على رحمة الله، فدفع عمر أبا هريرة رضي الله عنهما بمجامع كفّه قاصداً أن يثنيه عن إخبار الناس، فإذا بالدفعة من يد عمر في القوّة والشدّة حتى آلت إلى سقوط أبي هريرة أرضاً، وتأذّيه.
أبصر النبي – صلى الله عليه وسلم- أبا هريرة رضي الله عنه وقد احمرّت عيناه وكادت الدموع تنهمر من عينيه، و عمر رضي الله عنه يقفو أثره، وإذا بأبي هريرة يشتكي ما فعله به عمر ، فقال عليه الصلاة والسلام: ( يا عمر !، ما حملك على ما فعلت؟) ، فنقل إليه عمر مخاوفه وأشار عليه أن يدع الناس يعملوا ولا يتّكلوا، فاستحسن النبي –صلى الله عليه وسلّم- ذلك الكلام ووافقه.
إضاءات حول الموقف ثمّة مواضع تستوقف المتأمّل وتفيض بدلالاتها على النفوس، فمن ذلك: فضل كلمة التوحيد،وعظمها. فهي أصل دعوة الرسل، وهي الشهادة التي شهد الله تعالى بها لنفسه، وهي كلمة التقوى، ومفتاح الجنّة، وسبيل النجاة، والعروة الوثقى، وقد استفاضت آيات القرآن وأحاديث النبي –صلى الله عليه وسلم- في تأصيلها وكيفيّة تحقيقها وبيان نواقضها، بما لا يسعه المقام هنا.
ومما يستفاد منه في هذا الموقف: مسألتان: مراعاة حال المخاطبين، وضرورة تحقيق الموازنة ، أما الأولى: فتظهر من خلال بيان عمر رضي الله عنه لأصناف الناس، فمنهم من تزيده البشارة جدّاً في العمل، ونشاطاً على العبادة، وعزماً على الاستزادة، ومنهم من تقوده أحاديث الرحمة إلى التقاعس والتواكل، فتكون الحكمة إذاً بمخاطبةٍ كلٍّ بما يناسبه، ولذلك رأى العلماء في الحديث جواز الإمساك عن بعض العلوم للمصلحة أو خوف المفسدة، ولئن كان في تبشير الناس مصلحة ، ففي اتكالهم على ذلك وعدم فهمهم للحق مفسدة أكبر. ويوضّح ذلك الإمام ابن الصلاح بقوله: "مَنْعُه من التبشير العام خوفاً من أن يسمع ذلك من لا خبرة له ولا علم ، فيغترّ ويتكل ، وأخبر به – صلى الله عليه وسلم – على الخصوص مَنْ أَمِن عليه الاغترار والاتكال من أهل المعرفة ،فإنه أخبر به معاذاً ،فسلك معاذ هذا المسلك،فأخبر به الخاصة من رآه أهلا لذلك".
وأما الثانية: فإن من الموازنة المطلوبة الجمع بين الترغيب والترهيب؛ ومن الملاحظ على بعض الدعاة الاقتصار على الترهيب أو إهمال ما يقابله من بثّ نصوص الرجاء الشرعيّة التي تبيّن سعة رحمة الله عزّ وجلّ وتوبته على عباده، ولفت النظر إلى نعيم الجنّة وما أعدّه الله للمؤمنين، وغير ذلك من الأمور التي تشحذ العزائم وتنهض بالهمم، فالمطلوب الموازنة بين الأمرين من غير إفراطٍ ولا تفريط.
وفي الموقف تنبيه على فضيلة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكيف أجرى الله على لسانه الحقّ في كثير من الأحيان، كما قال النبي -صلى الله عليه و سلم-: ( إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم مُحَدَّثون –وهم الملهمون بالحق-، وإنه إنْ كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب ) رواه البخاري ومسلم .
ويبقى التنبيه على الفرق بين الفضوليّة التي جعل النبي –صلى الله عليه وسلم- تركها علامةً على حُسن إسلام المرء بقوله : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) رواه الترمذي ، وبين الاستيضاح المطلوب في بعض المسائل والاستفصال فيها لمعرفة الأمر على وجهه وصورته، وذلك مستفادٌ من موقف عمر مع أبي هريرة رضي الله عنهما.
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:20 am | |
| مواقف نبويـــة
أصلهم ويقطعوني!
عن أبى هريرة رضي الله عنه، أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني، وأُحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلمُ عنهم ويجهلون علي. فقال: ( لئن كنت كما قلت فكأنما تُسفّهم الملّ، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمت على ذلك ) رواه مسلم . معاني المفردات تسفّهم: تطعمهم. المَلّ : الرماد الحار الذى يُحمى ليدفن فيه الطعام فينضج، وهو تشبيه لما يلحقهم من الإثم بما يلحقهم من الأذى بأكل الرماد الحارّ. الظهير : الناصر والمعين .
