المدلول العلمي للجبال في القرآن
أ.د زغلول راغب النجار
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: الإخوة والأخوات الأعزاء، أحمد الله تبارك وتعالى، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء
ورسله، وأحييكم بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد...
حينما يتعرض الإنسان للحديث عن القرآن الكريم لا بد له في مطلع هذا الحديث من التأكيد على أن القرآن هو كلام الله الموحي به إلى خاتم أنبيائه ورسله، المحفوظ بين دفتي المصحف بنفس اللغة التي أوحي بها، اللغة العربية، محفوظاً بحفظ الله، كلمة كلمة، وحرفاً حرفاً: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9]. وحينما نؤكد على ذلك لا بد لنا أيضاً أن نؤكد على أن جميع الكتب السماوية السابقة على القرآن، مع إيماننا بها وتسليمنا بصدق وحيها، إما إنها ضيعت بالكامل، أو تعرض إلى قدر هائل من التحريف والتبديل والتغيير الذي أخرجها عن إطارها الرباني وجعلها عاجزة عن الهداية البشرية، هذه نقطة لا بد لنا من التأكيد عليها في مطلع أي حديث عن القرآن الكريم، ولسنا نقول ذلك من عندنا تعصباً لإسلامنا، ولكن ربنا تبارك وتعالى قرر لنا ذلك في محكم كتابه، فكل الكتب السماوية السابقة من صحف إبراهيم إلى إنجيل عيسى عليه السلام، قد ضيعت أو قد تعرضت إلى قدر من التحريف والتغيير الذي أخرجها عن إطارها الرباني، ودليلنا على ذلك إن الكتاب السماوي الوحيد المحفوظ بين أيدي البشر الآن بنفس اللغة التي أوحى بها هو القرآن الكريم، هو أن كل صور الوحي الأخرى إن كان لها وجود فهو وجود بلغات غير لغة الوحي الأصلية، ونحن نعلم أن المعنى الرباني حينما يكتب بصياغة بشرية فإن هذا يخرجه عن إطاره الرباني، ويفسده إفساداً عظيماً.
وإننا نؤكد أن الإنجيل الموجود بين أيدي النصارى اليوم لم يدون إلا بعد أن رفع المسيح عليه السلام بقرن من الزمان على الأقل، وربما كان بأكثر من قرن، وإن الصور المتعددة الموجودة بين أيدي النصارى الآن ما هي إلا أنماط من المذكرات البشرية التي دونت بأيدي أناس مختلفين في أزمنة مختلفة باعتراف الذين درسوا التوراة والإنجيل، ولنا أن نؤكد أيضاً أن توراة موسى لم تدون إلا بعد خمسمائة سنة من وفاة موسى عليه السلام، وأنها دونت بأيدي أناس غير معروفين، ودونت بأقلام متعددة في عصور مختلفة وفي أماكن متباينة، ثم ضيعت هذه التوراة ولم تدون بعد ذلك إلا بعد خمسمائة سنة أخرى أو يزيد، ولا تزال هذه ا لكتب تتعرض في زماننا هذا إلى مزيد من التبديل والتغيير الذي يخرجها عن إطارها الرباني ويقصيها عن نور الهداية الربانية.... !!
وأذكر في هذا المقام أني قرأت في إحدى المجلات الأمريكية، منذ عشر سنوات تقريباً، مقالاً بعنوان: أيها الإله الأب والأم Oh God,the Father and Mather، وحين قرأت المقال وجدت أن اتحاداً للكنائس البروتستاتينية في أمريكا ( وهو يضم أكثر من ( أربعين ألف كنيسة ) لاحظ انصراف الناس عن الكنائس، فقام بعمل مسح لبحث انصراف الناس عن الحضور إلى الكنيسة، فوجد أن السبب هو النساء، وحينما استبينوا الأمر، لماذا تقاطعون الكنيسة ( لأن الزوجة إذا انقطعت عن الكنيسة انقطع الأبناء وانقطع الزوج ) ؟ قالوا: لأن إنجيلكم متعصب للذكورة، فصفوا هذا التعصب ونحن نأتي إلى الكنيسة، فشكلت لجنة لعمل إنجيل خالي من التعصب للذكورة (Male Free Bias Bible) شكلت اللجنة، وبعد عدة سنوات أخرجوا للناس هذا الإنجيل الذي أصبح متداولاً الآن على نطاق واسع للغاية، والذي كتب المقال اقتطف عدداً من المقتطفات مثل: كيف كانت تصاغ الجملة في الإنجيل للملك جيتس، وكيف أصبحت الآن، فحينما يشيرون إلى الإله الخالق سبحانه وتعالى لا يقولون: (الإله الأب )، كما تعود النصارى: ولكن يقولون ( الأب والأم )، وحتى هذا لم يرض الناس، لماذا تقدمون الأب، فمرة تقولون الأب والأم، ومرة يقولون الأم والأب !!
وحينما يشيرون إلى عيسى عليه السلام فإنهم يقولون( طفل الإله The chield of God)،وحينما يشيرون إلى إبراهيم عليه السلام يقولون: سارة وإبراهيم عليهما السلام، ومرة يقولون إبراهيم وسارة ( ومحظيته هاجر ) – شرفها الله عن ذلك تشريفاً كبيراً.
ونفس كاتب المقال حينما أورد في مربع في وسط المقال: كيف كانت العبارة في إنجيل الملك جيمس، وكيف أصبحت، يقول: ولقد أصبح الكتاب على قدر من التشويه لا يصلح معه أن يكون كتاباً للتعبد، هذا في زماننا فما بالك في الأزمنة المتطاولة التي مضت بعد رفع المسيح عليه السلام، نعم، لقد تعرض هذا الكتاب إلى قدر مذهب من التحريف والتبديل، ولديّ كتاب عنوانه (How wrote the Bible)،كتبه أحد كبار علماء الإنجيل في أمريكا، وهو ( فريد من )، يقول في نهاية الكتاب: إن تحليله للكتاب أثبت بما لا يرقى إليه شك أن الكتاب مكتوب بأيدي أقلام متباينة، وبأساليب مختلفة، وفي أماكن متعارضة، وفي أزمنة متعددة، وأن الكتاب لا يمكن أن يكون كتاباً واحداً ولكنه عدة كتب، ومجرد التعدد: إنجيل متى وإنجيل بطرس، وإنجيل لوقا وإنجيل يوحنا، يؤكد على أن هذا الكتاب تعرض إلى قدر هائل من التغيير والتحريف والتبديل، لأننا نؤمن بإنجيل واحد نزل على عيسى عليه السلام.
