بسم الله الرحمن الرحيم
التابعي الجليل ,,,ذكوان بن كيسان
رحمه الله تعالى
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
ماذا تعلم ذكوان بن كيسان من المدرسة المحمدية ؟
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس السابع عشر من سير التابعين رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعين، وتابعيُّ اليوم: ذكوان بن كيسان، يقول عمرُو بن دينار: (ما رأيتُ أحدا قط مثلَ طاووس بن كيسان))
طبعا نحن نؤرِّخ لكبار التابعين .
هذا التابعي الجليل علَّمته المدرسةُ المحمَّدية أن الدين هو النصيحة، وفي تعريف جامع مانعٍ للنبيِّ عليه الصلاة و السلام، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
((الدِّينُ النَّصِيحَةُ, قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
ولا تُؤخذ بعبادة الرجل، عليك أن تُقيِّمه بمدى نصحه للمسلمين، العبادات الشعائرية لا قيمة لها من دون إحكام العبادات التعاملية، دائما وأبدا الإسلام مجموعة مبادئ، ومجموعة قيم ، ومجموعة مثُل، ولا أدلَّ على ذلك من قول النبي عليه الصلاة و السلام، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ؛ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ, وَإِقَامِ الصَّلَاةِ, وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ, وَالْحَجِّ, وَصَوْمِ رَمَضَانَ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
الإسلام بُني على خمس، فهل هذه الخمس هي الإسلام؟ هذه الخمس بني عليها الإسلام ، والإسلام شيء آخر، الإسلام قيم، ومبادئ، وصدق، وأمانة، وعفَّة، وجرأة، وصراحة، واستقامة، الإسلام ضبطُ الدخل، وضبط الإنفاق، وضبط الجوارح، وضبط البيوت، وضبط العمل، هذا هو الإسلام، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ؛ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ, وَإِقَامِ الصَّلَاةِ, وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ, وَالْحَجِّ, وَصَوْمِ رَمَضَانَ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
في أيام تخلُّف المسلمين, فَهِم المسلمون الإسلام الأركان الخمسة فقط، فإذا صلَّى و صام وحجَّ, فهو مسلم، ولا عليه أن يغشَّ المسلمين بعد ذلك، ولا عليه أن يأكل أموالهم بالباطل، ولا عليه أن يكذب، ولا عليه أن ينافق، ولا عليه أن يدجِّل، إذًا: الإسلام بني على خمس، وأوضحُ شاهدٍ سمعتموه مني كثيرا, عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ابْنَةِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَتْ: لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ, جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ .... قَالَتْ: فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ, فَقَالَ لَهُ:
((أَيُّهَا الْمَلِكُ, كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ, نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ, وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ, وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ, وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ, ونسيء الْجِوَارَ, يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ, فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ, حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا, نَعْرِفُ نَسَبَهُ, وَصِدْقَهُ, وَأَمَانَتَهُ, وَعَفَافَهُ, فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ, وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ, وَأَمَرَ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ, وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ, وَصِلَةِ الرَّحِمِ, وَحُسْنِ الْجِوَارِ, وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاء....))
[أخرجه أحمد في المسند]
هل هناك أوضح من هذا؟ إسلامنا قيم، إسلامنا مبادئ، وإسلامنا استقامة، وإسلامنا غضُّ بصر، وإسلامنا عفَّة، وإسلامنا حياء، وإسلامنا أنْ يأمنك أخوك على مليون، ويأمنك على أهله، وعلى ماله، وعلى دمه .
فقد علَّمته المدرسةُ المحمدية أن الدين النصيحة، لمن؟ لله ولرسوله، لإقامة كتابه، وتطبيق كتابه، وتطبيق سنة رسوله، و أن تنصح أئمة المسلمين وعامتهم، وهدَته التجربةُ إلى أن الصلاح كلَّه يبدأ عند وليِّ الأمر، وينتهي عنده، لأن صنفين من الناس إذا صلحا صلح الناسُ، وإذا فسدا فسد الناس؛ الأمراء والعلماء، العلماء يعلِّمون، والأمراء ينفِّذون، إن صلح هذان الصنفان, صلح المجتمع كلُّه، وإن فسد هذان الصنفان, فسد المجتمع كلُّه .
