وقفات مع غزوة بدر
كتبه أبوعمر محمد حجازى.
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم , وبعد.
فى الثانى عشر من رمضان , وفى العام الثانى من الهجرة , خرج النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام , لملاقاة قافلة قادمة من الشام , على رأسها أبو سفيان بن حرب الذى أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه , خرج المسلمون ولم يكن فى ذهنهم يومئذ أنهم سيقاتلون , بل ظنوا أنهم سيتعرضون للعير ثم يؤوبون بها إلى المدينة فى سلام ,
لأن المسلمون عندما هاجروا من مكة إلى المدينة احتجز المشركون أموالهم فأراد المسلمون أن يستردوا هذه الأموال السليبة التى تمثلت فى هذه القافلة.
إلا أن خبر خروج المسلمين قد تسرب إلى القافلة , فبعثوا يستنجدون بالمشركين فى مكة , فأقبلت مكة بخيلائها ورمت المسلمين بأفلاذ أكبادها و أقسم سفيههم الأكبر أبو جهل عليه من الله تعالى سحائب اللعنات , أن يقيموا فى المدينة ثلاثة أيام يضربون بالدفوف وتغنى القيان ويشربون الخمر على أطلال محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه , خرج هاؤلاء بهذا المنطق المتكبر المتغطرس ,
وخرج المسلمون يطالبون بحقوقهم السليبة , التى طال ما استلبوها , منذ السنين الطوال , التى ذاق المسلمون فيها العنت , وتجرعوا من خلالها الغصص , وتعرضوا فيها لشتى أنواع الإبتلاء , وما كره رسولهم صلى الله عليه وسلم من هذا البلاء شيئا , بل كان يصبر على أذاهم كما أمره ربه بذلك , ((وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً )) فبعد أن كان فيهم الصادق الأمين , أصبح الكذاب الأشر , هكذا تصنع العصبيات الجاهلية بأصحاب الأهواء المتناحرة , رموه بكل ما يمكن أن يرموا به إنسانا فى هذه الحياة , ومع ذلك كان يصبر انقيادا لأمر ربه تعالى , ولما مرت هذه المرحلة انطلق المسلمون مع نبيهم مهاجرين يبحثون عن أرض أخرى يقيمون فيها دولة لهذا الدين , وقد كان , وأقاموا دولة ناشئة وليدة , وأمروا بقتال من ظلمهم وقاتلهم فحسب , ولما قويت شوكتهم واشتد عودهم وزادت صلابتهم , جاء الأمر بالقتال (( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقديرالذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز )) . وهنا أراد النبى صلى الله عليه وسلم أن يختبر هاؤلاء الذين خرجوا من المدينة جياعا لا يملكون شيئا من حطام هذه الدنيا الزائلة , هل عندهم من المقدرة أن يثبتوا أمام جيش هو أضعاف جيشهم ومعه من العتاد والعتد ما لا يملكون .فقال صلى الله عليه وسلم , معرضا بالأنصار , أشيروا علىّ أيها الناس , وهنا يقف المقداد ابن عمر ويقول , يا رسول الله والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن لا نقول اذهب أنت وربك فقاتلا وإنا معكم مقاتلون وقد كان . إن المسلمين يختلفون كثيرا عن بنى إسرائيل الجبناء بطبعهم قال الله فيهم ((لا يقاتلونكم جميعا إلا فى قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ))ولكن النبى صلى الله عليه وسلم يريد أن يسمع رأى الأنصار , فيكرر قائلا ؛ أشيروا علىّ أيها الناس , وهنا يقف سعد ابن معاذ ليقول كلمات تكتب بماء الذهب ويطمئن لها قلب النبى صلى الله عليه وسلم , فيقول سعد؛ يا رسول الله والله لكأنك تعنينا , فقال صلى الله عليه وسلم , بلى , فقال سعد يا رسول الله والله إنا لصبر عند اشدائد صدق عند اللقاء , ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك , خذ من أموالنا ما شئت ودع منها ماشئت , وما أخذت أحب إلينا مما تركت , وصل حبل من شئت واقطع حبل من شئت , فاوالله لو خضت بنا برك الغماد لخضناه وراءك .
لأنهم يعلمون أنه مؤيد من عند الله تعالى , فما كان منهم رضى الله عنهم إلا التسليم والإنقياد والقبول لأوامره صلى الله عليه وسلم حتى لو خاض بهم البحر لخاضوا وراءه .