نفس الشيء حدث للتوراة فلقد تعرضت إلى قدر مذهل للغاية من التحريف، ولا يعترف اليهود الآن بالعهد القديم للتوراة في الكتاب المقدس على أنه وحي من السماء، ولذلك هم يؤمنون ( بالتلمود) وهو كتاب عبادات، وكتاب فقه، إذا جاز لنا التعبير، وكتبه أحبار اليهود من الذاكرة وهم بالمنفى في بابل بعد أن فقدوا التوراة، وبهذه المناسبة، كنت أحاضر في كلية الطب جامعة الملك فيصل، وعرضت محاضرة باللغة الإنجليزية، وعرضت لهذا الأمر، فسألت إحدى السيدات قائلة إن هذا عند البروتستانت أما الكاثوليك فهم أكثر تمسكاً وتعصباً، فيشاء ربنا تبارك وتعالى في أقل من شهر من ذلك أن يكتب مقال في المجلة يفيد أن الكاثوليك قد عملوا نفس الشيء، أي أعادوا طباعة الإنجيل وبثوا فيه ما ينفي الذكورة عن الأنبياء وعن الرسل وعن الله، تعالى ربنا عن ذلك علواً كبيراً، وذلك ليرضوا حركة تحرر المرأة في العالم الغربي، ثم بعد أقل من شهر إذ بمقال في نفس المجلة يذكر أن التلمود قام على إعادة صياغته أحد علماء الطبيعة النووية في فلسطين المحتلة، وأنه أخرج هذه الطبعة، وهي طبعة مغايرة أدخل فيها قدراً هائلاً من التغيير على التملود المتعارف عليه والذي كان يستخدم عند اليهود في الأزمنة الماضية....!!
فأقول يا إخوان: لا بد لنا في مطلع الحديث عن القرآن الكريم من التأكيد على هذا المعنى، هذا كلام الله الموحى به إلى خاتم الأنبياء ورسله، المحفوظ بين دفتي المصحف، ملايين النسخ من المصاحف، المحفوظ في الصدور، ملايين من الصدور... حفظ القرآن الكريم منذ عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، محفوظاً بحفظ الله، تحقيقاً لهذا القول الرباني الشريف: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9]، وبهذه الصفة لا بد أن يكون القرآن معجزاً، إنه كلام مغاير لكلام البشر، ليس بالشعر وليس بالنثر، ولكنه كلام له خاصية التميز عن كلام البشر، إنه كلام الله الذي أنزله بنفس اللغة العربية التي تحدثها الناس وقت نزول الوحي، ولقد تخيل الناس حينما توجهوا إلى الحديث عن القرآن الكريم، وعن إعجازه، وعن تميزه عن كلام البشر، توجهوا أول ما توجهوا إلى نظم القرآن الكريم، وقالوا إن إعجاز القرآن في نظمه.... لقد نزل القرآن الكريم على أمة قد وصلت شأناً بالغاً في الفصاحة والبيان، وكانت مجتمعاتهم وأنديتهم للشعر والنثر وللصيغ الأدبية المختلفة قد بلغت مبلغاً لم نبلغه نحن حتى الآن في زماننا هذا، أمة وصلت كل أوجها في الجانب التعبيري، والجانب البلاغي، فقالوا إن الإعجاز في القرآن هو في نظمه، هذا النظم الفريد الذي ليس بالشعر وليس بالنثر، هذا الجرس الجميل لآثار القرآن الكريم.
ثم إذا نظر الناس بعد ذلك إلى القرآن الكريم أدركوا أن النظم ليس وحده هو المعجز، وما من زاوية من الزوايا ينظر إليها الإنسان المحايد لهذا القرآن الكريم إلا ويرى فيها إعجازاً ما، سواء كان إعجازاً في التشريع أو في الأخلاق أو في المعاملات أو في العقيدة أو في العبادات أو في مخاطبة النفس البشرية وفي معرفة دخائل النفس البشرية أو في الاستعراض التاريخي لسيرة الإنسانية من لدن أبينا آدم عليه السلام إلى بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
من يستطيع أن يروي قصص هذه الأمم، أمة بعد أمة، ورسول بعد رسول، ورسالة بعد رسالة، كيف جوبه الرسول صلى الله عليه وسلم وجوبهت الرسالة بهذا التفصيل الدقيق الذي لا يتخلله خطأً واحد، فالاستعراض التاريخي معجز غاية الإعجاز، وكذلك الأمر بالنسبة للتشريع، فهو معجز، لقد التقيت بأحد كبار أساتذة القانون في أمريكا، وعرضت عليه آيات الميراث وجدها فكانت سبباً في دخوله الإسلام، وقال الرجل لا يمكن لعقل بشري أن يحيط هذه الإحاطة بكل علاقات القربى دون أن ينسى فرداً واحداً، ثم يوزع الميراث بهذا لعدل الذي لا يظلم أحداً، آيات الميراث وحدها كانت سبباً في دخوله الإسلام، فالتشريع، ومفهوم الإلوهية، ومفهوم الرسالة، ومفهوم النبوة، والعلاقات الإنسانية، والمنهج التربوي في تربية النفس الإنسانية، والحديث عن الآخرة، وعن الغيب... قضايا غريبة لا يستطيع الإنسان إطلاقاً، وفي وقت نزول هذا القرآن، أن يلم بها هذا الإلمام وبإيجاز شديد فإن الإنسان لا يستطيع أن ينظر إلى القرآن الكريم من أي زاوية من الزوايا إلا ويرى فيها إعجازاً ما بعده إعجاز، وذلك لسبب بسيط هو إنه كلام الله الذي خلق الخلق وأبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته.