تفاصيل الموقف للظلم مذاقه العلقميّ الذي لا تستسيغه النفوس، ولا تُطيقه القلوب، فهو الموقد لنيران الحسرة، المُكدّر لصفو الحياة وصفائها، المستجلب للهموم والمستدرّ للأحزان. ولئن كان وقعُ الظلم على النفوس بمثل هذه المثابة، فإنّ أقذعه وأشنعه، وأعمقه جرحاً وأشدّه إيلاماً، ما كان صادراً من قرابة الإنسان ورَحِمه؛ ذلك لأنّ المتصوّر من الأقربين نسباً توافر أسباب الرحمة وأواصر اللُحْمة، بما يكون سبباً في تماسك بنائهم الأسريّ ليبقى حصناً يحمي من عاديات الزمان وحوادث الزمان. أما أن تأتي الإساءة وتنطلق الأذيّة ممن تربطك بهم وشائج الأخوّة والدمّ، فأعظِمْ به من ظلم، وأعظِمْ بها من إساءة، على حدّ قول الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على النفس من وقع الحسام المهنّد
وكان من الذين اكتووا بهذه النيران، أحد صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلّم-، ما توقّفت قرابته عن الإساءة إليه قولاً وفعلاً، بدءاً بالهجران والقطيعة، ومروراً بالهمزِ واللمز، وانتهاءً بالسخرية والتطاول. وحاول الصحابيّ رضي الله عنه أن يحتمل هذه التصرّفات، وأن يتذرّع بالحلِم والصبر، لعلمه بأن عشيرته مهما أساؤوا إليه سيظلّون جناحه الذي به يُحلّق، ولسانه الذي به ينطق، ويده التي بها يُنافح، لكنّهم لم يقدّروا هذا السموّ الخُلقيّ والرفعة الإنسانيّة فلا كرامةَ ولا احترام، بل زادوا عتوّاً ونفوراً، وطغياناً وظلماً، وعندها قرّر أن يلملم جراحاته ويشتكي للنبي –صلى الله عليه وسلم- ما يجده من قرابته. وأمام النبي – صلى الله عليه وسلّم- ألقى إليه مظلِمَته بكلماتٍ تقطرُ ألماً وحسرةً: " يا رسول الله، إن لي قرابةً أصِلَهم ويقطعوني، وأُحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي" وكأنّه يقول بلسان حاله: "فبماذا تأمرني يا رسول الله؟".
وجاءت الإجابة من النبي – صلى الله عليه وسلم- بعيداً عن المتوقّع، فلم يبيّن الوعيد في حقّ أولئك، ولم يوجهه إلى المعاملة بالمثل –وهذا من حقّ السائل- ، ولكنّه أرشده إلى ما تقتضيه معالي الأخلاق من الاستمرار على صلتهم والتواصل معهم مهما فعلوا، مبيّناً له حاله وحالهم في مثلٍ رائع، مبشّراً في الوقت ذاته بمعونة الله سبحانه وتعالى ونصره له، قال عليه الصلاة والسلام : ( لئن كنت كما قلت فكأنما تُسفّهم الملّ، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمت على ذلك ) .
وهذا والله هو محض الكرم ولُباب العقل، فعفوٌ يتلوه عفو، وحلمٌ يقابل إساءة، وتغافلٌ عن زلّة، وتأويل لهفوة، وتتابع من هذه المواقف الكريمة، والخصال الكريمة، والأعمال الجليلة، ستذيب جبل الجليد مهما طال الزمن، وإن لم يكن ما يريد فهو نهر الأجور الجاري، والثناء العطر من الخلق، والمكانة العظيمة من النفوس، ورضى الله سبحانه فوق ذلك كلّه.
إضاءات حول الموقف يشير الموقف النبويّ إلى أهمّية صلة الرحم ومكانتها بين مكارم الأخلاق، ولولا فضلها وعظيم منزلتها ما أرشد النبي –صلى الله عليه وسلم- صاحب القصّة إلى احتمال الأذى في سبيل تحقيق هذه الشعبة من شعب الإيمان، والتي جاء ذكرها في قول الله تعالى { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} (النساء:1)، وجاء التحذير من ضدّها في قول الحقّ تبارك وتعالى: { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} (محمد:22-23)، وقوله تعالى: { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار} (الرعد:25).
