ملامح العمارة في طرابلس الإسلامية
د. جمعة قاجة
شهدت مدينة طرابلس حقبة إسلامية خالصة لمدة تسعة قرون, هي الفترة ما بين 23 ــ 916 هجري/643 ــ 1510 ميلادي.. وحفلت بعصور تاريخية إسلامية هي العصر الأموي والعباسي والاغلبي والموحدي والفاطمي وغيرهم..
وعلى مستوى العمارة فإنه من دواعي الاسف ان الكثير من المنشآت والمباني قد زال بسبب عوامل عديدة, صحيح ان منها ضعف المواد المستعملة في البناء, ولكن اهمها هو عوامل الصراع والتطاحن بين الامارات التي تعاقبت السيادة على هذه المدينة.. واخطر هذه الآثار المدمرة هو ما ارتكبه المحتل الاسباني الذي عمد إلى تدمير الكثير من الاوابد والمنجزات المعمارية الإسلامية بدواع دينية وعدوانية.
بل ان الاسبان وفرسان مالطة عملوا على تهجير سكان المدينة الاصليين منها.. لمحو وطمس شخصية المدينة العربية الإسلامية. لذلك فان اغلب ما نستطيع التعرف عليه الآن من طرز العمارة الإسلامية في طرابلس وجوارها هو عبر ما وضعه الرحالة والمؤرخون والجغرافيون.
بداية لابد من الاشارة إلى ان المسلمين اعطوا الاهتمام الكبير في شمال إفريقيا لمدينة القيروان اولاً التي انشئت في النصف الثاني من القرن الاول الهجري, حيث شهدت هذه المدينة تطوراً كبيراً في مختلف المناحي.. وكانت طرابلس حينذاك احدى المدن التابعة لها إدارياً..
ويعتبر ما قدمه التيجاني من وصف لمدينة طرابلس, واحوالها, ومبانيها.. ابرز ما كتب في هذا المجال, حيث تغطي كتابات التيجاني فترات مبكرة من تاريخ المدينة الإسلامي, اذ ان التيجاني اقام في مدينة طرابلس فترة تجاوزت السنة فيما بين 706 ــ 708 هجري/ 1307 ــ 1308 ميلادي.. وكتب محاولاً ان يعطي صورة تقارب حقيقة ما كان في المدينة حينذاك.. ولكن التيجاني اخذ أسلوب التسجيل والتأريخ اكثر من الغوص في وصف مفردات البناء والطراز المعماري...
مسجد عمرو بن العاص: بنى عمرو بن العاص هذا المسجد في مدينة طرابلس عند فتحه للمدينة, واختار موقعه على مشارف المدينة على نحو يواجه القلعة من ربوة.. وربما يكون هذا الموقع قد استخدم كمعسكر وكمسجد من قبل عمرو, وامتاز هذا المسجد كباقي المساجد الاسلامية الأولى بالبساطة المستقاة من نظام بيت ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم.. فكان هذا المسجد كما هي العادة حينذاك من مساحة ممهدة محاطة بأسوار متواضعة تسقف من جهة القبلة, ويترك فناء صحن المسجد وتضاف ظلة خلفية لهذا الصحن.
وبتحديد أكثر يقال ان الموقع الذي اختاره عمرو لهذا المسجد يقع على مشارف المدينة, وفي طريق مدخلها الرئيسي في الجهة الجنوبية الشرقية, ويشرف على القلعة التي تتحكم في هذا المدخل, وبالتالي فإن هذا الموقع هو المكان الذي عسكر فيه جيش عمرو بن العاص عند فتح المدينة.. وبعد الفتح تم تشييد هذا المسجد..
مسجد العشرة/ مسجد الناقة: ويعرف بأعتق مساجد المدينة, وكانت مساحته تبلغ حوالي 900 متر مربع.. ويعتبر جامع الناقة من الجوامع المتوارث عنها القدم, واشتهر بأنه جامع فاطمي الطراز وارتبط هذا الجامع بقصة الناقة المحملة التي وهبت من الخليفة المعز لدين الله الفاطمي أو قائده جوهر الصقلي لاهل المدينة لبناء هذا المسجد.
ويقال ان هذا المسجد تمت اعادة بنائه سنة 1019 هجري/1610 ميلادي.. على يد صفرداي, وذلك ما جاء في لوحة رخامية وجدت به تشير إلى تشييده بحيث يربط بين هذا الجامع والجامع الاعظم.. لكن هذه الروايات التاريخية تفتقد الكثيرمن الدقة..
