تقرير هارفارد: التخدير العام أم الموضعي.. أيهما أفضل؟
وفقا لنوع العمليات ووضع المريض الطبي وسرعة الجراحين
كمبردج (ولاية ماساشوستس الأميركية): «الشرق الأوسط»
كان الأطباء قبل استخدام المخدر (الطبي) يسكنون آلام المرضى بواسطة الكحول والأفيون، وحتى عن طريق فصد الدم. ولكن لم تكن أي وسيلة من هذه الوسائل مرضية، وظلت الردهات الجراحية أمكنة للكوابيس، حيث كانت تجري الاستعانة بالقوة الجسدية الغاشمة لتطويع المرضى الذين يتأوهون من آلامهم خلال عملياتهم الجراحية. لكن في العام 1840 شرع كل شيء يتغير. وشرع الجراحون وأطباء الأسنان بإجراء التجارب بمختلف العوامل والعقاقير بما في ذلك اوكسيد النتروز والكلوروفورم. وفي 16 أكتوبر عام 1864 اجرى الدكتور جون سي. وارن عملية بنجاح على مريض خدره بواسطة الإيثر أمام جمهور مذهول قائلا لهم: «ايها السادة هذه ليست خدعة ولا عملية احتيال».
ولا تتعلق مشكلتنا اليوم بانواع المواد المخدرة، بل اختيار الصالحة منها مع الاستراتيجيات المتبعة في هذا الخصوص.
الخدر الموضعي
* يجري حقن المخدر تحت الجلد لإيقاف الألم عند مصدره. ولكون هذه العقاقير لا تميز بين هذا الأمر وذلك، فانها تؤثر على انتقال المعلومات الحسية الأخرى. وهذا هو السبب الذي يولد الخدر الموضعي نتيجة حقن المخدر، اضافة الى دوره الرئيسي في إزالة الألم.
وكان الكوكايين اول مخدر موضعي استخدم في جراحة العيون عام 1880. لكن «بروكاين» Procaine المعروف أكثر بالاسم التجاري «نوفوكاين» Novocain جرى تطويره كبديل. لكن اليوم حل «ليدوكاين» lidocaine محل «بروكاين» لكون مفعوله اسرع بكثير ويدوم فترة أطول. وبخلاف «بروكاين» يجري امتصاصه عبر الجلد، وهو جزء نشيط من عوامل التخدير الموضعية.
إيقاف الألم
* ان كانت المخدرات الموضعية تقوم باستهداف الألم فورا «في موضعه» فإن المخدرات «الجهوية» تفعل ذلك أثناء انتقالها الى الأعصاب التي تؤدي الى الدماغ. ومع ذلك فانها لا تعدو في أغلبيتها مخدرات موضعية زيدت قدرتها، بحيث يظل المريض واعيا. والهدف منها هو وقف الألم، لكنها تقود، مثل جميع المخدرات الموضعية الأخرى، الى ان يفقد المريض الأحاسيس الأخرى. والعقاقير تتشابه ايضا، وعقار «ليدوكاين» يشكل العقار الأساسي. وعادة تكون الجرعات كبيرة، بحيث تصحبها عوامل أخرى مثل بعض زمر الـ «إيبنفرين»epinephrine الذي يعرف أكثر تحت اسم «أدرينالين» لشد الاوعية الدموية، كي لا ينتشر الـ «ليدوكاين» الى الأجزاء الأخرى من الجسم.
واغلاق الأعصاب هو شكل من أشكال التخدير الموضعي. ويجري حقن «ليدوكاين» أو ماشابه ذلك قرب العصب، او مجموعة الأعصاب (ولكن ليس عليها مباشرة). وتقوم البقعة المخدرة بوقف ومنع اشارات الألم. ومثال على ذلك فان التخدير الموضعي للاستئصال السباتي (التدخل الجراحي لإزالة اللويحات من الشرايين السباتية) ينطوي على تخدير الضفيرة العنقية، وهي مقطع لتقاطع العديد من الأعصاب في جانب العنق.
وتعتبر الحقن التي تزرق في منطقة فوق الجافية من العمود الفقري، والحقن الفقرية (التي تدعى أحيانا بحقن «سد الألم الفقري وإغلاقه») من فئة عمليات التخدير الموضعي بحيث يجري انزال العقاقير الى الحبل الشوكي لتخدير الجزء السفلي من الجسم لأغراض التدخل الجراحي والتوليد وعمليات استبدال الحوض والركبة.