أين ولد ذكوان بن كيسان, ولماذا لقب بالطاووس, ومن كان والي اليمن آنذاك ؟
اسمُ هذا التابعي: ذكوانُ بن كيسان، الملقَّب بطاووس، الطاووس طائر معروف، حسن الشكل، طويل العنق، جميل القنبرة، وقد سمِّي به كثير من العلماء، خُلع عليه, لأنه كان طاووسَ الفقهاء، والمقدَّم عليهم في عصره، أي سيد الفقهاء، من؟ ذكوان بن كيسان، الملقب بطاووس .
هذا التابعي الجليل من أهل اليمن، وكان والي اليمن محمد بن يوسف الثقفي، أخو الحجاج بن يوسف، عيَّنه الحجاجُ واليًا على اليمن, بعد أن عظُم أمرُه، وقويَتْ شوكتُه، واشتدَّت هيبتُه, إثرَ قضائه على حركة عبد الله بن الزبير، وكان محمد بن يوسف يُجمع في ذاته كثيرا من سيئات أخيه الحجاج، ولكنه ما كان يتحلَّى بشيء من حسناته، والإنسان إذا قلَّد في الأعمِّ الأغلب يقلِّد السيئات، فكان أخو الحجاج يجمع سيئات أخيه دون أن يتمتَّع بحسناته .
انظر إلى ورع هذا التابعي :
مرة دخل عليه طاووس في أيام الشتاء الباردة، ومعه وهبُ بن منبِّه، فلما أخذا مجلسيهما عنده, طفق طاووسُ يعظه، ويرغِّبه، ويرهِّبه، والناسُ جلوسٌ بين يديه، فقال الوالي لأحدِ حُجَّابه:
((يا غلام, أحضِر طيلسانًا، وألقِه على كتفي أبي عبد الرحمن، فعمد الحاجبُ إلى طيلسانٍ ثمين، وألقاه على كتفي طاووس، لكنَّ طاووس ظلَّ متدفِّقًا في موعظته، وجعل يحرِّك كتفيه في تُؤدة, حتى ألقى الطيلسانَ عن عاتقه، حركتان أو ثلاث، دفع الطيلسان إلى خلف ظهره، وهبَّ واقفا وانصرف، -أي ما قبِل هذا العطاء- فغضب محمدّ بن يوسف غضبا, ظهر في احمرار عينيـــه، واحتقان وجهه، فلما صار طاووس وصاحبه خارج المجلس، قال وهبٌ لطاووس:
واللهِ لقد كنا في غنًى عن إثارة غضبه علينا، فماذا كان يضيرُك لو أخذتَ الطيلسان, ثم بِعته، وتصدَّقت بثمنـه على الفقراء والمساكين؟ فقال طاووس: هو ما تقول: أن آخذه، وأن أبيعه، وأن أتصدَّق بثمنه على الفقراء والمساكين، قال: نعم، قال: فإذا قال الناسُ أو العلماء من بعدي: نأخذ كما أخذ طاووس، -صرتُ قدوةً لهم- ثم لا يصنعون فيما أخذوه ما تقول))
أنت ترى أن آخذ الطيلسان، وأن أبيعه، وأن أدفع ثمنه للفقراء والمساكين، شيء جميل، الذين يأتون من بعدي يقولون: نأخذ كما أخذ طاووس، ولا يفعلون ما تقول أنت .