وصلة الرحم ورد الحثّ عليها في عددٍ ليس بالقليل من الأحاديث النبويّة الصحيحة، تبيّن أنها سببٌ في طول العمر ومباركة الرزق، وأنّ الله تعالى قد تكفّل للرحم بأن يصل من وصلها ويقطع من قطعها، فقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- : ( إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت: بلى يا رب قال: فهو لك) متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: (من سرّه أن يُبسط له في رزقه وأن يُنسأ له في أثره - أي يؤخر له في أجله وعمره- فليصل رحمه) متفق عليه، وفي التحذير من القطيعة قال عليه الصلاة والسلام: ( لا يدخل الجنة قاطع رحم) متفق عليه. بل قد صحّ في السنّة ما يحثّ على صلة الأرحام غير الأوفياء، وهو ما يُطابق المعنى الذي جاء به الموقف الذي بين أيدينا، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ( ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل هو الذى إذا قطعت رحمه وصلها) رواه أبو داود .
ومما يستوقفنا في أصل القصّة أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يُعلّم صحابته الرُقيّ والإحسان في أمورهم كلّها، فلئن كان العدل يقتضي من المظلوم أن يُعامل من ظلمه بالمثل، أو أن يهجرهم تجنّباً لسهامه المؤذية، ونباله الجارحة، فأين الصبر وأين الحلم؟ وأين العفو وأين المسامحة؟ وأين المودّة وأين الرحمة؟ بهذا فقط تُنال طمأنينة النفس وراحة البال، وما أحسن قول المقنع الكندي : وإن الذي بيـني وبيـن بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا أراهم إلى نصـري بطـاءً وإن هم دعوني إلى نصر أتيتهم شدا إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:20 am | |
| مواقف نبويـــة
من لا يرحم لا يُرحم!
عن أبى هريرة رضي الله عنه أن الأقرع بن حابس رضي الله عنه أبصر النبى -صلى الله عليه وسلم- يقبّل الحسن ، فقال: "إن لي عشرةٌ من الولد ما قبّلت واحداً منهم"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( إنه من لا يَرحم، لا يُرحم) متفق عليه. وفي رواية المستدرك عن عائشة رضي الله عنها: (أرأيت إن كان الله نزع الرحمة من قلبك فما ذنبي؟) . تفاصيل الموقف نطالع في هذه السطور طبيعتين متغايرتين، وموقفين متناقضين، وشخصيّتين متباينتين، تمثّلت الأولى منهما في نبيّ كريم، وكنفٍ رحيم، تنضحُ مواقفه بالرعاية الحانية، واللمسة الرقيقة، والوجه البشوش، والجانب الليّن، والحفاوة البالغة. وأما الأخرى منهما، فجلافةٌ في الطبع، وقسوةٌ في التعامل، ورحمةٌ غاض ماؤها، وجفّت بساتينها، وذبلت أزهارها، لتحلّ محلّها قسوةٌ لا تلين، وشدّة لا مكان فيها لمعاني الرّقة والحنوّ، والعطف والرّفق. تلك هي شخصيّة الأقرع بن حابس سيّد بني تميم، من أعراب الباديّة الذين عركتهم حياة البادية –بقسوتها وشدّتها- ونهشتهم بأنيابها، فتطبّعوا بطباعها، وتخلّقوا بأخلاقها. ومن هذا المنطلق كان الأقرع بن حابس يُعامل أولاده العشرة منذ نعومة أظفارهم معاملة الكبار والرّجال، دون أن يسمح للمشاعر المرهفة والإحسان المطلوب لسنّ الطفولة أن تجد لها طريقاً إلى التعامل مع أبنائه. ثم تهيّأت الفرصة للأقرع أن يزور رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في بيته؛ ليتجاذب معه أطراف الحديث، فأكرمه النبي عليه الصلاة والسلام واستقبله أحسن استقبال، وأقبل إليه بوجهه البشوش وقلبه الكبير كعادته عليه الصلاة والسلام مع ضيوفه. وصادف في هذه الأثناء أن دخل الحسن رضي الله عنه إلى مجلس النبي –صلى الله عليه وسلم- والشوق واللهفة يدفعانه دفعاً إلى الحضن النبويّ الدافئ، والرّحمة الفيّاضة، وكيف لا يفعل الصغير ذلك وذاكرته ملأى بمواقف