وتشمل حقن الفقريات التي هي أقوى تأثيرا بعض الشيء من الحقن الاولى، على حقنة واحدة. لكن في ما يتعلق بحقنة فوق الجافية فيجري حقن العقار بكميات قليلة على مراحل زمنية عبر قسطرة تدخل في الجزء فوق الجافي من الحبل الشوكي. ويمكن ترك القسطرة في موضعها لفترات طويلة مما يجعل هذا الأسلوب الخيار المفضل لعمليات الولادة والعمليات التي تتطلب زمنا طويلا، وفي الأحوال التي يكون فيها الألم الذي يعقب العمليات الجراحية، شديدا.
التسكين الخفيف للآلام
* الكثير من الناس مروا بتجربة التسكين الخفيف لدى إخضاعهم لإجراءات تنظير القولون، إذ يشعرون بنوع من الراحة والسكون. والعقار هنا يجري حقنه وريديا، وهو يكون عادة من نوع «بينزوديازيباين ميدازولام» (فيرسيد Versed) وعقار تسكين الألم «فينتالين». لكن بعض الناس حساسون جدا الى «فيرسيد» وقد يفقدون وعيهم لفترة من الزمن.
التخدير الكامل
· وبدلا من تسكين الألم عبر الطريق الذي يمر به، يقوم التخدير العام بـ «إغلاقه» كلية في وجهته الأخيرة، أي تلك الأجزاء من الدماغ المسؤولة عن تلقي الشعور بالألم. ويستخدم أطباء التخدير عملية التخطيط الكهربائي للدماغ (إي إي جي) و«اختبارات الإثارة» لرصد النشاط الدماغي، بحيث لا يغرق المريض في العمق تماما. من هنا فهم يقومون برصد التنفس أيضا (لكون العقاقير التي تفقد المرضى وعيهم تخمد أيضا ردود الفعل التنفسية). ويجري ادخال أنبوب تنفس للمساعدة، رغم أن ليس جميع المرضى يكونون بحاجة إليه، علما أن التخدير العام هو أكثر سلامة وأمانا مما كان عليه في السابق. واليوم يجري حقن العقاقير الخاصة بالتخدير العام عن طريق الوريد في ظهر اليد. ويعتمد المزيج الدقيق للعقاقير المخدرة هذه على المريض ذاته، وعلى الأسلوب المعتمد، والمستشفى، والطبيب المخدر.
وهنا المكونات الخمسة النموذجية لها:
& ـ «بينزوديازيباين» تعطى أولا لتسكين توتر المريض ووضعه في حالة النعاس والخمول. وبعضهم يشعر كما لو انه في حالة السكر والترنح، وهذا منطقي جدا لكونه يعمل على مستقبلات GABA في الدماغ تماما مثلما تفعل المشروبات الكحولية. و«ديازبام» (الفاليوم) هو واحد من هذه العقاقير، لكن المفضل هو «فيرسيد» لكونه أقوى من السابق ثلاثة أضعاف. والمرضى الذين يخضعون الى التخدير الموضعي يجري حقنهم وريديا بـ «فيرسيد» لكي يظلوا هادئين ومرتاحين.
& ـ عوامل الحث: هذه العقاقير تجعلك تفقد الوعي، فـ «البربيتورات» مثل الـ «ميثوهيكسيتال» (بريفيتال)، أو «تيوبينتال» (بينتوثال) التي تعرف ايضا بـ «صوديوم بينتوثال»، أو «عقار الحقيقة»، غالبا ما تستخدم. ولكل عقار هنا ايجابياته وسلبياته، فـ «البربيتورات» مثلا تفقد الوعي وتعرقل عملية التنفس وتبطئه وتزيد نبضات القلب، وهذه جميعها مزيج خطير. لكنها تضيق أيضا الأوعية الدموية وهو أمر مهم في بعض الأحيان.
& ـ مرخيات العضلات: يعود أمر ارتخاء العضلات الى مادة «كيورير» المستخلصة من نوع من النبات التي يستخدمها صيادو أميركا الجنوبية في اسهمهم لشل الفرائس. وفي عمليات التخدير تقوم هذه العقاقير بالحفاظ على المريض في حال السكون، وبالتالي إمكانية ادخال انبوب تنفس الى صدره.
& ـ «أبيودس»: حتى المرضى الفاقدين للوعي يتفاعلون عادة مع منبهات الألم اذا لم تستخدم مادة الـ «أبيودس». ومن أنواعها التقليدية الـ «مورفين» الذي يقوم بإطلاق الـ «هستيمين» الذي يخفض ضغط الدم. لكن الـ «فينتانيل» هو أقوى 100 مرة من الـ «هستيمين» ولا يؤثر على ضغط الدم، لذلك يستخدم في الغالب.
