أنماط الكذب عند الأطفال / الجزء الخامس
كتاب "الكذب في سلوك الأطفال"
وإذا كان الأبُ بحكم قوامته على شؤون الأسرة مسؤولاً عن توفير الاستقرار الأُسري، والهناء العائلي لزوجته وأبنائه في جو يقومُ على إشاعة الاطمئنان والثقة المتبادلة والفهم والتَّقدير لظُرُوف كُلِّ فرد في الأُسرة، ومعاونة الصِّغار على حل مُشكلاتهم في جوٍّ يظلله الحبُّ والمودة - فإنَّ لنا في رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - في هذا المضمار الأُسوة الحسنة، جاء في الصَّحيحين، عن أنس – رضي الله عنه – قال: "خدمت النبي - صلَّى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال لي أف قط، ولا قال لشيء صَنَعْتُه: لِمَ صنعتَه؟ ولا لشيء تركته لِمَ تركته؟"؛ وفي رواية لأبي نعيم قال أنس: "فما سبني - صلى الله عليه وسلم - قط، ولا ضربني من ضربة، ولا انتهرني، ولا عَبَس في وجهي، ولا أمر في أمر فتوانيت فيه فعاقبني عليه، فإنْ عاتبني عليه أحد من أهله، قال: دعوه، لو قدر شيء كان".
فأيَّة سماحة؟ وأيُّ حلم؟ وأي صبر؟ وأي عطف؟... إنَّه لو قدر لبيوتنا أن تنعم بقَدْر يسير مِمَّا كان عليه سيد البريَّة لهان كلُّ صعب، ولما وجد صغير من صغارنا سبيلاً يقوده إلى سلوك الكذب خشية اللَّوم أو العقاب.
وروى ابن سعد، عن عائشة - رضي الله عنها - أنَّها سُئلت: كيف كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - إذا خلا في بيته؟ فقالت: "كان ألينَ النَّاس، بسَّامًا ضحَّاكًا، لم يُرَ قطُّ مادًّا رجليه بين أصحابه"؛ وذلك لعظيم أدبه وكمال وقاره عليه الصلاة والسلام.
إنَّ هذا النَّموذج الأبوي يُمثِّل دروسًا كبيرة للآباء والأمهات والمُعلمين، وكلِّ من يتولَّى مسؤوليَّة الرِّعاية والقيادة لغيره من التَّابعين؛ فاللين والابتسام والضَّحك إذا ما ساد جوَّ البيت أو جوَّ الفصل مع عدالة في المُعاملة، قَطَع كلَّ طريق على الرَّهبة والخوف والتقوقع واللُّجوء إلى الأساليب المَرضيَّة، ومنها الكَذِب سبيلاً لتَفَادي المحاسبة.
إنَّ برنامج التربية السليمة للطفل – كما يحدده الإسلام – برنامج يقوم على التنشئة السويَّة على الصدق، والابتعاد عن الكذب، على أساس من الاقتناع الداخلي بأنَّ الكذب في الأقوال والأعمال سلوكٌ سيِّئ، ينتهي بصاحبه إلى نتائج سيِّئة في الدُّنيا والآخرة، وإذا تربَّى الطِّفل على الصِّدق عاش حياة هانئةً تتوافر له فيها الصحَّة النفسيَّة باعتبارها؛ كما جاء في تعريف مُنظمة الصحة العالمية WHO : "حالة من الرَّاحة الجسميَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة، وليست مُجرد عدم وجود المرض".
يبدأ برنامج التنشئة الإسلاميَّة للطفل مع بناء الأسرة، واختيار الزَّوجة، وبناء بيت الزَّوجيَّة، وينطلق تنفيذه الفعلي مُنذُ ساعة ميلاد الطِّفل، وهو برنامج متدرج، يستمر مع مراحل تعليم الطفل، حتَّى يجد نفسه قد واكب إعداده لعمل يتولَّى أمانته، ألاَ وهو عمل في أسرة؛ تكوينًا لها ورعاية وتوجيهًا واستعدادًا للعطاء من أجل إعداد الطِّفل المُسلم الصَّادق مع نفسه .
وهذا البرنامج يعتمدُ على أُسُس علميَّة مُؤكدة تعتمد على قواعد من أهمها:
- اختيار الزَّوجة الصَّالحة التي نشأت في بيت طيب.
- غرس القيم الإسلاميَّة لدى الطِّفل مُنذُ ميلاده.
- حماية الطِّفل من الخوف والقهر والظُّلم في الأسرة والمدرسة.
- إشباع حاجات الطِّفل المادية من الطَّعام والشَّراب، والمعنويَّة من عطف وحنان وقَبول حسن.
- إعداد الآباء والأمَّهات إعدادًا طيِّبًا دينيًّا وعلميًّا وتربويًّا؛ فهما القدوة والمثل الأعلى للطفل.
- يكون المربُّون للطفل قُدوة طيِّبة لا يكذبون في أقوالهم وأعمالهم.