الحبّ والحفاوة التي يحظى بها مع أخيه الحسين رضي الله عنهما؟. وهكذا ألقى الصبيّ نفسه بين أحضان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ليضمّه عليه الصلاة والسلام ويقبّله مراراً، وعندما أبصر الأقرع هذا المشهد –وهو مشهدٌ غير مألوف بالنسبة له- انعقد حاجباه دهشةً واستغراباً، فلم يكن من المألوف لديه معاملة الصغار بمثل هذه الشفقة والرحمة، فلذلك علّق قائلاً: "إن لي عشرةٌ من الولد ما قبّلت واحداً منهم". ما هذا الطبع الذي اتّصف به الأقرع ليحرمه من بركة الله وفضله، ورحمته الموعودة للرحماء في الأرض كما هو منصوصٌ عليه في الشرع، فما كان من النبي –صلى الله عليه وسلم- إلا أن أجابه معلماً: : ( إنه من لا يَرحم، لا يُرحم) ، وفي رواية: (أرأيت إن كان الله نزع الرحمة من قلبك فما ذنبي؟) . إضاءات حول الموقف يُرشد الموقف النبويّ الكريم إلى ضرورة معاملة الصغار من منطلق الرحمة والرأفة والشفقة، وهذا يقتضي في المقابل ترك الغلظة والجفاء معهم بكافّة أشكاله وصوره؛ وهذا الإرشاد مستفادٌ من فعل النبي –صلى الله عليه وسلم- مع الحسن رضي الله عنه من الملاطفة والتقبيل، ومن قوله عليه الصلاة والسلام: : ( إنه من لا يَرحم، لا يُرحم) . فالله سبحانه وتعالى يرحم من عباده الرّحماء، وأولى الناس بمظاهر الرّحمة والرأفة هم صغار السنّ والذين يعيشون مرحلة الطفولة، وهذا يستدعي مودّة تسعهم، وحلماً لا يضيق بجهلهم، وملاعبةً تًنمّي الأواصر وتقوّي الصلات الروحيّة بين الصغير والكبير. وهذه الرعاية الخاصّة التي جاء التوجيه النبوي بها لها أثرٌ كبير على نفسيّة الأطفال واستقرارهم العاطفيّ، وهي عاملٌ أصيلٌ من عوامل النموّ السلوكيّ، فصدق رسول الله –صلى الله عليه وسلم- القائل: ( ليس منا من لم يرحم صغيرنا) رواه أحمد .
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:21 am | |
| إن الشيطان يجري من ابن أدم مجرى الدم
عن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً فحدّثته، ثم قمتُ فانقلبت، فقام معي ليقلبني -وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد رضي الله عنهما-، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي -صلى الله عليه وسلم- أسرعا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( على رسلكما، إنها صفية بنت حيي ) ، فقالا: سبحان الله يا رسول الله!، فقال: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يَقذف في قلوبكما سوءا -أو قال شيئا- ) ". متفق عليه، واللفظ للبخاري . معاني المفردات فقام معي ليقلبني: أي ليرجعني إلى داري على رسلكما: عليكم بالأناة ولا تعجلا. إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم: جعل بعض العلماء اللفظ على ظاهره، وأن الله تعالى جعل للشيطان قوة وقدرة على الجري في باطن الانسان مجاري دمه، وقيل: هو على الاستعارة لكثرة إغوائه ووسوسته، فكأنه لايفارق الانسان كما لايفارقه دمه، والمعنى الأوّل أقرب للصواب. تفاصيل الموقف لم يكن النبي –صلى الله عليه وسلم- في شهرٍ من الشهور أكثر إقبالاً على الطاعة، ولا جوداً بالخير، ولا تفيّؤاً في ظلال الذكر، من شهر رمضان، وكيف لا يكون حاله كذلك وهو شهر تفتّح فيه أبواب الجنّة؟ وتغلق فيه أبواب النار؟ ويكثر فيه العتقاء من النار؟ ولتحقيق هذه المكاسب الأخرويّة اختار النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يعتكف في مسجده، في عزلةٍ شعوريّةٍ تمنحه تفرّغاً أكبر للعبادة والمناجاة والاستغراق فيهما، في ضيافة بيت من بيوت الله عزّ وجل. وهذا الانقطاع التعبّدي الذي كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يقوم به، ليس من جنس الرهبانيّة الأولى، التي ابتدعها أهل الكتاب من عند أنفسهم، ولكنّه تخفّف من الدنيا وملهياتها، تخفّف لا يحرّم الكلام أو يمنع المباح، ولكن يُعطي مجالاً للحديث مع الآخرين في شؤون دينهم ودنياهم، ولذلك كانت زوجاته عليه الصلاة والسلام يقمنَ بزيارته في معتكفه بين الحين والآخر. ومن بين تلك الزيارات: قدوم صفيّة بنت حيّي رضي الله عنها إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- في المسجد لتحدّثه حول بعض شؤونها، فكان أن لبّى النبي عليه الصلاة والسلام حاجتها إلى الحديث ورغبتها في الزيارة ولم يعاجلها حتى أوغل الليل واشتدّت ظلمته. ولليل رهبته وللظلام وحشته مهما كانت رباطة الجأش وقوّة القلب، خصوصاً إذا ما تعلّق الأمر بالنساء ورقّتهنّ، ما جعل النبي –صلى الله عليه وسلم- يقرّر أن يرافق زوجته في طريق العودة حتى لا يساورها الخوف أو يخالجها الفزع، فخرج عليه الصلاة والسلام معها حتى يوصلها إلى البيت الذي تسكن فيه، وهي دار أسامة بن زيد رضي الله عنهما. في هذه الأثناء كان هناك رجلان من الصحابة يمرّان بالطريق الذي قصده الرسول–صلى الله عليه وسلم – و صفيّة ، فأبصرا النبي عليه الصلاة والسلام ومعه امرأة متّشحة بالسواد، فاستحيا وأسرعا مبتعدين، ولم يدر في تفكيرهما أي خاطر من أي نوع. لكن النبي –صلى الله عليه وسلم- وهو طبيب القلوب، والعالم بمكائد الشيطان وحبائله، خشي من الوسواس الخنّاس أن يزرع في قلوبهما ريبةً أو شكّاً، أو أن يمور في نفوسهما شيء من ذلك –ولو كان خاطراً عابراً -، وسوء الظنّ بالأنبياء كفر. وقطعاً لدابر الفكرة بادر النبي –صلى الله عليه وسلم – بقوله : ( على رسلكما، إنها صفية بنت حيي ) ، وفي رواية : ( تعاليا، إنها صفية بنت حيي ) . تملك الذهول الرجلين، وهتفا على الفور : " سبحان الله! "، تنزيهاً لله أن يقع نبيّه في ما يشين وهو الطاهر المطهّر، ونفياً قاطعاً أن يكون قد خطر على البال من أمثال تلك الواردات السيئة والظنون الرّديئة. ولكن الدرس الذي أراد النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يعلّمه أصحابه عن طبيعة عدوّهم، اللصيق بهم أينما كانوا وحيثما حلّوا: ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ) . إضاءات حول الموقف شعار هذا الموقف النبوي العظيم هو الاستبراء للعرض وعدم الوقوف في مواقف الريبة؛ حتى يقطع دابر الفتنة، ويحمي المسلم سمعته أن تلحق بها تهمة؛ ذلك أن الخواطر تبدأ فكرةً، ثم لا يلبث اللسان أن يبوح بها لقريب أو صديق، ومع مرور الوقت تتناقل الألسنة قالة السوء، ليوصم صاحبها بما هو بريء منه ولا حيلة له في دفعه، فتضيع الثقة وتشوّه السمعة. يقول الإمام الخطابي : " في هذا الحديث من العلم استحباب أن يحذر الإنسان من كل أمر من المكروه مما تجري به الظنون ، ويخطر بالقلوب ، وأن يطلب السلامة من الناس بإظهار البراءَة من الريب " . ولهذا البعد الأخلاقي أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- بالتفرقة بين عقبة بن الحارث رضي الله عنه وزوجه عندما ادّعت عجوز أنها قامت بإرضاعهما معاً، وبالتالي فهما أخوان من الرضاعة، وعندما قال عقبة رضي الله عنه للنبي عليه الصلاة والسلام : "يا رسول الله، ما صدقت "، فكان جوابه عليه الصلاة والسلام : ( كيف وقد قيل؟ ) رواه البخاري . ومما نستشرفه من معاني هذه القصّة: شفقة النبي -صلى الله عليه و سلم- على أمته وصيانته لقلوب أتباعه وأفكارهم، وجواز زيارة المرأة لزوجها المعتكف في أي ساعة من ليل أو نهار على أن يكون بالقدر المعقول الذي لا يجرّ إلى إفساد الاعتكاف، كما أن في القصّة جواز التسبيح تعظيما للشيء وتعجبا منه، وشواهد ذلك كثيرةٌ في الكتاب والسنّة.