ويدفع البعض برأي مخالف لا ينكر حقيقة ان جامع الناقة هو من اقدم واعتق المساجد وانه كان يسمى بمسجد العشرة, وقد وجد في فترة مبكرة من عمر الإسلام اي ما هو قبل العصر العبيدي الفاطمي.. وكذلك لا يوجد ما يؤيد انتماء هذا المسجد للمرحلة الفاطمية من ناحية مميزات الطرز المعمارية الفاطمية.
بل ان ما يوجد فيه هو بروز صحنه وهذا الامر معروف في المساجد الاسلامية الاولى كمسجد القيروان والجامع الاموي وقرطبة وسامراء ومسجد ابن طولون.. علماً بأن هذا الصحن يتصف وضع غريب حيث انه يقع على جانب المسجد, ولم يكن فيه صحن خلفي يلي بيت الصلاة, وقد كان عنصر الصحن من العناصر الاساسية بالمساجد العتيقة, يلي بيت الصلاة في أهميته, حيث يعتبر امتداداً له.
وقد تغير نظام الصحن في العهد السلجوقي باضافة الايوان لظلات الصحن (أروقة الصحن) اما مئذنة جامع الناقة الحالية المغربية الطراز فهي من نوع المآذن المقتبسة من مئذنة القيروان المشيدة في اوائل القرن الثاني عشر الهجري (حوالي 110 هجرى) اما قصة الناقة فهي قصة شعبية ينقصها السند التاريخي.. وربما ذات علاقة بجذور خيالية.. اكثر من واقعية.. وظهرت هذه التسمية في العهد العثماني الأول على اثر طرد الاسبان..
الجامع الاعظم الفاطمي: بناه بنو عبيد سنة 300 هجري.. وهو جامع متسع على اعمدة مرتفعة وسقفه حديث التجديد, وبه منار متسع مرتفع قائم من الارض على اعمدة مستديرة حتى نصفها ثم مسدسة الشكل.
واستمر هذا الجامع كأعظم جامع في المدينة ولعله الجامع الوحيد (جامع الجمعة) وفق ماكان سائداً من حيث وجود مسجد جامع واحد.. ولم تتعدد الجوامع الجامعة الا في فترات لاحقة عندما كبرت المدن وضاق الجامع بالمصلين.
ومن العناصر المعمارية في هذا الجامع الاعظم ما يعتبر من اول عناصر المساجد حيث يتضح ان في هذا الجامع قبة, والقباب من العناصر المعمارية الإسلامية المغربية التي ادخلت إلى المساجد في اوائل القرن الثالث هجري, فقبة القيروان ترجع الى سنة 221 هجري/836 ميلادي.. اما المنارة فكانت منفصلة عن الجامع الاعظم وذات شكل دائري اسطواني في الاسفل, ومضلع سداسي في الاعلى.. وهذا يختلف عن شكل الصوامع (المآذن) المغربية التي تأخذ الشكل المربع ابتداء من الارض حتى الأعلى..
ويتحدث المؤرخون عن مصير الجامع الاعظم الفاطمي بأنه أزيل واحرق على يد الاحتلال الاسباني, ويختلفون في تحديد الموقع الاصلي لهذا الجامع, اذ يميلون إلى ان مكانه كان في الموقع الذي يقوم فيه جامع درغوت أو قريباً منه.
اذن كما يعبر المسجد عن الجانب الروحي والديني للمدينة, فهو في اطار ما يمثله من مجموعة عمرانية, يعطي صورة عن الجوانب المعمارية, سواء في اتقان البناء أو نظام العمارة وطرزها وكذلك في أسلوب الزخرفة والتزيين الجميل.. والمسجد يتقدم غيره من المباني, اذ يأخذ دائماً احسن عناصر ومنشآت المدينة, ويحظى بالاهتمام الاكبر من جوانب العمارة, ونستطيع ان ندرس نظام تخطيط المسجد وتطوره ومحتواه واقسامه, فندرس بذلك تطور وطبيعة فن العمارة الإسلامية, وكل ما يتعلق به في المرحلة التاريخية التي شهدت بناءه..
بالاستخلاص نجد كيف ارتبطت مدينة طرابلس كاحدى المدن الاستراتيجية المهمة والمطلة على الشاطىء الجنوبي لحوض البحر المتوسط, والموجودة في هذا الموقع منذ عشرات القرون, وكانت هدف جميع الامبراطوريات التي سادت البحر منذ الفينيقيين والرومان..