فخ نصب لذكوان بن كيسان ونجا منه بإذن الله :
لكن محمد بن يوسف الثقفي أراد أن يردَّ لطاووس الحجرَ من حيث جاء، ولكن بذكاء وبحنكة، نصبَ له شَركا من شراكـه، حيث أعدَّ صُرَّةً فيها سبعمائة دينار، واختار رجلا حاذقا من رجال حاشيته، وقال له: (امضِ بهذه الصرة إلى طاووس بن كيسان، واحتلْ عليه في أخْذِها، فإن أخذَها منك, أجزلتُ عطيَّتك، وكسوتك، وقرَّبتك، -أي تستطيع أنْ تعطيه إياها- فخرج الرجلُ بالصرة, حتى أتى طاووسا في قرية, كان يقيم بها بالقرب من صنعاء، يقال لها: الجَنَد، فلما صار عنده حيَّاه وآنسه، وقال له:
يا أبا عبد الرحمن, هذه نفقة بعث بها الأمير إليك، فقال أبو عبد الرحمن: مالي بها من حاجة، فاحتال بكل طريق ليقبلها, فأبى، وأدلى له بكل حجَّة, فرفض، فما كان منه إلا أن اغتنم غفلةً من طاووس، ورمى بالصرة في كُوَّة, كانت في جدار البيت، وعاد راجعا إلى الأمير، وقال: لقد أخذ طاووسُ الصرة أيها الأمير، فسُرَّ بذلك محمدُ بن يوسف، وسكت عليه .
فلما مضت على ذلك أيامٌ عدّة, أرسل اثنين من أعوانه، ومعهما الرجل الذي حل إليه بالصرة، و أمرهما أن يقولا له: إن رسول الأمير قد أخطأ, فدفع إليك المال، وهو مرسلٌ لغيرك، وقد أتينا لنسترِدَّه منك، نحمله إلى صاحبه، فقال طاووس: ما أخذتُ من مال الأمير شيئا, حتى أردَّه إليك، فقالا: بل أخذته، فالتفت إلى الرجل الذي حمل إليه الصرة، وقال له: هل أخذتُ منك شيئا؟ فأصاب الرجلَ الذُّعرُ، وقال: كلا، وإنما وضعتُ المال في هذه الكوة في غفلة منك، فقال طاووس: دونك الكوة, فانظر فيها، فنظرا في الكوة, فوجد فيها الصرة كما هي، فأخذها، وعاد بها إلى الأمير, -الخطَّة لم تنجح، ما معنى:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾
[سورة الحج الآية: 38]
رسم له خطة خبيثة، دفع له هذا المبلغ، فإذا أنفقه بعد يومين، يقول: هات المبلغ، أنفقت منه، ضعه في السجن، هو ما أخذه، ولكن ربُّنا عزوجل ألبسه ثوبا من الهيبة، فلما توجَّه إلى الرجل الذي جاء بها إليه, قال له: هل أخذت منك شيئا؟ هذه الهيبة:
فيُكسى جلابيبَ الوقار لأنه أقام بإذلال على باب عزِّنا
من هاب اللهَ هابه كلُّ شيء، و من لم يهب اللهَ أهابه اللهُ من كل شيء، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
((أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي؛ نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ, وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا, فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ, وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ, وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي, وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ, وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً, وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
المؤمن المستقيم له هيبة، يُروى أن رجلا كان له دَيْن على أبي جهل - لا أذكر - أبي جهل أو أبي لهب، فأراد أناسٌ أن يرموا بين النبي وبين هذا الزعيم، فهذا البدوي الأعرابي الذي له على أبي لهب أو أبي جهل هذا المبلغ الكبير, قالوا له: (تذهب إلى محمد، ومحمد يحصِّله لك من أبي جهل، فصدَّق هذا البدوي ذلك، فترقَّب النبي، وطلب منه ذلك، تروي الرواياتُ أن النبي عليه الصلاة والسلام ذهب مع هذا الأعرابي إلى بيت أبي جهل، وطرق الباب, وقال: أعطِه حقَّه, فدخل وعاد من توِّه، وأعطاه المبلغ, -الخطة التي كان من الممكن أن توقع بين النبيِّ الكريم و بين أبي جهل لم تنجح- فلما سُئل أبو جهل: كيف أعطيته المبلـغ؟ قال: واللهِ رأيت على كتفيه أسدين, خفتُ أن يأكلاني) .