ثم منذ أزمنة متطاولة تساءل العلماء: هل في القرآن إعجاز علمي ؟ طبعاً، لم يكن في الأزمنة الماضية لدى البشرية هذا الكم الهائل من المعارف في الكون ومكوناته، المتوفر لدى البشر الآن، ولذلك بدأ الناس يتلمسون هذا الجانب منذ القدم، لأن القرآن الكريم به أكثر من ألف آية صريحة تتحدث عن هذا الكون ومكوناته، السماوات والأرض، والجبال والرياح والشمس والقمر والنجوم والكواكب، والرعد والبرق والنباتات والحيوانات ومراحل الجنين في الإنسان... قضايا كثيرة يتحدث عنها القرآن الكريم بإفاضة، ولكننا نعلم أن القرآن الكريم هو في الأصل كتاب هداية، كتاب أوحى به للإنسان في القضايا التي لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى إجابات صحيحة لها بجهده البشري، مثل قضايا العقيدة والعبادة، وكلها غيب، أو قضايا المعاملات، وكلها سلوك، والإنسان يعجز دوماً أن يضع بنفسه لنفسه ضوابط للسلوك، ونحن نعلم أن والإنسان يعجز دوماً أن يضع بنفسه لنفسه ضوابط للسلوك، ونحن نعلم أن الذين يقوم على هذه الركائز الأربع الأساسية: العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات، ونصف هذه الركائز هو العقيدة والعبادة وهما غيب مطلق، وأن يحاول أن يصل فيه إلى تصور بجهده منفرداً، فإنه يضل ضلالاَ بعيداً، كما أن قضايا الأخلاق والمعاملات قضايا سلوك، والتاريخ يؤكد لنا ما من فترة من الفترات، ولا حقبة من الأحقاب، يحاول فيها الإنسان أن يضع بنفسه لنفسه فيها ضوابط سلوك إلا ويضل ضلالاً بعيداً، والعالم غير الإسلامي أمامنا صورة واضحة للغاية، وها نحن يعيش بيننا الذين لا يلتزمون بنهج الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يلتزمون بأوامر الله، يضلون ضلالاً بعيداً، فالدين كله غيب أو ضوابط للسلوك، ولذلك كانت هذه الرحمة الربانية بإيجاد الدين.
أما القضايا التي يستطيع الإنسان أن يصل فيها بجهده منفرداً إلى تصور صحيح، كالإدراك لسنن الله في الكون، واستقراء هذا الكون، ومعرفة سنن الله فيه، وتوظيف هذه السنن في عمارة الحياة على الأرض، فإن المعرفة بالكون ومكوناته لها طبيعة تراكمية، بمعنى أن لو انفتحت مغاليق المعرفة بالكون أمام الإنسان منذ اللحظة الأولى لخلقه، ما استطاع أن يستوعبها، ولا بد للعقل البشري إذن أن يستوعب هذه القضايا على مراحل متتالية، لأن المعرفة بالكون ومكوناته لها هذه الطبيعة التراكمية، فلماذا إذن الإشارة إلى الكون ومكوناته، لماذا يتحدث القرآن الكريم عن هذه الأمور بهذه الإفاضة ؟؟ يذكر علماء التفسير أن القرآن الكريم به أكثر من ألف آية صريحة تتحدث عن الكون ومكوناته، بالإضافة إلى آيات أخرى عديدة تقترب دلالتها من الصراحة، وردت هذه الآيات في مقام الاستدلال على قدرة الخالق العظيم، وفي مقام إثبات أن الذي أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته قادر على أن يفنى هذا الكون بما فيه ومن فيه، وقادر على إعادة هذا الكون من جديد، لأن الخلق التالي أيسر من الخلق الأول، كما يقول القرآن الكريم... كل هذه الإشارات تأتي في مقام محاجة الكافرين والمشركين والمعاندين، تأتي في مقام الاستدلال على قدرة هذا الخالق العظيم على الخلق وعلى الأفناء وعلى إعادة الخلق العظيم، وتبقى هذه الإشارات بياناً من الخالق الذي أبدع هذا الكون بعمله وقدرته وحكمته، ومن أدرى بصنعته من الله، فلا بد إذن أن يكون هذا حق مطلق.
ومن هنا تبلورت فكرة ( الإعجاز العلمي للقرآن الكريم ) لدى الذين يتقدمون لخدمة حسن فهم دلالة الآيات القرآنية، وهنا أيضاً أؤكد على التفريق بين ( التفسير العلمي للقرآن ) و ( الإعجاز العلمي للقرآن الكريم )، فحينما نتحدث عن التفسير العلمي للقرآن الكريم نقصد مسؤولية أهل كل عصر أن يوظفوا كل المعارف الصحيحة المتاحة في فهم دلالة الآيات القرآنية، لأن القرآن يحتوي من صور إعجازه مسائل، منها أن ترد بكلمات محدودة، يرى فيها أهل كل عصر معنى من المعاني، وتظل هذه المعاني تتسع مع اتساع دائرة المعارف الإنسانية ليظل القرآن الكريم مهيمناً على المعرفة الإنسانية، وليس هذا لغير القرآن الكريم، ولذلك ومع إكبارنا وإجلالنا للسادة العظام الذين تعرضوا لتفسير القرآن الكريم في الأزمنة الماضية، فلا يجوز لنا أن نحيا عصرنا وتحيا البشرية عصورها المتتالية على تفسير تم وضعه من نصف قرن أو أكثر من قرن أو عدة قرون، مع اعتزازنا بهذا التراث، وإنه لا بد لأهل كل عصر أن ينفر منه نفر، تزود بمؤهلات خدمة تفسير القرآن الكريم، وهذه المهمة ضخمة لا يتسع المقام الآن لتفصيلها، وتتضمن ببساطة الإلمام باللغة العربية وأسرارها، الإلمام بأسباب النزول، الإلمام بالناسخ والمنسوخ، الإلمام بالمأثور من التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الإلمام بجهود المفسرين السابقين... المهم أن هنالك ضوابط، أي أنه ليس كل إنسان مؤهلاً للغوص في التفسير في القرآن الكريم، ومع كل هذا يبقى التفسير يبقى جهداً بشرياً، يخطيء فيه الإنسان ويصيب، وإذا أخطأ له أجر وإذا أصاب فله أجران.
أما الإعجاز العلمي فلا يجوز لنا أن نوظف فيه إلا الحقائق المؤكدة، أو القضايا القطعية التي قطع فيها العلم بصورة مؤكدة، لماذا؟ لأننا نقصد بالإعجاز أن نثبت للناس، مسلمين أو غير مسلمين، على حد سواء، أن القرآن الذي نزل قبل 1400 سنة على نبي أمي صلى الله عليه وسلم في أمة أمية، قد احتوى على كثير من الحقائق، حقائق هذا الكون، بدقة بالغة، وبتعبير غاية في الدقة وغاية في الشمول، وتعبير أيضاً يحتمل هذه المعاني التي تتسع مع اتساع دائرة المعارف الإنسانية، وحينما نعرض لذلك لا يجوز لنا أن نوظف الغرض أو النظرية، ولا يجوز لنا أن نوظف القضايا التي لم يقطع فيها العلم قطعاً أكيداً، ولذلك أقول أن الآيات الكونية في القرآن الكريم تنقسم قسمين مهمين للغاية، قسم يتعرض لأمور وصفية، ففي القرآن الكريم أمور يستطيع الإنسان بحسه المحدود وعقله المحدود أن يصل إلى تصور دقيق لها، وهذه من أعظم آيات الاستشهاد العلمي للقرآن الكريم، وسأضرب بموضوع الجبال مثالاً لها، وهناك قضايا أخرى في القرآن الكريم تتحدث عن بدايات الخلق عن نشأة الكون، وعن نشأة الإنسان...