- يكون ما يقدَّم للطفل من مَواد ثقافيَّة وتعليمية مُعدًّا إعدادًا جيِّدًا يتَّفقُ وتعاليم الإسلام الحكيم وفْقَ ما جاء بالقرآن الكريم، وصحيح سنة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - وسيرة صحابته رضوان الله عليهم أجمعين.
- الأخذ بكلِّ جديد عصري مفيد في علوم التربية والصحة النفسية، والعلوم التي تُعنى بالطِّفل وتربيته؛ حتَّى تتوافر له الحماية والوقاية من الأمراض النَّفسيَّة، على أن يكون ذلك الجديد مُتفقًا وتعاليم الإسلام.
- الإشراف الفني الدقيق على كلِّ ما يقدم للطِّفل من مواد ثقافيَّة وألعاب تربويَّة.
- إعداد الحدائق الجميلة والنوادي الرياضية والثقافية؛ لتشبع حاجات الأطفال الجسمية والعقلية والنفسية.
نصائح إلى الآباء والمعلمين والمربين لحماية الطفل من الكذب وغيره من المشكلات السلوكية الأخرى
يحرصُ أولياء الأمور من الآباء والأمَّهات حرصًا شديدًا على وقاية أطفالهم من المشكلات السلوكيَّة التي يُعدُّ الكذب من أخطرها، وفي النَّصائح سيجد هؤلاء الآباء وغيرهم ما يفيدهم كثيرًا في تحقيق هذا الهَدَف وفْقَ مبادئ الشَّرع الحنيف وقواعد علوم التَّربية والصحة النفسيَّة.
- عامل ابنك برفق وأشعره بعطفك؛ طفلُك كائن صغير ناشئ، والعالم حوله أكبر منه بكثير جدًّا، وهو عالم يكتشفه الطفل، ويحاول دائمًا أن يتعرَّفَه على مراحل مُتدرجة بِما يتناسب مع نُمُوِّه الجسمي والعقلي والانفعالي والاجتماعي والخلقي، وأنت ولا شك تعلم أن هذا النمو مستمٌر مطرد، يستمرُّ في حياة الطِّفل حتَّى يصل إلى مرحلة البُلُوغ والشباب.
ولكي تساعد طفلك على أن يجتاز هذا المراحل في أمن وثِقَة واطمئنان؛ فلا بُدَّ لك من أن تعاملَه برفق؛ ليشعر بالأمان، وليخطو خطوات أخرى نحو اكتشاف العالم المجهول حوله، العالم الذي صنعه الكبار بما فيه من قيود ونُظُم ومسموحات ومَمْنوعات وحدود موضوعة على السلوك الفردي، لا يجوزُ أن يتخطاها الإنسان وإلاَّ عُدَّ شاذًّا أو خارجًا على العُرْف والتقاليد عالم يسمح بالتقاليد التي رسمها المجتمع فيسمح له بالحديث في أمور مُعيَّنة، ويمنعه من الحديث في أمور أخرى، عالم يسمحُ له بأنْ يكتشف إلى حدود معيَّنة، ويُحرِّم عليه أنْ يتخطَّى تلك الحدود عالم يسمحُ له أن يتناول بيديه، ويفحص بحواسِّه أشياء معينة، على ألاَّ يتعدَّاها إلى غيرها، عالم يقف أحيانًا مُتصلبًا أمام الدَّوافع الفطريَّة والحاجات النفسية للطفل؛ فيحول دون إشباعها أو التنفيس عنها متذرعًا بمنطق الكبار، وقوانين الكبار، والنظم الموضوعة لهم، بل إنَّ لعب الطفل نفسه، وحريته في اختيار ما يلعب به، وجمع ما يتوق، وحيازة ما يشغف به - تخضع كلها لتدخُّل الكبار وأوامرهم؛ فهذا ممنوع، وذلك جائز، وهذا مباح، وعلى الطفل في كثير من الأحيان أن يقْبَل ذلك دون مناقشة، ولا ينبغي للوالدين أن يسمحا للطفل بحرية مُطلقة دون قيود؛ لأنَّ ذلك لا يتَّفق مع مُقتضيات التَّربية الاجتماعيَّة والخلقية السليمة، التي تفرض على المُربِّي أن يساعد الطِّفل على حُب هذه القيم وامتصاصها؛ لكي ينشأ التنشئة الاجتماعيَّة الصحيحة.
ولذلك فينبغي على أولياء الأمور - آباء وأمهات - أن يحوطوا أبناءهم بالرِّفق والمحبة والعطف؛ فإن ذلك يخطو بالطِّفل خُطُوات كبيرة نحو التَّربية الاجتماعيَّة الصحيحة؛ مثل: الرَّبت على كتف الطفل أو تقبيله؛ عن عائشة أمِّ المؤمنين - رضي الله عنها - قالت: "قبَّل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - الحسن والحسين ابْنَي علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي؛ فقال الأقرع: إنَّ لي عشرة ما قبلت منهم أحدًا؛ فنظر إليه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثُمَّ قال: ((من لا يَرحم لا يُرحم))؛ متَّفق عليه.
وللحديث بقية إن شاء الله
,mr,g