هذه نقطة مهمة جدا، إذا كنتَ مع الله، ألقى الله عزوجل عليك الهيبة، في بيتك، في عملك، والإنسان لما يعصي الله عـز وجـل, تنخلع منه الهيبة، لا شأن له، ولا أحد يعبأ به، هناك من يتطاول عليه .
لكن من حفر حفرةً لأخيه وقع فيها- قال: وكأنما أراد اللهُ عز وجل أن يقتصَّ من محمد بن يوسف على فعلته هذه، وأن يجعل قصاصه منه على مرآى من الناس) فكيف وقع ذلك؟ .
من هم الخلفاء الذين دخل عليهم ذكوان بن كيسان دعوة منهم ليسألونه عن أمور الدين ؟
1- الخليفة الحجاج بن يوسف الثقفي :
حدَّث طاووسُ بن كيسان, فقال: (بينما أنا في مكة حاجًّا، بعث إليَّ الحجَّاجُ بن يوسف الثقفي، فلما دخلتُ عليه, رحَّب بي، وأدنى مجلسي منه، وطرح إليَّ وسادةً، ودعاني لأن أتَّكئ عليها، ثم راح يسألني عما أشكل عليه من مناسك الحج، وفيما نحن كذلك, سمع الحجَّاج ملبِّيا يلبِّي حول البيت، ويرفع صوته بالتلبية، وله نبرةٌ تهزُّ القلوبَ هزًّا، -يبدو من الإنسان الصادق أحيانا, أنه يلفت النظرَ بدعائـه وتضرُّعه- فقال الحجاجُ: عليَّ بهذا الملبِّي، عليَّ به، فأوتي له به، فقال له: ممن الرجل؟ فقال: من المسلمين، فقال: لم أسألك عن هذا، إنما سألتك عن البلد، قال: من أهل اليمن، قال: كيف تركتم أميركم؟ قال: تركته عظيما جسيما, لبَّاسا ركَّابا، خرَّاجا ولاَّجا، -أي أكل، وشرب، وبيت، ومركب، ونزهات، ومداخلات، وصف فيه إيجاز- فقال الحجاجُ: ليس عن هذا سألتك، فقال: عما سألتني إذًا؟ قال: سألتك عن سيرته فيكم، عن أخلاقه ، قال: تركته ظلوما غشوما، مطيعا للمخلـوق، عاصيًا للخالق، ويأتيك بالأخبار مَن لم تزوِّد، -هذا معنى قول الله عز وجل:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾
[سورة الحج الآية: 38]
أحيانا الإنسان يظهر أحسن أعماله لمَن فوقه، واللهُ عز وجل بطريقة أو بأخرى, تُنقَل الصورة السوداء للجهة الأعلى عن الأدنى، من دون قصد- فاحمرَّ وجهُ الحجاج خجلا من جلسائه، وقال: ما حملك على أن تقول فيه ما قلته، وتعلم أنت مكانه مني؟ فقال: أتراه بمكانه منك أعزَّ منك بمكاني مِنَ الله، وأنا وافدٌ بيته، مصدِّقٌ نبيَّه، قاضي دينه، أكذب على الله في بيته؟ .
-على كلٍّ؛- فسكت الحجاج ولم يُحِر جوابا، قال طاووس: ثم ما لبث الرجل أن قام وانصرف, مِن غير أن يستأذن، أو أن يؤذن له، فقلت في إِثره في نفسي: إن هذا الرجل صالح، فأتبعه وأظفر به قبل أن تغيِّبه عن عينيك جموعُ الناس، فتبعته فوجدته قد أتى البيتَ، وتعلَّق بأستاره، ووضع خدَّه على جداره، وجعل يقول: اللهم بك أعوذ، وبجنابك ألوذ، اللهم اجعل لي في الاطمئنان إلى جودك، والرضا بضمانك مندوحة عن منع الباخلين، وغنى عما في أيدي المستأثرين، -والحديث القدسي:
(ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني, أعرف ذلك من نيته، إلا جعلت الأرض هويا تحت قدميه، وقطَّعت أسباب السماء بين يديه، وما من مخلوق يعتصم بي من دوني خلقي, أعرف ذلك من نيته، فتكيده أهلُ السموات والأرض, إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا) .