قضايا بالخلق وقضايا البدايات والنشأة لا يستطيع الإنسان بحسه المحدود وعقله المحدود أن يتعدى فيها قضية التوظيف، ولا يمكن أن نصل فيها إلى حقيقة، القرآن يقرر ذلك بقول الحق تبارك وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا } [الكهف: 51]، فقضايا النشأة والأصل والبدايات، لا يستطيع العلم التجريبي ولا يستطيع حس الإنسان ولا عقل الإنسان أن يتجاوز فيها مرحلة التوظيف، ولا يمكن أن نقول إن هذا أمر قطعي، وهنا يصبح للمسلمين ميزة فريدة وهي أن المسلمين لديهم في كتاب الله المحفوظ بحفظ الله إشارة إلى كيف كانت هذه البدايات، فلا يضرهم أن يميزوا نظرية على نظرية، بل ونستطيع أن نفاضل بين تصوره وتصور، ويبقى القرآن الكريم الخالق الذي أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته هو الحق المطلق بين أيدي البشرية الآن.
حديث الليلة عن الجبال في القرآن والمفهوم العلمي للجبال في القرآن، ولقد أطلت في هذه المقدمة لأن هذه المعاني دائماً أحب أن أؤكد عليها، لأن الناس تجنح كثيراً في قضية التعرض للإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وقد كتبت جريدة الأهالي (المصرية) على مدى ثلاثة أسابيع متتالية تهاجم الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وتهاجم الذين يكتبون في قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، وتهمز وتغمز يميناً ويساراً بكبار العلماء وقادة الفكر في البلد، وما دفعهم إلى ذلك إلا الجهل بالإسلام أو كراهية الإسلام، فأقول يا إخوان، لا بد لنا من توضيح حقيقة هذه القضايا قبل أن نخوض في مناقشة أية قضايا، ولمناقشة إعجاز القرآن الكريم نقطة أخرى، وهي أنه لا يستطيع الإنسان مهما أوتي من أسباب العلم أن يغطي أوجه الإعجاز العلمي للقرآن الكريم كلها، من الفلك إلى علم الأجنة، الذين يفعلون ذلك يخطؤون خطأ بالغاً، فلكي أثبت للناس أن هذا معجز، لا بد أن أتكلم في تخصص، بأعلى مستوى من التخصص، وأن أعرض لهذه القضايا على أعلى مراحل وأعلى مستويات العلم، حتى يكون هنا إعجازاً وإذا أردت أن أتحدث على هذا المستوى فلا يجوز أن أخلط بين علم الفلك، وبين علم الأجنة، كما يفعل بعض الإخوة، وهم مشكورون على جهودهم، لكن لا بد أن يكون هناك شيء من التخصص، لذلك حينما أتحدث في الإعجاز العلمي لا أخرج عن نطاق مجال تخصصي، والجبال في ذلك النطاق، الجبال ورد ذكرها في القرآن الكريم في تسع وثلاثين آية، ست آيات تذكر الجبل بالمفرد، وثلاث وثلاثين آية تذكر الجبال بالجمع، وهناك عشر آيات أخرى تتحدث عن الجبال بوصف الرواسي، هذه الآيات قمت بتبويبها في موضوعات متعددة متخصصة، وأقول باختصار، هناك آيات تشير إلى أنها مرتفعات على سطح الأرض، مثل قوله تعالى: { ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا } [البقرة: 260]، {قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ } [هود: 43]، وآيات تشير إلى ضخامة الكتلة الجبلية وارتفاعها وطبيعتها المائلة، مثل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ } [الرعد: 31]، {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ } [الحشر: 21]، وكلها آيات تعظم من شأن هذه التضاريس الأرضية.
وهناك آيات تشير إلى جبال لها تاريخ، مثل جبال قوم ثمود الذين كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً، وآيات تشير إلى الجبال التي شهدت بعض المعجزات، مثل جبل سيدنا إبراهيم، وجبل موسى عليه السلام، وآيات تذكر استخدام كل من الإنسان والحيوان للجبال كملجأ وسكن، مثل آيات سورة النحل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا } [النحل: 68]، وآيات تصف الجبال بأنها أوتاد، وهكذا، فلدينا عشر آيات واضحة تؤكد أن الجبال لها دور في تثبيت القشرة الأرضية، إن هناك آيات تصف الجبال من الناحية المادية بأنها من جدد بيض وحمر وسود، كما في سورة فاطر، وآيات تشير إلى أن الجبال تتحرك وليست ساكنة، بالرغم من كتلتها الهائلة، وهي إشارة إلى تحرك الأرض، وآيات تشير إلى الجبال في إطارها الروحاني غير العادي وغير الملموس بوصفها تعبد الله وتسجد له سبحانه وتعالى، مثل آيات واردة في سور: طه، الحاقة، المزمل، الطور، المعارج، وآيات تشير إلى نهاية الجبال في الآخرة، لكننا لن نتحدث في كل هذه المجموعات التسع التي تنقسم إليها آيات القرآن الكريم، وإنما سنعرض الآيات التي تتحدث عن الجانب العلمي للجبال، واقسمها إلى أربع مجموعات:
المجموعة الأولى:آية الأوتاد التي يقول فهيا الحق تبارك وتعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا } [النبأ: 6-7]. وبالرغم من أن المفسرين القدامى مروا على هذه الآية مرور الكرام وتوصلوا، أو توصل بعضهم إلى تصور أن الجبال لها دور في تثبيت الأرض، لكنهم لم يستطيعوا شرح هذا الدور في إطاره العلمي الصحيح، ويعجب الإنسان حين يرى هذه الإشارة هي كلمتين: (والجبال أوتاداً )، فكما أن الوتد أغلبه مندس في الأرض وأقله ظاهر على السطح، ووظيفته التثبيت، فقد أثبت أهل العلم الحديث أن هذه وظيفة الجبال، وأن هذه هيئة الجبال، وإذا أخذنا أي دائرة معارف علمية، أو أي معجم لغوي أو علمي، وبحثنا عن مدلول كلمة ( جبل) وجدنا المعاجم الصادرة في التسعينات (91، 92، 93، 94) وإلى يومنا هذا، تصف الجبل بأنه: بروز على سطح الأرض يتعدى ارتفاعه (305) متراً، ويختلف الأمريكان مع الإنجليز، فالأميركان يقولون ( 305) متر والإنجليز يقول ( 610) متر، فجمعت مجموعة كبيرة من معاجم اللغة والعلم التي تعرف الجبال، فوجدتها لا تخرج كلها عن هذا التصور، أي أن الجبال نتوءات على سطح الأرض، ترتفع فوق الأرض المحيطة بها بمدى يتراوح بين 305 و 610 متراً ويزيدا، ويعتبرون ما دون ذلك من الربى، ( جمع ربوة )، والربوة هي التل المرتفع، ثم دون الربوة، التل، ودون التل: الهضاب، ثم السهول والأودية ن إلى غير ذلك..
