الحلم والرفق والصبر
يوم في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم
المؤلف
عبد الملك القاسم
وقفات ومقتطفات من صفات النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله، ولم أستقصها، بل اقتصرت على ما أراه قد تفلت من حياة الناس، مكتفيًا عند كل خصلة ومنقبة بحديثين أو ثلاثة، فقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم حياة أمة وقيام دعوة ومنهاج حياة.. وهو عليه الصلاة والسلام أمة في الطاعة والعبادة، وكرم الخلق وحسن المعاملة، وشرف المقام، ويكفي ثناء الله عز وجل عليه:
(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
الحلقة الحادية والعشرون
*** الحلم والرفق والصبر ***
البطش وأخذ الحقوق قهرا" وجبرا" من سمات الظلمة وأهل الجور ونبينا عليه أفضل الصلاة والسلام أرسى قواعد العدل والنصرة لكل صاحب حق حتى ينال حقه ويأخذه وقد سير صلى الله عليه وسلم ما منحه الله عز وجل من أمر ونهي للخير وفي سبيل الخير..فنحن لا نخشى في بيته صلى الله عليه وسلم مظلمة ولا بطشا" ..ولا تعديا" ولا نهبا"..
عن عائشة رضي الله عنها قالت : " ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا" قط بيده ولا امرأة ولا خادما" إلا أن يجاهد في سبيل الله وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى " رواه أحمد.
وعن أنس رضي الله عنه قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية , فأدركه اعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته ثم قال : " يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء " متفق عليه.
ولما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين تبعه الأعراب يسألونه فألجؤوه إلى شجرة فخطفت رداءه وهو على راحلته فقال : " ردوا علي ردائي أتخشون علي البخل ؟ فقال : فوالله لو كان لي عدد هذه العضاة نعما" لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا" ولا جبانا" ولا كذابا" رواه البغوي وصححه الألباني.
ومن أنصع صور التربية وجميل التعليم ..الرفق في جميع الأمور ومعرفة المصالح ودرء المفاسد..
أخذت الغيرة الصحابة وهم يرون من يخطئ وتزل قدمه وسارعوا إلى الإنكار وحق لهم ذلك..ولكن الحليم الرفيق صلى الله عليه وسلم منعهم من ذلك لجهل الفاعل وللضرر المترتب . فكان الأولى ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :بال أعربي في المسجد ، فقام الناس إليه ليقعوا فيه ،فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"دعوه و.أريقوا على بوله سجلاً من ماء ، أو ذنوباً من ماء،فإنما بعثتم ميسرين ، ولم تبعثوا معسرين "رواه البخاري .
وصبر الرسول على أمر الدعوة مدعاة إلى التأسي به والسير على نهجه وعدم الانتصار للنفس ، عن عائشة رضي الله عنها انها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم :هل اتى عليك يوم كان اشد من احد ؟ قال : "لقد لقيت من قومك, وكان اشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذا عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلا ل، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي ،فإذا أنا بسحابه قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال : إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا عليك ،وقد بعثت إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، فناداني ملك الجبال ، فسلم علي ثم قال :يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك ،وأنا ملك الجبال،وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك،فما شئت أطبقت عليهم الأخشبين فقال النبي : " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا" " متفق عليه.
وبعض النفوس اليوم تتعجل أمر الدعوة وتأمل في حصد النتائج سريعا" , والانتصار للنفس قدحا" في الدعوة وإخلاصها..ولهذا فشلت بعض الدعوات لفشو هذا الأمر بين أفرادها فأين الصبر والتحمل ؟!
وبعد سنوات طويلة وقع ما أمله الرسول صلى الله عليه وسلم بعد معاناة صبر وطول جهاد!
وكيف يسامى خير من وطيء الثرى***وفي كل باع عن علاه قصور.
وكل شريف عنده متواضع ***وكل عظيم القريتين حقير.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كأني انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا" من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه, ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول : " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " متفق عليه.
وذات يوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في جنازة مع أصحابه يهودي اسمه زيد بن سعنة يتقاضاه دينا" فأخذ بمجامع قميصه وردائه ونظر إليه بوجه غليظ وقال : يا محمد ألا تقضني حقي ؟ وأغلظ في القول فغضب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونظر إلى زيد وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير ثم قال : يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع , وتفعل ما أرى ؟! فو الذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر من لومه لضربت بسيفي رأسك . ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة ثم قال : " ياعمر أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا , أن تأمرني بحسن الأداء , وتأمره بحسن التباعة اذهب به يا عمر فأعطه حقه وزده عشرين صاعا" من تمر "
يقول زيد (اليهودي) لما زاد عمر عشرين صاعا" من تمر : ما هذه الزيادة يا عمر ؟ قال عمر : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان نقمتك . قال زيد : أتعرفني يا عمر ؟ قال : لا , من أنت ؟ قال : زيد بن سعنة.
قال الحبر ؟
قلت : الحبر ..قال : فما دعاك أن فعلت برسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلت وقلت له ما قلت ؟ قال زيد : ياعمر , لم يكن له من علامات النبوة شيئ إلا وقد عرفته في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنين , لم اخبرهما منه : هل يسبق حلمه جهله , ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما" فقد اختبرتهما فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله ربا" وبالإسلام دينا" وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا", وأشهدك أن شطر مالي صدقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه : أو على بعضهم فإنك لا تسعهم قال زيد : أو على بعضهم فرجع زيد (اليهودي) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا" عبده ورسوله وآمن به وصدقه.أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه.
ونحن نتأمل الموقف ونهايته والحوار الطويل فيه لعل لنا نصيبا" من التأسي بقدوتنا محمد عليه الصلاة والسلام . والصبر على الناس ودعوتهم برفق وحلم وتشجيعهم إذا أحسنوا وبث روح التفاؤل في نفوسهم .
عن عائشة رضي الله عنها قالت : " اعتمرت مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة حتى إذا قدمت مكة قلت : بأبي أنت وأمي يارسول الله قصرت وأتممت وأفطرت وصمت قال : "أحسنت يا عائشة " وماعاب علي " رواه النسائي.
نسأل الله لنا ولكم الهدى والتوفيق والسداد