ويطمئن قلب النبى صلى الله عليه وسلم لما قاله المقداد وسعد بن معاذ , ثم سوى صفوفه ونزل منزلا قريبا من ماء بدر , وهنا يقف الحباب بن المنذر رضى الله عنه ويقول يا رسوال الله أذاك منزل أنزلكه الله تعالى فلا نتقدم عليه أو نتأخر , أم هو الرأى والحرب والمكيدة , تأملوا ما قاله الحباب بن المنذر أذاك منزل أنزلك الله إياه , فإن كان كذلك (أى وحى من الله تعالى ) فلا مجال للرأى ولا مجال للشورى إذ لا اجتهاد مع النص , ولا مجال لحرية إبداء الرأى فلا بد للحريات أن تنضبط بقيود الشرع , ولا بد للمسلم أن ينقاد لأوامر الله تعالى وأن يقبل ما جاء فى الوحيين ( الكتاب والسنة) دون رد , والإسلام قد جاء ليحرر العباد من رق العبودية لغير الله تعالى , لذلك لما دخل ربعى بن عامر على رستم عظيم الروم فسئله رستم من أنتم ؟ فأجاب ربعى بن عامر نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد , ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .
فيقول الحباب بن المنذر يا رسول الله أذاك منزل أنزلك الله أياه فلا نتقدم عليه أو نتأخر ؟ أم هو الرأى والحرب والمكيدة , فأجابه النبى صلى الله عليه وسلم , بل هو الرأى والحرب والمكيدة , فقال أرى أن ننزل قريبا من الماء فنقطعه عن المشركين وأن نحاربهم دون الماء , فستجاب النبى صلى الله عليه وسلم لما قاله الحباب بن المنذر وهذا مصداق قوله تعالى (( وأمرهم شورى بينهم )) .
ثم سوى صفوفه واتخذوا له عريشا صلى الله عليه وسلم , وأضحى فى مؤخرة الجيش فى حراسة ابى بكر الصديق وسعد بن معاذ ,
ويبيت النبى صلى الله عليه وسلم ساجدا لله تعالى فى ماء وطين , يدعوا ربه تبارك وتعالى , أللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد فى الأرض أبدا , وأبو بكر يواسيه ويقول له يا محمد اصبر إن الله منجز لك ما وعدك , ثم ينظر النبى صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقد خرجوا لا يملكون شيئا من حطام الدنيا الزائلة , فيرثى لحالهم ويدعوا ربه تعالى اللهم إنهم حفاة فاحملهم عراة فاكسهم جياع فأطعمهم ثم يأتى المدد من السماء ((إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب )) ثم ينظر النبى صلى الله عليه وسلم ناحية الثنايا فيقول يا أبا بكر أبشر هذا جبريل آخذ بعنان فرسه عند ثنايا النقع ويطمئن قلب النبى صلى الله عليه وسلم إذ علم أن النصر حليفه ,
ويخرج المشركون يريدون اللقاء فيخرج لهم النبى صلى الله عليه وسلم أكفاء من بنى عبد المطلب فأبادوا الثلاثة الذين خرجوا للمبارزة , ثم يلقى فى وجوههم بالحصباء قائلا , شاهت الوجوه ثم يقول الآن حمى الوطيس , ودارت رحى هذه الحرب فى سرعة باهرة تهاوت فيها جحافل المشركين وصناديدهم تحت ضربات السيوف المؤمنة , وأصبحت الدعوى التى كانت بالأمس بالخيلاء والكبر والتيه بأنهم سيغنون ويشربون الخمر على أطلال محمد ومن معه حتى تسمع بهم العرب فترهبهم أبد الدهر , التى لم يتأثر بها المسلمون , لأن هذا هو شأن المسلم دائما على يقين بوعد الله تعالى (( يا موسى لا تخف إنك أنت الأعلى )) وهذا ما ينبغى علينا فى هذا الزمان ان لا نبالغ ونهول من قوة الأعداء بأنهم يملكون من الأسلحة مالا نملك , وها نحن اليوم نرى خيبة الأمريكان فى أفغانستان ومن قبلهم الروس وكذلك فشلهم فى العراق , فلا ينبغى أن نضخم من شأن أعداء الإسلام لأننا قوم ننصر بإيماننا , مع الأخذ بأسباب القوة بلا شك , فأصبح صناديد الكفر يترنحون ويتهاوون أمام اانبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد أن منحه الله أكتافهم وقتل صناديدهم وأسر سراتهم وساقهم جميعا مقرنين فى الأصفاد ثم منّ عليهم بعد ذلك بأخذه الفداء منهم , وكان هو النصر الباهر المؤزر فى السادس عشر من رمضان فى العام الثانى من الهجرة وكان بحق يوما للفرقان , فرق الله به الحق عن الباطل , وعاد أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا من المدينة جياعا , عادوا بما تقر به أعينهم جميعا .
نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم وأن لا يجعل لأحد فيها نصيب .