فالعلماء الآن يعرفون هذه التضاريس الأرضية بهيئتها الظاهرة على سطح الأرض، ولكن لها امتدادات تخترق الغلاف الصخري للأرض، وأن هذه الامتدادات تصل من 10 إلى 15 ضعف ارتفاع الجبل فوق سطح الأرض، تماماً كالوتد: أقله ظاهر على سطح الأرض وأغلبه مندس في صخور الأرض، أو تربتها، وقد توصل العلماء إلى ذلك بجهود علمية مضنية استخدموا فيها العمليات المساحية، وعندما اكتشفت هذه الظاهرة كان المساحون البريطانيون يقومون بمسح جبال الهمالايا، والمساحون يستخدمون منضدة مستوية (Plate Table) والمنضدة هذه كان لها شاقول، أي خيط، وله ثقل معدني، فلاحظوا أن هذا الثقل المعدني ينجذب إلى الكتلة الجبلية، ولكن بأقل من تقدير الكتلة، ليس هذا فقط، بل أنه في بعض الحالات كان الشاقول هذا يندفع بعيداً عن الكتلة الجبلية، فالكتلة الجبلية أصلاً تشده إليها، فاعتبروا ذلك نمطاً من أنماط السحر في الهند، والهند مليئة بالسحرة، إلى أن حاول العلماء أن يقدموا تفسيراً لذلك فقالوا: لا بد أن كتلة الجبل هذه، وهي مكونة من صخور خفيفة، تندفع إلى الداخل حيث توجد صخور ذات كثافة أقل من الصخور من المحيطة بها، فيصبح جذب الجبل للبالون هذا أو للشاقول أقل من العادة أو حتى قد يدفع البالون في عكس اتجاه الجبل، نظراً لوجود صخور محيطة أعلى كثافة.
ثم استطاع العلماء منذ بدايات الثلاثينيات من القرن العشرين أن يدرسوا في جبال الألب وجبال الروكي في أمريكا، بطرق علمية ملموسة – كيف أن هذه الجبال فعلاً تنغرس في أعماق سحيقة، بدأت مجموعة من العلماء الجيوفيزيقيين ( أو الذين يدرسون الطبيعة الأرضية )، بواسطة دراسات الهزات الأرضية، وبواسطة دراسة القياسات التثاقلية الأرضية، أن يؤكدوا بما لا يرقى إليه شك أن هذه الجبال الظاهرة على سطح الأرض والمرتفعة ارتفاعاً كبيراً لها امتدادات تزيد عن هذا الارتفاع من 10 إلى 15 ضعف، ويثبت بذلك أن سمك الغلاف الصخري للقارات يتراوح من 35 إلى 40 كيلو متر في المتوسط، ونجد أن غلاف القشرة الأرضية في قيعان البحار والمحيطات يتراوح من 5 إلى 8 كيلو متراً، لأن الغلاف المكون القيعان البحار والمحيطات من معادن وصخور أعلى كثافة من المعادن والصخور التي تكون الغلاف الصخري للقارات...
ليس هذا فقط، بل لاحظ العلماء أن سمك الغلاف الصخري للقارات ( الذي قدروه من 35 إلى 40 كيلو متراً ) يصل في جبال الألب إلى أكثر من 70 كيلو متر، ويصل في جبال الهملايا إلى أكثر من مائة كيلو متر، لأن الغلاف الصخري للأرض يبلغ سمكه ( 100) كيلو متر في المتوسط.
وهذه الجبال بعضها يختلف عن البعض الآخر، فقط يطفو هذا الغلاف بالكامل في طبقة من الصخور، منصهرة أو شبه منصهرة عالية الكثافة عالية اللزوجة، تحكمه بذلك قوانين الطفو، يدفعه إلى أعلى قوانين الطفو، وعندما تأكل عوامل التعرية من هذه الصهارة يرتفع الجبال إلى أعلى، وكلما أكلت تأكل عوامل التعرية ارتفع الجبل حتى إذا وصل ما يساوي سمك هذا الوتد إلى سمك الغلاف الصخري للأرض ( مائة كيلو متر ) فإن الجبل سيموت ولا يستطيع أن يتحرك إلى أعلى بعد ذلك، وتظل عوامل التعرية تبري هذا الجبل حتى تظهر لنا هذه الأوتاد، أوكما يسميها الأرضيون ( الجذور )، جذر الجبل، وفيه من الثروات المعدنية ما لا يمكن أن يتوفر إلا تحت مثل هذه القوى الهائلة من الضغط والحرارة، فأصبح الآن للعلماء تصور للجبال التي توصف في المعاجم اللغوية والمعاجم العلمية بأنها نتوءات بارزة على سطح الأرض، وهذه في الحقيقة أجسام ضخمة من الصخور تمتد لتخترق الغلاف الصخري للأرض وتطفوا فوق هذه المادة شبه المنصهرة اللدنة، ثم نقاط الضعف الأرضي التي توجد تحت غلاف الصخر مباشرة.