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:21 am | |
| مواقف نبويـــة
ما كان لنبي ان تكون له خائنة الأعين
عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال : " لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان ، فجاء به حتى أوقفه على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، بايع عبد الله ، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: (أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟) فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟، قال: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين) " رواه أبو داود و البيهقي . معاني المفردات كل ذلك يأبى: المقصود أنه كان يرفض قبول بيعته. أومأت إلينا بعينك: أشرتَ بطرف عينك. خائنة الأعين : أن يومئ بعينه ما يدلّ على أنّه يضمر بقلبه غير ما يظهره للناس. تفاصيل الموقف وجاء يوم الفتح، وأقبلت جيوش المسلمين المظفّرة رافعة لواء التوحيد عالية خفّاقة، لتعلن عودة الذين أُخرجوا من ديارهم جوراً وظلما،ً وطردوا من أرضهم إجباراً وقهراً، ليدخلوا مكّة في عزّة لا كبر فيها، وفخرٍ لا غرور فيه، وتمكّن لا عدوان يمازجه، وبذلك الحدث العظيم طويت صفحة الماضي بكل عذاباته وأحزانه ومآسيه، وبدأ تاريخ جديد مشرق الجنبات بأنوار العدل والحق. وعلى النحو الذي توقّعته قريش من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يكن دخوله كدخول الجبابرة من ملوك الأرض عادةً، بطشاً وإحراقاً، وتنكيلاً ونكاية، بل كان قدومه عليه الصلاة والسلام قدوم خير وبركة، وأمن وسلام، ليأمن من كان في بيته على نفسه وماله، ويسلم من لاذ بحمى الكعبة أو ظلّله سقف بيت أبي سفيان رضي الله عنه، ثم تتمّ النعمة عليهم بصدور العفو العام من قِبَل النبي عليه الصلاة والسلام : ( اذهبوا فأنتم الطلقاء) . ويتنفّس القوم الصعداء، شاعرين بعظيم الامتنان لتلك المبادرة السامية، ولا يمرّ وقت طويل حتى يتبيّن أن ذلك العفو على عمومه مخصوص، فثمّة رجال أربعة وامرأتان لم يشملهم العفو، جمعوا إلى كفرهم وضلالهم، وغيّهم وفسادهم، جرائم خاصّة في حقّ النبي – صلى الله عليه وسلم – وفي حق الدعوة، وحقوق الأبرياء الذين قُتلوا على أيديهم وبأسبابهم، وكانت أسماؤهم كالتالي : " ابن خطل، وعكرمة بن أبي جهل، ومقيس بن صبابة، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح "، وجاريتين كانتا تحت رجل من قريش تغنّيان بهجاء النبي – صلى الله عليه وسلم - . وما إن لامس الخبر آذان أولئك حتى بادروا بالفرار شرقاً وغرباً، رغبةً في الخلاص من شبح الموت الذي يلاحقهم، فمنهم من استجار بالكعبة – وهو ابن خطل – وتعلّق بأستارها ظنّاً منه أن ذلك يُنجيه من قرار القتل ، لكن أوامر النبي – صلى الله عليه وسلم – كانت واضحة منذ اللحظة الأولى : ( اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة ) فسارع إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر رضي الله عنهما فسبق سعيد إليه فقتله. وبالمثل فقد كان لكل واحد من هؤلاء الذين وردت أسماؤهم قصّة، تحمل في طيّاتها جذور ماضٍ مظلم وتاريخاً غير مشرّف، ويبرز من بينهم عبدالله بن سعد بن أبي سرح، ذلك الرجل الذي أسلم قديماً وهاجر فيمن هاجر، وترقّى في منازل الشرف حتى صار من كتّاب الوحي، ليهوي من القمّة إلى القاع، ويُعلن ردّته ثم يلحق بقريش، بل ويدّعي بأقبح الافتراء وأشنعه أنّه كان يُملي الوحي على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وهذا النوع من الكذب الرخيص يطعن في أصل نبوّته عليه الصلاة والسلام ويقدح في صدقه، فلا عتب إذاً حين لم يشمله العفو العام. وكان لعبدالله بن أبي السرح قرابة مع عثمان بن عفان رضي الله عنه، والصلة بينهما جاءت بسبب الرضاعة، فكان من الطبيعي أن يُسارع إلى بيت أخيه رضاعةً، وقد أعلن أمامه ندمه على ما كان منه من كذبٍ وافتراء، وعداوةٍ واجتراء، وذكر له رغبته في العودة إلى ظلال الإسلام، ورجاه أن يشفع له عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم. أخذ عثمان رضي الله عنه بيد أخيه، وجاء به إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل أن ينفذ إليه أحد من المسلمين، وكلّمه في شأنه ثم قال له : " يا رسول الله، بايع عبد الله ". نظر النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى ابن أبي السرح طويلاُ دون أن ينطق بشيء، ووقف الصحابة من حوله يرقبون الموقف، وطال الصمت، فعاود عثمان رضي الله عنه قوله دون أن يحظى بجواب النبي عليه الصلاة والسلام، فكرّر طلبه للمرّة الثالثة، وهنا مدّ النبي عليه الصلاة والسلام يده موافقا على المبايعة. وانصرف عبدالله مسروراً بقبول توبته والموافقة على بيعته، وما إن توارى عن الأنظار حتى التفت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى أصحابه معاتباً، وقال : ( أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟) . نظر القوم إلى بعضهم والحيرة تملأ وجوههم، إذ لم يدُر بخَلَد أحدهم أن إحجام النبي – صلى الله عليه وسلم – كان مقصوداً، وأنه عليه الصلاة والسلام كان راغباً في قتله، فقالوا تأكيداً لحيرتهم : " ما ندري يا رسول الله ما في نفسك" وسألوه : "ألا أومأت إلينا بعينك؟". ولكن لا، لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – ليومئ بطرف عينه خلاف ما يُظهر، حتى لا يتلبّس بشيء من أفعال أهل الغدر، والغدر –دقيقه وجليله، حقيره وعظيمه – لا ينبغي لمن اصطفاه الله لمقام النبوّة والرسالة. إضاءات حول الموقف يدل الحديث على قبح خلق الخيانة الذي أجمعت على استنكاره وبغضه آراء الناس على اختلاف مللهم ونحلهم، وكفى به قبحاً أن صاحبها مذموم عند الله ، كما جاء في القرآن الكريم : { إن الله لا يحب الخائنين } ( الأنفال : 58 ). وها هنا صورة دقيقة من صور الخيانة قد لا يتنبّه لها كثيرٌ من الناس، والفضل يعود إلى هذا الحديث ليبيّن هذه الصورة ويوضّحها، ألا وهي الخيانة بالعين. والحال أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يريد أن يقتل الرّجل لكذبه وافترائه عليه، ولا يليق بالنبي – صلى الله عليه وسلم – أن يوهمه بأنّه سيتركه ثم يغمز بطرف عينه إلى أصحابه ليقتلوه، وشأن الأنبياء صلوات الله عليهم أن يوافق ظاهرهم باطنهم، وسرّهم علانيّتهم، بكل وضوح وشفافيّة لا مواربة فيها، فإما أن يعفو، وإما أن يجدّد الأمر بقتله. وعلى أية حال فقد كان العفو من مصلحة هذا الصحابي الكريم، فقد حسن إسلامه بعد ذلك، وولاه عمر بعض أعماله ثم ولاه عثمان رضي الله عنه مصر كلها، وشارك رضي الله عنه في ثلاث معارك كبرى : معركة أفريقية، وذات الصواري، والأساود، وأبلى فيهنّ بلاء حسناً ، بل وينقل الحافظ ابن كثير رضي الله عنه في البداية والنهاية ما يدلّ على حسن خاتمته فيقول : " ..ومات وهو ساجد في صلاة الصبح أو بعد انقضاء صلاتها.." فرضي الله عنه وأرضاه.
| |
|
| |
مصطفى ابراهيم الشافعى عضو / ة
الساعة الأن : الجنس : عدد المساهمات : 797 نقاط : 1473 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 13/08/2011 العمر : 28
| موضوع: رد: مواقف نبويـــة الخميس 09 أغسطس 2012, 4:22 am | |
| مقــالات
مواقف نبويـــة
عبد شكور
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : " قام النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى تورمت قدماه فقيل له: غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: (أفلا أكون عبدا شكوراً؟ ) " متفق عليه واللفظ للبخاري . وفي رواية أخرى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : (أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا؟ ) فلما كثُرَ لحمه صلّى جالسا". معاني المفردات تورّمت : انتفخت. تفاصيل الموقف النبي – صلى الله عليه وسلم –كما نعرفه: خاتم الأنبياء، وصفوة الأولياء، وخير البريّة، وهادي البشريّة، شفيع الخلق يوم القيامة، وأوّل من يفتح له باب الجنّة، الموعود بالمقام المحمود الذي لا يبلغه أحد، والمغفور له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. أفمن كان بتلك المنازل العالية، والمقامات السامية، والوعود الإلهيّة في دنياه وآخرته، أليس الحريّ به أن يركن إلى ذلك كلّه؟ بدلاً من إجهاد النفس بالعبادة وإدخال المشقّة عليها بالقيام؟ وحرمانها من نصيبٍ أكبر من الدنيا، والإكثار عليها بألوان الذكر والصلوات، على نحوٍ يفوق تحمّل الصحابة رضوان الله عليهم – وهم من هم – فضلاً عن غيرهم؟. ولكنّه الدرس العظيم، والحكمة الرائعة، والرؤية الثاقبة، والمنطق الرزين، لحقيقة العبوديّة وأسرارها، ومقتضيات النعمة ومتطلّباتها، في لوحة نبويّة مشرقة الجنبات، متلألئة الأنوار،تسرّ الناظرين، وتهدي الحائرين. ولباب القصّة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ومنذ أن نزل عليه قول الحقّ جلّ وعلا : { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } ( المزمّل : 5 ) صار ديدنه إذا ادلهمّ الليل واشتدّت ظلمته، أن يُلقي بالدنيا وراء ظهره، ويغلق بابها خلفه، بكلّ أحداثها ومواقفها، وشخصيّاتها وعلاقاتها، قاصداً ركن بيته، مُقبلاً على ربّه وخالقه، وسيّده ومولاه، بكل جارحة من جوارحه، يُعمل فكره في آلاء الله عليه، ويتدبّر آياتٍ أُنزلت عليه، متبتّلاً في محرابه ساجداً وقائماً، ويظلّ على حاله ذلك حتى يتصرّم الليل ولا يبقى منه إلا شطره الأخير، ثم يدعو بما فتح الله عليه. وتلحظ عائشة رضي الله عنها طول قيام النبي – صلى الله عليه وسلم -، وتُبصر آثار ذلك واضحةً جليّة، فالشقوق وجدت طريقها في القدمين الشريفتين، علاوةً على الانتفاخ الحاصل فيهما جرّاء الوقوف الطويل. وهنا تُشفق عائشة رضي الله عنها على زوجها، ويُؤلم قلبها ما تراه من إجهاد النبي – صلى الله عليه وسلم – لنفسه في سبل العبادة وطرائقها، لتخاطبه خطاب المحبّ العطوف : " لِمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ " وكأنها رضي الله عنها تترجّاه أن يخفّف على نفسه ويعطيها مساحة أكبر من الراحة، ما دامت البُشرى الإلهيّة بغفران الذنوب متحقّقة. ويأتي جواب النبي – صلى الله عليه وسلم – ناطقاً بالحكمة، في كلماتٍ معدودة، تُخاطب في المرء أوّل ما تُخاطب وجدانه، وتُرشده إلى أُفُقٍ أرحب، وتصوّر أشمل: ( أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا؟ ) فعبادة الله سبحانه وتعالى لا تكون خوفاً من عواقب الذنوب فحسب، ولا طلباً للرحمة وكفى، بل تكون كذلك صورةً من صور الشكر للمنعم على إنعامه، والاعتراف له على توفيقه وامتنانه، والأنبياء هم أولى الناس طرْقاً لهذا الباب، حيث اصطفاهم الله بالرسالة، وزيّنهم بالعصمة والجلالة، وأعظِم بها من نعمة. إضاءات حول الموقف الشكر من شعب الإيمان الجامعة، يملأ النفس رضاً بالخالق، والقلبَ سلامةً من الغلّ، ويورث الأخلاق شعوراً بالقناعة، لينعم صاحبها بالراحة والسعادة. ولعظم فضل هذه العبادة وعلوّ منزلتها، تضافرت النصوص الشرعيّة في ذكرها وامتداح أهلها، وفي الثناء عليها والدعوة إليها، والآيات والأحاديث في ذلك ليست بالقليلة، وحسبنا أن نقرأ دليلاً لما سبق قوله تعالى : { وسنجزي الشاكرين } (آل عمران : 145 )، وقوله تعالى : { ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله } ( لقمان : 12 )، وقوله : { بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } ( الزمر : 66 )، وغيرها من الآيات. وكم حملت السنّة في جنباتها من الأذكار والمحامد التي تنطق بالاعتراف بما أحدثه الله للناس من الفضائل، وما كاثره عليهم من الخيرات، وما أسبغه عليهم من النعم، تربيةً للمؤمن كي يكون شكره لربّه وخالقه ديدينه وعادته في أحواله كلّها، وأوقاته جميعها، من مبدأ يومه إلى منتهاه. ومن خلال تتبع ما ورد بخصوص الشكر في القرآن والسنّة يتبيّن أنّه يكون بالقول كحال الأذكار المشروعة، ويدخل في هذا الباب نسبة النعمة إلى المنعم سبحانه، قال تعالى : { وما بكم من نعمة فمن الله } ( النحل : 53 )، ويكون كذلك بالفعل، ويُستدلّ لهذا المعنى بقوله تعالى : { اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور } ( سبأ : 13 )، ومن هذا الشكر ما كان يصنعه النبي – صلى الله عليه وسلم – من إطالة الصلاة والقيام على النحو الذي ورد في الحديث السابق. ومهما أنفق العبد من الأوقات اجتهاداً منه لأداء شكر نعمة واحدة فلن يؤدّي حقّها، بل لو قضى عمره كلّه في إحصائها وتتبّعها فلن يطيق ذلك، فالحمد لله الذي رضي من عباده اليسير من العمل، وعاملنا بإحسانه وفضله.
| |
|
| |
| مواقف نبويـــة | |
|