أخواننا الكرام, الله هو هو، إلهُ صحابة رسول الله هو إلهنا، إله التابعين إلهنا، القرآن هو هو، فأنت إذا اعتصمت بالله، واستقمت على أمره, لا يمكن إلا أن ترى من آياته الدالَّة على أنه هو الإله، قال تعالى:
﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾
[سورة الزخرف الآية: 84]
﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾
[سورة الأعراف الآية: 54]
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾
[سورة هود الآية: 123]
﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾
[سورة الأنفال الآية: 17]
الله عز وجل يشعرك دائما أنه موجود، وأنه معك:
كن مع الله ترَ الله معك واترك الكلَّ وحاذِر طمعك
وإذا أعطاك من يمنعه ثم من يعطي إذا ما منعك
المؤمن الصادق يشعر أن الله معه، يشعر بوجود الله، تجد أصعب إنسان يلين قلبُه معه، واللهُ عز وجل يسخِّر عدوَّك ليخدمك، ويسخر القويَ فيها لك، يقف أمامك في حيرة، وهو قادر على أن يسحقك، ما الذي ألجمه؟ .
ذكرت لكم قبل دروس عدة، لما بلغ الحَجَّاجَ أن الحسن البصري ذكره بغير ما يريد، فمباشرة خاطب مَن حوله، قال: (أنتم جبناء، واللهِ لأسقينكم من دمه، أعطى أمرا فوريا للسياف, أن يهيِّئ نفسه لقطـع رأس الحسن البصري، مُدَّ النطعُ في بهو القصر، وجيء بالسياف، وقال لصاحب الشرطة: ائتن بالحسن البصري لقطع رأسه، -وانتهى الأمر- .
دخل الحسن البصري على الحجاج، فوقف لـه، وقال: أهلا بأبي سعيد، -ماذا حدث؟ شيء لا يُصَّدق- فما زال يدنيه منه حتى أجلسه في مجلسه، وسأله عن صحته، وتلطَّف معه وعطَّره، وسأله بعض الأسئلة، وأجابه الحسنُ، وقام وودَّعه، وقال: يا أبا سعيد, أنت سيد العلماء، السياف نظر، -لم يفهم الذي حدث- معه أمرٌ بقطع رأسه فورا، والنطع ممدود، فتبعه الحاجبُ، وقال له: يا أبا سعيد, لقد جيء بك لغير ما فُعل بك، فما القصة؟ لما دخلتَ رأيناك تمتمت، فماذا قلت؟ قال الحسن البصري، قلت: يا وليَ نعمتي، يا ملاذي عند كربتي, اجعل نقمته عليَّ بردا وسلاما, كما جعلت النارَ بردا وسلاما على إبراهيم) هناك كلمة أقولها كثيرا: إذا كان اللهُ معك فمن عليك، وإذا كان اللهُ عليك فمن معك .
أعرف أناسا, أقرب الناس إليهم, زوجته أو ابنُه, يتطاول عليه، وقد يضربه، وأعرف أناسا أعدى أعدائه يكرمه، إذا كان اللهُ معك فمن عليك، وإذا كان اللهُ عليك فمن معك، ليس معك أحد، لذلك المؤمن موحِّد، دائما يقول: يا ربي, ليس لي إلا أنت، تبرَّأ من حولك، ومن قوتك، ومن ذكائك، وأتباعك، ومن يحبك، ومن يدعمك، ومن يغطِّي أعمالك، تبرَّأ من هؤلاء جميعا، حتى يتولى اللهُ حفظك، وتأييدك، ونصرك، ورعايتك- .