هذا التصور يؤكد أن هذه الإشارة القرآنية ( أوتاداً ) إشارة معجزة، لأنه في كلمة واحدة يصف القرآن الكريم الشكل الخارجي للجبل، والشكل الداخلي له، ووظيفته الداخلية، وتبقى هذه الآية في سورة النبأ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ( 6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا } [النبأ: 6-7] آية معجزة، لأنه لم يكن أحد في وقت تنزيل القرآن الكريم يعرف شيئاً عن هذه الحقيقة الكونية، ولم يكن هناك أحد يضطر الرسول صلى الله عليه وسلم لأن يفصل مثل هذه القضايا، لولا أن الله سبحانه وتعالى يعلم بعلمه المحيط أن الإنسان سيصل في يوم من الأيام إلى اكتشاف هذه الحقيقة الكونية فيشهد أن القرآن كلام الله وأن محمداً رسول صلى الله عليه وسلم هو خاتم أنبيائه ورسله، وأنه صلى الله عليه وسلم ما كان ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى، إلى يومنا هذا يختلف العلماء اختلافاَ شديداً في فهم وظيفة الجبال، هذه البروزات الأرضية الهائلة وبالطبع فإن العلماء يعرفون أن للشكل الخارجي هذا فوائد متعددة على سطح الأرض، منها جريان الأنهار، ولذلك نجد آيات الإرساء هذه يمن علينا ربنا تبارك وتعالى كثيراً بها في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، ويربط ما بين الجبال أو إرساء الأرض، وجريان الأنهار، هناك فائدة كبيرة أيضاً، فلولا هذه المرتفعات العالية وتكون هذا البساط الرقيق من التربة الرسوبية الذي لولاها ما استقرت هذه العوامل على سطح الأرض، هناك وظائف كثيرة للجبال المليئة بالخيرات المعدنية، والجبال مأوى للبشرية قبل أن تعرف المسكن، والجبال مأوى لكثير من الحيوانات وكثير من الحشرات، كالنحل... وهناك فوائد كثيرة لهذا الجزء الظاهر على سطح الأرض، ولكن يعجب الإنسان لماذا تحدث القرآن الكريم في عشر آيات واضحة عن هذه الجبال على أنها رواسي ويمن علينا ربنا تبارك وتعالى بإرساء الأرض بالجبال في مثل قوله: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ( 32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ } [النازعات: 32- 33].
العلماء في مجال علوم الأرض إلى يومنا هذا يختلفون في فيهم كيف يمكن للجبال أن ترسي الأرض، لأن كتلة الجبال بالنسبة إلى كتلة الأرض لا تذكر، فأعلى قمة هي 8848متر، يعني أقل من تسعة كيلو مترات، وأغور غور هو غور ماريانو عند جزر الفلبين، وعمقه 11 كيلو متراً، يعني لا تصل المسافة إلى عشرين كيلو متراً... فمن أعمق غور إلى أعلى قمة إذا قورن هذا بنصف قطر الأرض الاستوائي ( وهو أكثر من ستة آلاف كيلو متر )، نعرف كيف يمكن لهذه الكتل البسيطة أن تثبت الأرض، ولا يمكن أن يتخيلها الإنسان لأنها كتلة بسيطة للغاية، ولم يستطع الناس في العصور المتتالية أن يفهموا كيف أن الجبال تثبت الأرض، ففي أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن العشرين، توصل العلماء إلى أن للجبال دور سأشرحه لكم بإيجاز وببساطة شديدة: كيف يمكن لهذه الكتل البسيطة أن تلعب دوراً أساسياً في إرساء الأرض، والعلماء لم يصلوا إلى وضع هذه التصور بسهولة، لأنهم بعد الحروب العالمية الثانية مباشرة توجه بعضهم إلى قيعان البحار والمحيطات لما لها من خيرات، وبحثاً عن القارات الأرضية، فوجدوا عجباً، وعلى عكس ما كان يعتقد الناس في الماضي في أن أعمق أعماق البحار هي أواسطها وأن أكثرها ضحالة هي شواطئها، إنما وجدوا العكس تماماً، وجدوا أن أكثر أجزاء المحيطات ضحالة هي أواسطها وأن أكثر أجزاء المحيطات عمقاً هي عندما يلتقي قاع المحيط بالقارة، واحتاروا: كيف يكون ذلك ؟
اتجه العلماء إلى هذه السلاسل الجبلية ( التي تمتد عبر قيعان البحار والمحيطات، وهي تفوق في ارتفاعها أعلى الجبال على سطح الأرض ). فوجدوا أنها تتكون من صخور نارية، صخور بركانية شبيهة بالصخور التي تفور بها فوهات البراكين على سطح الأرض، فبدأوا يبحثون كيف تكونت هذه البراكين، فوجدوا أن هذه السلاسل تحيط بشبكة هائلة من الصدوع، تمتد عشرات الكيلو مترات طولاً وعرضاً، تمزق هذا الغلاف الصخري إلى عمق مائة كيلو متراً، فأيقنوا أن من صفات الأرض الأساسية أنها ذات صدوع، ويعجب الإنسان هنا إلى هذه الإشارة العابرة التي جاءت في سورة الطارق، في قوله سبحانه وتعالى: {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ } [الطارق: 12].
المفسرون القدامى هو انصداعها عن النبات ن وهذا صحيح، إذ يضع الإنسان بذرة في التربة ويرويها فإن بنبته طرية تخترق التربة، وتخرج إلى أعلى... يعجب الإنسان لهذا القسَم، في سورة الطارق الذي يقسم فيها ربنا تبارك وتعالى بقوله: {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ } [الطارق: 12]، وهو الغني عن القَسَم، وهكذا يثبت العلم أن من صفات الأرض الأساسية أنها ذات صدوع، وأن هذه الشبكة الهائلة من الصدوع تمتد لعشرات الآلاف من الكيلومترات طولاً وعرضاً، بعمق مائة كيلو متر، هذه الشبكة الهائلة من الصدوع يندفع منها الحمم البركاني بملايين الأطنان، بدرجات حرارة تتعدى الألف درجة مئوية، تندفع من قيعان البحار والمحيطات، وهذه القيعان بعضها في درجات حرارة تفوق في عنفها فوهات البراكين على سطح اليابسة.