& ـ العقاقير والعوامل المستنشقة: هذه العقاقير تفقد المرضى الوعي. ويعتبر اوكسيد النتروز (غاز الضحك) من أوائل المخدرات الذي ما يزال يستخدم خلافا لـ «الإيثر» الذي هو شديد الالتهاب، وله العديد من المشتقات بما فيها «إنفلورين» (أيثرين) و«سيفوفلورين» (أوتاين).
التخدير الموضعي والعام
* الشخصية الرئيسية في رواية فيليب روث الأخيرة «كل انسان» التي تحكي قصة عملية استئصال لويحة من الشريان السباتي، اختار التخدير الموضعي بدلا من العام عندما سأله الأطباء ما الذي يفضله، لأنه اعتبر ذلك أكثر أمانا. «لكنه كان مخطئا» كما كتب روث، لكون التقطيع والتجريف حصلا قريبا من الأذن بحيث أمكن سماع كل حركة قامت بها الأدوات. وهذا الكلام فيه شيء من الحقيقة كما تقول الدكتورة ليندا أغليو مديرة قسم التخدير في مستشفى برغهام النسائي المتعاون مع جامعة هارفارد.
وتقول الدكتورة أغليو ان هناك العديد من العمليات التي يمكن القيام بها سواء عن طريق التخدير الموضعي العام، بما في ذلك عمليات استبدال الحوض والركبة، وأحد مميزات التخدير الموضعي، ومنها في منطقة فوق الجافية تخفض مخاطر التخثر الدموي. لكن الأمر يختلف بالنسبة الى الاستئصال السباتي.
ويعتقد اطباء التخدير الذين يفضلون التخدير الموضعي انهم قادرون في هذه الحالة على رصد ومراقبة عمل الدماغ لدى المرضى الواعين، وبالتالي القاء الأسئلة عليهم للتأكد من أنهم في وضع جيد، وبالتالي اختبار عمل أعصاب الحركة لديهم عن طريق الطلب منهم الضغط على كرة مطاطية. وهم في هذه الحالة لا ينبغي عليهم استخدام انبوب يدخل داخل الرغامى الذي قد يسبب انخفاض الضغط الدموي، الذي هو امر خطير بالنسبة الى المرضى الذين يشكون من أمراض قلبية وشريانية.
أما الأطباء المؤيدون للتخدير العام فبإمكانهم رصد عمل الدماغ واستخدام وسيلة رصد كهربائية الدماغ (إي إي جي) والاختبارات الأخرى التي لا تتطلب مريضا واعي الشعور. والحد من كمية المخدر هو هدف مشروع كما يقولون، لكن تقف في قبالته عوامل توتر المريض تماما مثل رواية روث الذي كان بإمكانه سماع ما يجري. وتتساءل الدكتورة أغليو «ما الفائدة من إبقاء المريض واعيا اذا كان معرضا لمشكلة قلبية بسبب التوتر الذي قد يمر به؟» كما انه يتوجب على الأطباء أن يكونوا دقيقين في عدم زيادة الأدوية المهدئة مثل «فيرسيد» نظرا لأنها تخفض ضغط الدم وتبطئ عملية التنفس. وتقول أغليو انه ينبغي الأخذ بعين الاعتبار طباع المريض وتوجيهه نحو التخدير العام اذا كان من النوع الذي يتوتر بسرعة. ثم هناك مسألة الجراح الذي يقوم بالعملية وسرعته في العمل، وبالتالي استبعاد مسألة التخدير الموضعي لدى إجراء عمليات الاستئصال السباتي إذا كان الجراح بطيئا. وقالت انه من حسن الحظ أن العمليات السباتية هي من الدقة ما يجعل الجراحين يدركون إمكانات مهاراتهم تماما، ولا يرغبون في هذه الحالة المخاطرة، فإذا كانوا سريعين أشاروا إلى التخدير الموضعي، أما اذا كانوا من النوع البطيء أشاروا الى التخدير العام.
وقد يختار بعض المرضى التخدير العام على التخدير في منطقة فوق الجافية حتى لا يكونوا واعين أثناء إدخال القسطرة داخل المثانة، بحيث لا يمكنهم التبول في مثل هذه الحالة. لكن التخدير العام لا يعني في هذه الحالة أيضا انه يمكن تفادي عملية القسطرة، لكون التخدير العام أو الموضعي يقوم بتخدير الأعصاب المسئولة عن التبول.
منقووووووول