وداعًا صديقة عمري
بدر الحسين
أمي الحبيبة، يا أيتها الغالية :
اشتقتُ إليكِ كثيرًا.
اشتقتُ لرؤيتكِ، لوقع خطواتكِ الوقور التي تملأ الدار أُنْسًا، لسماع صوتك النَّدِي، الذي يلون دنيانا بالفَرَح والأمان.
لَكَمْ أنا مشتاقٌ للون الحنَّاء في يديكِ، والكحل في عينيكِ، والضفائر الشَّقراء التي تختبئ تحت شالك المنسوج من خيوط الطُّهْر.
اشتقتُ إليكِ - يا حبيبتي - اشتياقَ الظامئ لقطرة الماء، واشتياق البلبل الحبيس لأفق السماء، واشتياق الفطيم للرضاع.
يا الله، كم كنتُ أسعد عندما كنتُ أضع رأسي بين يديك، وأنت ترفعينَ شعري الكثيف عن جبيني بأناملك الحنونة، ثم تُمَررينها بين خصلات شعري.
كنتُ أنظر في عينيكِ فأرى الحقيقة، حقيقة المحبَّة، والتضحية، والإخلاص.
أقرأ في عينيكِ يا أمي قصائد تعجز السطور عن حملها، والحروف عن نَسجها، والفضاء الرحب عن احتوائها.
اشتقتُ لسماع صوتك الدافئ الهامس، بتُّ أتخيله، وأتخيَّل أنَّك تنادينني وأنا أجيب، ما أعذبَ صوتَك يا أمي! ما أنبله! ما أغلاه! ما أقربه!
صوتك يا أمي يملؤني بالأمل، يزرع في نفسي وُرُودًا تنشر عبير الطمأنينة الشذي في أرجاء جسدي المُحبّ.
صوتكِ يا أمي معزوفة الفرح على أوتار القلب العاشق، وقافية الحنين الصَّادقة في قصائد المحبِّين.
آه يا أمي، ما أجملَ تلك الأيامَ، عندما كنَّا نلتف حولك كالفراشات حول الغصن المزهر! كنتِ تحكين لنا الحكاياتِ المسلِّيةَ في ليالي الشتاء الطويلة، كنا ننصتُ إليكِ بمحبة، وأنت تَتَحَدَّثين عن طفولة كلِّ واحد منَّا، وعن عبثنا المحبب، ومواقفنا المُضْحكة.
أمي، يا أغلى من رُوحي التي بين جنبي، وأغلى من فَلَذات كبدي، وأحلى في نظري من كلِّ شيء.
أمي الحبيبة:
شريط الذِّكريات الجميل يمرُّ أمام ناظري، وكلَّما حاولتُ أن أوقفه لأتأمَّل وجهك الجميل، وحديثك الرقيق، أفلت منِّي، أتابع الشريط فأراكِ جالسةً على مقربة من سفرة الطعام، تسخنين لنا الخبز على المدفأة، ولا تأكلين حتى نشبعَ جميعًا، وعندما نقول لك: كلي معنا يا أمي، كنتِ تقولين بكل نُبل: كلوا، لا عليكم منِّي، مائة صحة يا روحي.
لَكَم كنتُ أشعر بالفرح عندما يزورني أصدقائي، فتبادرينهم بالسلام، والسؤال عن أهاليهم، ثم تُحَضِّرين لنا الضيافة والطعام!
كان أصدقائي يهنِّئونني، ويقولون: ما أطيبَ أمَّك! وما أروعها!
سلَّم الله روحك يا أمي، وجَعَلَها في عِلِّيين، تُرَفْرف كحمامة بيضاء في سماء الجنَّة.
عندما كنتُ أُسافر إلى الجامعة، كنت ألْمَح الدُّموع في عينيكِ، كنت تضعينَ لي في الحقيبة ما لذَّ وطاب، رغم قلَّة ذات اليد، وعندما أعود منَ الجامعة في نهاية الأسبوع، كنت تنتظرينني عند موقف سيارات القرية، وعندما أدخل إلى البيت تعدِّين لي الطعام اللذيذ، ولَكَم كنتُ أفرح عندما كنت تخبِّئين لي صحنًا مِنَ الأكلات التي أحبُّها!
ومرَّت الأيام يا أمي وافْترقنا، فبتُّ أقضي معظم شهور السنة بعيدًا عنك، كنتُ أتَّصل بك فتغصّين بالبكاء، كنتِ تقولين لي دائمًا: كفى غربةً يا بنيَّ، تعالَ وعِش بيننا لنراكَ، ورَحِم الله الشاعر الذي قال:
تَمَتَّعْ مِنْ حَبِيبِكَ كُلَّ يَوْمٍ فَلاَ تَدْرِي الْفِرَاقُ مَتَى يَكُونَ
ليتني سمعتُ كلامكِ يا أمي، ولكن لا أحد يعلم الغيب.
صديقة عمري:
يشهد الله يا أمي أنَّني أقدِّر كل صديقاتك، أفكِّر في دعوتهنَّ إلى منزلي، عندما أرى واحدة منهنَّ يخفق قلبي خفقاتٍ سريعةً، كأنَّه رآكِ أنتِ، أودُّ أن أقبِّل رأسَ كلِّ أمٍّ؛ إكرامًا لكِ.
صديقة عمري:
رحلتِ، ولكن لوحة خيالي تزدحم بذكراكِ، فتعيشين بيننا، وتسافرين معنا، وتصومين معنا، وتفطرين معنا.
أبنائي يحفظون كلماتِكِ الأصيلةَ، وأمثالَك المعبِّرة، ودعواتِك التي كنتِ ترددينها عندما تستيقظين قبل الفجر.. يا لَها من دعوات جميلة! وأُبَشِّرُك يا أمي أنني أحفظها، وأرددها كلَّما استيقظتُ في الصباح:
اللهم أصبحنا على بابك، وليس على باب طلابك.
اللهم سترتَ على ما مضى، فاسْتُر على ما بقي.
اللهم كَفَيْتنا من خيرك، لا تحوجْنا لغيرك.
اللهم يا رب البيت، برحمتك احتَمَيْت.
أصبحتِ المقبرة في نظري مكان أُنس بعدما سكنتِها، وكلما ذهبتُ لزيارتك قبَّلت الثرى الذي يحوي جسدك الطاهر، ودعوت الله لكِ، ولكل موتى المسلمين بالمغفرة.
هل تسمعين صوتي عندما أجلس على ضفَّة مثواك المبارَك، وأدعو الله لك بالمغفرة والرحمة، وأحدِّثك عن غربتي وعن أبنائي؟
هل تذكرين يوم حدَّثتك عن نجاح ابنتي غالية في الصف الثاني، وطلوع أسنان محمد، وسلامة تميم من الحادث الذي تعرَّض له؟
لا أزال أحتفظ بسبحتك الجميلة، التي أحسُّ في كل حبة من حباتها بدفْء أصابعك، وصدى صوتك، وعندما قالوا لي: ضع هذه الأغراض بعيدًا عنكَ؛ كي تنسى أمك. فقلتُ: ومَن قال لكم: إنني أريد أن أنسى أمي؟!
لن أنساكِ يا أمي، سأظل أذكرك ما كرَّ الجديدان، وما غرَّدت البلابل على الأفنان، رحمك الله يا أمي، وجعل مثواك الجنة، وجمعنا بكِ في مستقرِّ رحمته في الجنان.