حال المؤمن عند هبوب الرياح
خالد بن سعود البليهد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد فإن الرياح آية من آيات الله الكونية العظيمة وجند من جنده خلقها الله لحكم عظيمة وفوائد متنوعة قد تخفى على كثير من الناس والله لا يخلق شيئا عبثا بلا حكمة. قال تعالى: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). وفي الأثر: (الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب). رواه أبوداود.
فالرياح لها وظائف مهمة:
(1) منها أنها تسوق السحب التي ينزل منها المطر. قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ).
(2) ومنها أنها تجري بالسفن في الماء. قال تعالى: (حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ).
(3) ومنها أنها تكون سببا بإذن الله في عملية لقاح الأشجار وتخصيبها كما هو معروف عند الزراع. قال تعالى: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ). قال ابن عباس: (لواقح للشجر والسحاب).
وقد سخر الله عز وجل الرياح لنبيه سليمان عليه السلام فكانت تحمله إلى مسافات بعيدة جدا في وقت قصير جدا كما قال تعالى: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ). واليوم سخرها الله في حمل الطائرات في السماء فصار الناس يقطعون القارات في بضع ساعات والحمد لله.
وسخرها الله عز وجل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نصرة على أعدائه قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا). وفي الصحيحين عن ابن عباس قال قال رسول الله عليه وسلم: (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور). وهي الريح الشرقية.
وقد يجعل الله الريح عذابا وشؤما على قوم يسلطها عليهم فتهلكهم وتسحقهم وتتلف أموالهم كما سلطها على قوم عاد. قال تعالى: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ). وسلطها على أمم من الغابرين وعلى شعوب تعيش في هذا الزمان الحاضر كما هو مشاهد في وسائل الإعلام. فالريح جند عظيم من جند الله إذا بعثها الله على قوم حربا وعذابا أهلكتهم وسحقتهم وأفسدت حياتهم مهما أوتوا من الإمكانات والقدرات المادية والتطور العلمي وفي هذه المشاهد تتجلى قدرة الله وكمال قوته وشدة انتقامه وهوان الخلق وضعفهم أمام قوة الله.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هبت الرياح تتغير حاله خشية وفرقا من عذاب الله كما قالت عائشة رضي الله عنه : (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة في السماء أقبل وأدبر ودخل وخرج وتغير وجهه فإذا أمطرت السماء سري عنه فعرفته عائشة ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما أدري لعله كما قال قوم عاد ( فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم) الآية). متفق عليه. وقالت عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به) . رواه مسلم. وهذا يدل على أن المشروع إذا هبت الرياح أن يدعو الانسان بهذا الدعاء ويكون على وجل من عذاب الله وسخطه.
فالمؤمن الحق هو الذي يعتبر ويتعظ ويخشى من العواقب إذا تغيرت الأحوال العامة ونزلت آية كونية كالكسوف والخسوف وشدة الرياح والزلازل فيفزع إلى الله بأنواع العبادات ويظهر الندم على التفريط ويكثر من الصالحات ولهذا شرعت الصلاة جماعة عند الكسوف والخسوف واستحب ابن عياس رضي الله عنه الصلاة عند حدوث الزلازل واستحب طائفة من الفقهاء الصلاة عند حدوث الآيات.
فالحاصل أنه يشرع للمؤمن عند هبوب الرياح الشديدة:
1- الشعور بالخوف والوجل من حلول عقاب الله على الأمة.
2- الدعاء بالدعاء الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
3- التوبة وكثرة الاستغفار والذكر دفعا للضرر والعذاب. قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ). وفي حديث الخسوف: (فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره). متفق عليه.
4- الصدقة والبذل والاحسان إلى الفقراء والمساكين لأن الله يصرف العذاب عن المحسنين ويجازيهم بالإحسان. ولذلك ورد الأمر بالصدقة حال الخسوف.
وإنما يوجل المؤمن ويخاف من نزول العذاب لأن قلبه حي بالإيمان يخاف من شدة عذاب الله وقوة انتقامه من الظالمين المعرضين عن اتباع آياته والعمل بشرعه قال تعالى: (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا). وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ). وقال تعالى: (وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ). وفي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه قال: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. ثم قرأ رسول الله عليه وسلم: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة الآية). فكلما تعرف العبد على صفات الجلال لله من الكبرياء والعظمة والعزة والغلبة والمكر بأهل المكر والانتقام وتأمل في أفعاله فيمن مضى وعادته في الجاحدين والغافلين استعظم الله وخافه أشد الخوف وهرب من عذابه إلى رحمته ولم يأمن مكر الله.
وأما ميت القلب فلا يتأثر ولا يتعظ ويعتبر من هبوب الرياح ولا يخش العواقب فحاله كحال الكفار وأهل الجاهلية الذين يأمنون مكر الله ويمنون أنفسهم بالأماني كما حكى الله عنهم: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ). فالكافر والفاجر في غفلة عظيمة عن التدبر والتفكر في آيات الله وأفعاله التي يرسلها الله لعباده إشارات ونذرا. (وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ).
ويخطئ بعض المسلمين الذين عند هبوب الرياح الشديدة يعمدون إلى تفسير هذه الآية بالقوانين الحسية ونظريات المناخ دون النظر إلى السبب الديني والأسباب المعنوية وهذا مسلك الكفار الماديين الذين لا يؤمنون بالغيب و لا يستشعرون ملك الله وتدبيره وتصرفه بالكون ولا ينسبون تغير الأحوال الفلكية والآيات الكونية لأفعال الله عز وجل.
ولا يجوز للمسلم أبدا ذم الريح وسبها لأن في ذلك اعتراضا على القدر وإساءة لأفعال الله فالريح خلق من خلق الله لا ينسب لها فعل ولا تملك شيئا بل هي مسخرة يصرفها الله حيث شاء ويمنعها عمن يشاء وكل ذلك بحكمة فمن يسبها ويذمها يرجع ذمه وسبه لله عياذا بالله ولذلك نهى الشارع عن ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أُمرت به ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به). رواه الترمذي وصححه. ولأن من حكمة الله أن الله لا يخلق شرا محضا من كل الوجوه وإنما قد يخلق شيئا فيه أذى وضرر من وجه على المخلوق ولكن فيه نفع وخير من وجوه أخرى قد تخفى على المخلوقين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك). واللائق بالعبد عند نزول البلاء إظهار الحمد والرضا بالقضاء مع سؤال الله السلامة وأخذ الأسباب الشرعية والحسية النافعة بإذن الله. ولا حرج للمؤمن أن يذكر سوء المناخ وشدة الرياح لغيره على سبيل الإخبار لا الاعتراض والذم كما ورد ذلك في القرآن. فينبغي للمسلم أن لا يضجر ويتأفف من نزول الرياح وكثرة الغبار ويسخط ويتجاوز الأدب الشرعي بل عليه أن يوطن نفسه بالصبر على هذا البلاء ويوقن أنه قدر لحكمة وفائدة لا يحيط بها عقله القاصر ويسلم الأمر لله الذي بيده مقاليد السماوات والأرض.
والعمل بذلك من مشاهد الإيمان ومقامات الحمد الذي يوفق إليه من هدي للحق واطمأن قلبه بالرضا أما الجهال والجفاة فيكثرون الشكوى والملامة والعيب في الرياح ويظهرون عدم الرضا لضعف بصيرتهم وقلة فقههم وضعف صبرهم وهذا التصرف كثير في الناس اليوم والله المستعان.