ويعجب الإنسان أيضاً من القسم في سورة الطور الذي يقول ربنا سبحانه وتعالى يقسم بالحبر المسجور: { وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 1-6] وفي اللغة: سجر يعني أوقد عليه حتى أحماه، ويتخيل الناس كيف يمكن للماء والنار (وهما من الأضداد ) أن يلتقيا في مكان واحد، الماء تطفيء النار والنار تبخر الماء... كيف يمكن أن يجتمعان في مكان واحد ؟!، فبدؤوا البحث فطرحوا المعنى الأول، وهو أنه ربما يكون هذا في
صورة في أعماق المحيط لدخان أسود يخرج من فوهة بركان في قعر المحيط
الآخرة، استناداً إلى الآية الكريمة: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } [التكوير: 6]، لكن السياق القرآني في سور الطور يفيد بأن القسم في واقع الحياة، وبأمور واقعة، فالبحر المسجور إذن هو واقع في حياتنا، فبد,ا يبحثون عن معنى ( سجر التنور )، و(البحر المسجور ) غير سجر التنور، فوجدوا من معالي ( سجر ) ملأ وكفى، فقالوا ربما المقصود أن الله سبحانه وتعالى يمن علينا فملأ قيعان المحيطات والبحار بالماء، وكفها عن اليابسة، وهذا صحيح، لأن الأرض في تاريخها الطويل مرت بمراحل كانت اليابسة، وهذا صحيح، لأن الأرض في تاريخها الطويل مرت بمراحل كانت البحار فيها أ:ثر غمراً لليابسة منها الآن، ونحن نعلم أن الجليد الذي يتجمع عند القطبين إذا انصهر فإنه لا يحتاج سوى بضع درجات مئوية ( من خمسة إلى عشر درجات مئوية ) حتى يغمر مساحات شاسعة من اليابسة، فقالوا ( البحر المسجور) هو المملوء بالماء، المكفوف عن اليابسة، وهذا صحيح إن بعض البحار والمحيطات قيعانها متصدعة على شكل هذه الشبكة الهائلة من الصدوع، وأن هذا التصدع يؤدي إلى اندفاع الحمم البركاني من هذه الصدوع ليكون سلاسل جبلية بركانية في قبل البحر.
ومن البحار التي تتفتح البحر الأحمر، وقد سماه العلماء محيط في دور الطفولة، وهناك مشروع بين السعودية والسودان وفرنسا لاستغلال ثروات البحر الأحمر لأن به كميات هائلة من المعادن والذهب والفضة والنحاس والرصاص والقصدير، وكميات كبيرة من المواد المشعة، كان الباحثون يأتون بباخرة تكبش عينة من الطين من قاع البحر، ويمر هذا الكباش في سمك من الماء يتعدى ثلاثة آلاف متر، ويصعد الكباش إلى السطح فلا يستطيع أحد من أن يقترب منه لعدة ساعات، لشدة حرارته، وفي الحقيقة فإن هناك كثير من البحار الآن قيعانها مسجرة ، وهناك بحار تنغلق، كالبحر الأبيض المتوسط، أي لا يوجد في قيعانها نار.... ربنا تبارك وتعالى يقسم هذه الآية الكونية بالتقاء الماء والنار، فلا الماء يطفئ النار، ولا النار تبخر الماء، وهي آية من آيات الله في خلق، إنه ( البحر المسجور )، من أعظم آيات الله في الكون، ولذلك يقسم بها ربنا تبارك وتعالى.
تؤدي الطفوح البركانية إلى إزاحة جوانب قيعان البحار، والمحيطات في ظاهرة يسميها العلماء ( ظاهرة اتساع قيعان البحار والمحيطات)، ولكن العلماء لاحظوا أن محيط الأرض ثابت، برغم أن بعض هذه القيعان يتسع بمعدل 1-3 سنتيمترات سنوياً، وهناك أجهزة قياس في باب المندب تقيس ذلك، فظاهرة صعق أعالي البحار والمحيطات تتحرك تحت القارات بنفس معدل اتساع أواسطها، وحينما تتحرك قيعان البحار والمحيطات تحت القارات تتكون جيوب في أعماق قيعان البحار والمحيطات، وفي هذه الجيوب تترسب كميات هائلة من الصخور الرسوبية، وحينما يتحرك قاع المحيط تحت القارة يمر بدرجات حرارة عالية فينصهر، ولو أنه انصهار جزئي، ثم يدخل في داخل الطبقة اللدنة شبه المنصهرة هذه، فيزيح كميات منها، فيؤدي إلى زيادة المداخلات النارية، ويؤدي إلى زيادة نشاط البركان، يختلط ذلك كله بالكم الهائل من الصخور الرسوبية ليتكون في هذا الجيب، لتتكون الجبال، وحينما تتكون السلسلة الجبلية فإنها تعمل تماماً كالمسمار الذي يخلط مادة القارة بقاع المحيط، وتمر هذه العملية بمراحل مذهلة للغاية، تبدأ بظهور جزر بركانية في قيعان البحار والمحيطات، وتظهر هذه الجزر، وهي قمم لسلاسل جبلية المتكونة فوق قيعان البحار والمحيطات، مثل: جزر هاواي، وجزر الفلبين، وجزر إندونيسيا... كل هذه الجزر عبارة عن قمم لسلاسل جبلية بركانية هائلة.
الأشكال التالية تبين تشكل الجبال من قعر المحيطات
الجزر عبارة عن قمم لسلاسل جبلية بركانية هائلة.
الأشكال التالية تبين تشكل الجبال من قعر المحيطات
تصطدم هذه الجزر ببعضها لتنمو، ثم تصطدم بالقارة لتكون سلاسل جبلية، مثل جبال الإنديز في أمريكا الجنوبية، وقد تصطدم قارة بقارة، ويستهلك قاع المحيط بينهما بالكامل، كما حدث في جبال الألب، وهذه آخر مرحلة لتكوين السلاسل الجبلية، وهي المرحلة التي يتكون فيها أعلى القمم الجبلية، وعندها تتوقف الحركة تماماً، تظهر للقارات مساحات صالحة للحياة، لأنه لو استمرت هذه الحركة لا يمكن لتربة أن تتجمع ولا يمكن لنبتة أن تظهر ولا يمكن لطريق أن يرصف.... ولذلك يمن علينا ربنا تبارك وتعالى في آيات كثيرة بإرساء الأرض بالجبال: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ( 32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ } [النازعات: 32- 33]. وتذكر الآيات القرآنية الإرساء، وهي آيات كثيرة، فنقرأ مثلاً في سورة الرعد قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الرعد: 3]، وقال: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا}، فربط بين الرواسي والأنهار، لأنه لولا الرواسي ما كانت الأنهار، ونقرأ في سورة الحج قول الله سبحانه وتعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ } [الحجر: 19]، والربط بين الرواسي والإنبات أيضاً في سورة النمل، يقول ربنا تبارك وتعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [النحل: 15]، وفي سورة الأنبياء يقول ربنا تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [الأنبياء: 31]... انظروا إلى قول الله تبارك وتعالى: { رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ }، والميدان هو الاضطراب، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث رائع في مسند احمد بن حنبل، يقول فيه: ( عندما خلق الله الأرض جعلت تميد فأرساها بالجبل )، أظن أنه لا يوجد وضوح أكثر من هذا، علماً بأن المفسرين القدماء اختلفوا في معنى الإرساء هذا اختلافاً كبيراً، نقرأ في سورة النمل قول الله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا } [النمل: 61]، ونقرأ في سورة لقمان قول الحق تبارك وتعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [لقمان: 10]، وفي سورة فصلت: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } [فصلت: 10]. وفي سورة ق: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ ق: 7]، وفي سورة المرسلات: { أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 25-27]. انظر إلى ( شامخات )، لم يهمل القرآن الكريم الإشارة إلى ارتفاع الجبال فوق سطح اليابسة... وفي سورة النازعات: { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 30-33].