وبحكم موقعها, وواقع مواجهتها للبلد المسيحية الأوروبية يمكن تحديد وظيفة هذه المدينة, باعتبارها كمركز للإدارة, ومقر للحكم, وعاصمة للبلاد, وكموقع استراتيجي عسكري, وحصن منيع لرد الهجمات الأوروبية المسيحية عن البلاد المسلمة, وكمركز مهم للنشاط التجاري, والصناعي, والتسويقي.. وكمركز ديني تعليمي..
وارتباطاً بهذه الوظائف, شهدت المدينة أنظمة ومدارس وطرزاً من الفنون المعمارية الإسلامية.. فكان فيها القلاع, والحصون, والاسوار, والقصور, والمساجد, والمدارس, والاسواق, والحوانيت, والفنادق.. فقلعة طرابلس تكوّن جزءاً مهماً من تاريخ المدينة, وعمارتها, وتمثل مظهراً أساسياً من معالمها, وارتبطت بالمدينة ارتباطاً عضوياً في جميع عصورها, حيث مثلت الحصن العسكري وقصبة المدينة وقلعتها وحاميتها ومقر اميرها أو واليها أو حاكمها.. وكان مظهر القلعة المعماري يعطي هذا الانطباع بكونها مقر للسلطة.
وقد ادخل عليها العديد من التعديلات مثل ايجاد نفق فيها واضافة النافورات والعناصر الشرقية.. التي منحتها الطابع الإسلامي, كشجر النخيل, والبيوت العربية, بما فيها من نقوش وكتابات, وزخرفة شرقية, وعقود ومشربيات عربية إسلامية..
أما الفندق فهو من أكثر معالم طرابلس المعمارية تميزاً.. وكان عبارة عن مبنى كبير به مجموعة من الحجرات تحيط وتشرف على فناء رئيسي يتوسط المبنى, ويتكون معظم الفنادق من دورين ولها مدخل واحد بباب ضخم يسمح بدخول الدواب التي يتم بواسطتها نقل السلع من وإلى الفندق.. ولقد استخدمت الفنادق كنزل للاقامة وكثكنة وكذلك تمثل منشأة تجارية أو صناعية أو سوقاً متخصصة.
أما بصدد الأسواق فنلاحظ انهاجاءت لتلبية حركة المدينة المعاشية وكانت الأسواق تخصصية, حيث كل سوق يختص بنشاط محدد تجاري أو مهني أو صناعي.. وتتكامل هذه الأسواق فيما بينها لتغطي مجمل الأنشطة.. ان ملاحظة النظم المعمارية في طرابلس تؤكد التأثر بالمدرستين الأندلسية والعثمانية في العمارة.
ولكن مدينة طرابلس اخذت طابعها المميز والذي لفت نظر الدارسين, ففي العمارة الإسلامية في ليبيا يوجد نظام التسقيف بالمساجد, وسمي هذا النسق بالمسجد ذي القبيبات أو المسجد المتعدد القباب المتساوية, وهو طراز نشأ من ملاءمة هذا التصميم للبيئة ومادة البناء المحلية, ولافتقار المنطقة لمواد بناء كالأخشاب أو الحجارة الجيدة التي تتحمل عمل اسقف متسعة أو قباب كبيرة..
وأضفت هذه الأمور طابعاً معمارياً خاصاً لمدينة طرابلس يتمثل بهذه القباب (أو القبيبات) بالذات في منطقة الأسواق.. كما تميزت تلك المساجد اضافة إلى ذلك بوجود مآذن بارزة ومرتفعة تظهر للمشاهد من خارج أسوار المدينة..
واشتهرت شوارع المدينة بمظهر الاقواس او العقود السائدة والممتدة على معظم الشوارع والأزقة.. كذلك استعمل تغطية الأزقة بالسباطات وهو مظهر وحركة معمارية جيدة قلّدت في العديد من التصاميم المعمارية للمناطق الصحراوية الحارة..
وهذه الاقواس والعقود اعطت شكلاً وطابعاً معمارياً خاصاً بالمدينة. وإلى جانب هذه الاقواس والعقود الساندة كانت هناك الحوائط المائلة وعمل الاكتاف الساندة أو الركابات.. لمنع انهيار الحوائط المبنية أساساً بمواد ضعيفة أو الحوائط الرفيعة او التي تحمل الابواب.. واضافة إلى هذه المميزات اخذت شوارع المدينة صفة الاستقامة واتساعها النسبي قياساً إلى طرق المدن العتيقة الأخرى..
لقد كوّنت هذه المجموعة من المظاهر والتشكيلات والممارسات المعمارية المؤدية لوظيفتها, والمنبثقة من البيئة المحلية, والمتأثرة بطرز العمارة المجاورة.. طابعاً معمارياً مميزاً لمدينة طرابلس
منقول