قال: اللهم بك أعوذ، وبجنابك ألوذ، اللهم اجعل في الاطمئنان إلى جودك، والرضا بضمانك مندوحة عن منع الباخلين، وغنًى عما في أيدي المستأثرين، اللهم إني أسألك فرجك القريب، ومعروفك القديم، وعاداتك الحسنة، يا رب العالمين .
قال: ثم ذهبت موجةٌ من الناس، وأخْفَتْهُ عن عيني، فأيقنتُ أنه لا سبيل إلى لقائه بعد ذلك، فلما كانت عشيةُ عرفة رأيته، وقد أفاض مع الناس, فدنوتُ منه، فإذا هو يقول: اللهم إن كنتَ لم تقبل حجِّتي وتعبي ونصبي, فلا تحرمني الأجرَ على مصيبتي, لتركك القبولَ مني، -اعتبر عدم القبول مصيبة- يا ربي أجرني عليها، -كما قال أحد التابعين: التقيت بأربعين من أصحاب رسول الله, ما منهم واحد, إلا وهو يظن نفسه منافقا، من شدة الورع، ومن شدة الخوف، هذا الخوف المقدَّس، هذا القلق المقدَّس، يا ترى أنا مقبول عند الله، عملي مقبول، لعل هناك خللا، لعل هناك تقصيرا، لعل هناك نفاقا، لعل هناك نية لا ترضي الله عز وجل، لعل هناك دنيا- .
ثم غاب عنه مرة ثانية، فلما يئس من لقائه, قال: اللهم اقبل دعائي ودعائه، واستجِب لرجائي ورجائه، وثبِّت قدمي وقدمه يوم تزلُّ الأقدام، واجمعني معه على حوض الكوثر يا أكرم الأكرمين) .
2- الخليفة سليمان بن عبد الملك :
جاء خليفةٌ ثانٍ: اسمه (سليمان بن عبد الملك), يلقي رحاله في أكناف البيت العتيق، ويدلُّ أشواقه إلى الكعبة المعظَّمة، ثم التفت إلى حاجبه، وقال: (ابتغِ لنا عالما يفقِّهنا في الدين، ويذكِّرنا في هذا اليوم الأغرِّ من أيام الله عز وجل، فمضى الحاجبُ إلى وجوه أهل الموسم، وطفق يسألهم عن بُغية أمير المؤمنين، فقيل له: هذا طاووس بن كيسان, سيد فقهاء عصره، وأصدقهم لهجة في الدعوة إلى الله، فعليك به، فأقبل الحاجبُ إلى طاووس، وقال: أجِب دعوةَ أمير المؤمنين أيها الشيخ، فاستجاب طاووسُ له من غير إبطاء، ذلك أنه كان يؤمن: بأن على الداعية إلى الله تعالى, ألاّ تعرض لهم فرصةٌ إلا اغتنموها، وألاّ تسمح لهم بادرةٌ إلا ابتدروها ، وكان يوقن أنّ أفضل كلمة تُقال, هي كلمة حقٍّ أُريد بها تقويم اعوجاج .
فلما دخل على أمير المؤمنين حيَّاه، فردَّ الخليفة التحيةَ بأحسنَ منها، وأكــرم استقبال زائره، وأدنى مجلسه، ثم أخذ يسائله عما أشكل عليه من مناسك الحج، وينصت إليه في توقير وإجلال، قال طاووس: فلما شعرتُ أن أمير المؤمنين قد بلـغ بغيتـــه، ولم يبق ما يسأل عنه, قلتُ في نفسي: إنّ هذا المجلس, لمجلسٌ: يسألك اللهُ عنه يا طاووس، ثم توَّجهت إليه، وقلت:
يا أمير المؤمنين, إّن صخرة كانت على شفير بئر في قعر جهنم، وقد ظلتْ تهوي في هذه البئر سبعين خريفا، حتى بلغت قرارها، أتدري يا أمير المؤمنين لمن أعدَّ اللهُ هذه البئر من آبار جهنم؟ فقال من غير روِيَّة: لا، ثم عاد لنفسه، وقال: ويلك لمن أعدَّها؟ بئر في قعر جهنم يهوي فيها الإنسان سبعين خريفا، إلى أن يصل إلى قعرها، فقال طاووس: يا أمير المؤمنين, أعدّها الله عزوجل لمن أشركه في حكمه فجار, لمن يظلم، فأخذت سليمانَ رِعدةٌ، ظننتُ معها أن روحه تصعد إلى باريها، وجعل يبكي، ولبكائه نشيج, يقطِّع نياطَ القلوب، فتركته وانصرفتُ، وهو يجزِّيني خيرا) .