عملية الدحو هذه يتخيل بعض الناس أنها ( التكوير )، وهذا غير صحيح، لأن ابن عباس ( عليهما رضوان الله ) حينما سئل: ما معنى ( دحاها ) ؟ قال: فسرها ما جاء بعدها: { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا}، والعلم يؤكد الآن أن كل الغلاف الغازي للأرض، وكل ما على الأرض من ماء وفي غلافها من بخار ماء كله من جوف الأرض، انظروا إلى دقة التعبير القرآني: { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا}، ولم يصل العلماء إلى هذا التصور إلا في العقود القليلة الماضية، فقد كانت هناك تصورات كثيرة مختلفة لأصل ماء الأرض، نقرأ في سورة الغاشية قول ربنا تبارك وتعالى: { أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية: 17-19].
أصل الماء هو من جوفها الشكل التالي يبين بركان يخرج منه بخار الماء يتساقط على شكل أمطار
وانتصاب الجبل على سطح اليابسة إنما هو من أعظم المعجزات، فالجبل بارتفاعه البسيط فوق سطح الأرض يندفع بنحو 10 – 15 ضعف هذا الارتفاع ليخترق الغلاف الصخري للأرض، ثم يطفو في هذه الطبقة، طبقة لدنة منصهرة عالية الكثافة عالية اللزوجة، فتحجبه بذلك قوانين الطفو، وهي التي تؤدي إلى انتصابها فوق سطح الأرض، ولولا هذا ما قام الجبل على الإطلاق، ولذلك فإن ربنا يشير إلى هذا في الآية: { أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية: 17-19].
نطالع في سورة فاطر إشارة لطيفة جداً، يقول فيها الحق تبارك وتعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر: 27-28]. لماذا هذه الألوان ؟ لأن الغالبية العظمى من مادة غلاف الأرض إما مكونة من صخور جرانيتية يغلب عليها اللون الأبيض أو الأحمر بدرجات متفاوتة، أو صخور قيعان البحار والمحيطات وهي صخور داكنة سوداء يغلب عليها الحديد والماغنسيوم، وهذه حقائق لم يدركها الناس إلا في سنوات متأخرة للغاية، ويغطي ذلك بساط رقيق من الصخور الرسوبية ومن التربة، لكن الغالبية العظمى من الأرض بين هذه الألوان الثلاثة، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلفة ألوانها: هذه مادة القارات، وغرابيب سود هذه مادة قيعان البحار والمحيطات، والصخور التي تنطلق من فوهات البراكين، هذه أعظم تقسيمات للصخور.
الآية الأخيرة في هذه المجموعة هي آية حركة الجبال، ونقرأها في سورة النمل: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } [النمل: 88]، وهذه كناية لطيفة إلى دوران الأرض حول محورها أمام الشمس، إن كل الإشارات القرآنية إلى حركة الأرض عبارة عن إشارات تأتي في صياغة لطيفة لا تذهل ولا ترهب الناس في وقت تنزل القرآن الكريم، يفهم منها أهل العصور المتتالية منذ زمن التنزيل بقدر استطاعته، وتبقي الحقيقة القرآنية صحيحة، فكل إشارة إلى كروية الأرض، وإلى دوران الأرض، وإلى حركات الأرض المختلفة، إشارة لطيفة لا يفزع أهل البادية في وقت نزول القرآن الكريم منها.
هذه المجموعات الأربع من الآيات هي المجموعات التي تتعلق بالطبيعة العلمية البحتة للجبال، وهناك، كما أشرت، قضايا كثيرة أخرى عَرَضْتُ لها، أما بقيت الآيات فلا يتسع المقام لتناولها، لأنها تخرج عن عنوان المحاضرة وهو ( المدلول العلمي للجبال )، وأردت بذلك أن أؤكد على أن الإعجاز العلمي للقرآن حقيقة ثابتة لأن القرآن كلام الله الذي أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته، وحينما يشير الخالق إلى خلقه لا بد أن تكون هذه الإشارات هي الحق المطلق الذي لا يمكن للعلم البشري مهما أوتي من أسباب الفتح أن يتجاوز هذا الفهم، ولذلك لو وعى المسلمون هذه الحقيقة لسبقوا غيرهم من الأمم في اكتشاف الكثير من سنن الكون وحقائقه، ولكن يبقى لنا دور مهم في الإشارة إلى هذه القضايا تثبيتاً لإيمان المؤمنين، ودعوة للمشركين والكافرين بأسلوب إثبات الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، وهو من أعظم أساليب الدعوة إلى الله في عصرنا هذا.
ودعوني أذكر لكم أنه في مؤتمر موسكو للإعجاز العلمي في العام الماضي، فقد دعينا لهذا المؤتمر في مثل هذا الشهر (أغسطس من العام الماضي )، وموسكو كانت عاصمة الإلحاد، وعاصمة دولة حكمتها الشيوعية 74 سنة، دولة كانت تحارب معنى ( لا إله إلا الله ) وحاولت أن تقضي على أي وجود إسلامي، على الرغم من كثافة المسلمين في ديارها، هذه الدولة حينما طرح هذا الموضوع فيها إذ بأحد كبار العلماء الروس يقف في المؤتمر ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإذ بأربعة من المترجمين أتوا ليشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وقد بلغنا ونحن في مكة المكرمة أن عدد العلماء الروس الذين شهدوا أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، بالبحوث القليلة التي طرحت في هذا المؤتمر، وصل إلى 27 من قمم العلماء، فأقول يا إخواني: هذا هو منهج الدعوة