ماذا يقول له الخليفةُ؟ جزاك الله خيرا، أيقظه، قال له: بئر في قعر جهنم, يهوي فيها الإنسان سبعين خريفا، أتدري لمن؟ هذه لمن أشركه اللهُ في حكمه فجار على الناس .
3- الخليفة عمر بن عبد العزيز :
ولما ولِيَ عمرُ بن عبد العزيز الخلافة بعث إلى طاووس، وقال له: (أوصني يا أبا عبد الرحمن، كتب إليه طاووسُ رسالةً -في سطر واحد- قال فيها: إذا أردتَ أن يكون عملُك خيرا كلَّه, فاستعمِل أهل الخير, والسلام) أي أكبر مهمة يفعلها وليُّ الأمر: أن يستعمل الصالحين، الأمناء الأكفاء، قال تعالى:
﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾
[سورة القصص الآية: 26]
سيدنا عمر قال: (خذ عهدك, وانصرِف إلى عملك، واعلم أنك مصروف رأسَ سنتك، -أحد الولاة أراد أن يمتحنه- قال له: إن وجدناك أمينا ضعيفا, استبدلناك لضعفك، وسلَّمتك من معرَّتنا أمانتك، وإن وجدناك خائنا قويًّا, استهلنا بقوَّتك، وأوجعنا ظهرك، وأحسنا أدبَك، وإن جمعت الجُرمين، جمعنا المضرتين، وإن وجدناك أمينا قويًّا, زدناك في عملك) .
4- الخليفة هشام بن عبد الملك :
الآن: لما آلتْ الخلافةُ إلى هشام بن عبد الملك، لطاووس معه مواقف شهيرة، لما قدِم هشام البيت الحرام, قال لخاصَّة أهله:
((التمسوا لنا صحابيا من أصحاب رسول الله، قالوا له: إن الصحابة قد تلاحقوا بربهم, واحدا إِثرَ آخر، حتى لم يبق منهم أحد، قال: إذًا: فمن التابعين ؟ أوتيَ له بطاووس، فلما دخل عليه, خلع نعليه بحاشية بساطـه، وسلَّم عليه من غير أن يدعوَه بأمير المؤمنين، وخاطبه باسمه دون أن يكنيه، وجلس قبل أن يأذن له بالجلوس، فاستشاط هشامُ غضبا, حتى بدا الغيظُ في عينيه، قال: ويحك، ما حملك على ما صنعت؟ قال: وماذا صنعت؟ فقال الخليفة: خلعت نعليك بحاشية بساطي، ولم تسلِّم عليَّ بإمرة المؤمنين، وسمَّيتني باسمي، ولم تكنِّني، ثم جلستَ من غير إذني، فقال طاووس بهدوء: أما خلعُ نعليَّ بحاشية بساطك, فأنا أخلعها بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات في المسجد، فلا يعاتبني ربي، ولا يغضب عليَّ، وأما قولك: إني لم أسلِّم عليك بإمرة المؤمنين, فلأن جميع المؤمنين ليسوا راضين بإمرتك، وقد خشيتُ أن أكون كاذبا إذا دعوتُك بأمير المؤمنين, وأما ما أخذته عليَّ من أني ناديتك باسمك، ولم أُكنِّك، فإن الله عزوجل نادى أنبياءه بأسمائهم، يا داوود، يا يحيى, يا عيسى، وكنى أعداءه بألقابهم، قال:
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾
[سورة المسد الآية: 1